الحروب الإدراكية... معركة السيطرة على وعي الإنسان| العشرات

الأربعاء 5 نوفمبر 2025 - 17:06 بتوقيت غرينتش

على مدى عقودٍ كانت الخرائط تُعاد رسمها بالقنابل؛ أما اليوم فتعادٌ عبر الخوارزميات والديون الدولية وبرمجيات التجسّس التي تُشغّلها غرف مظلمة — من الكلاشنكوف وصولاً إلى ذكاءٍ اصطناعيّ متقدّم، تغيّرت أدوات الحرب، لكن الهدف بقي واحدًا: إباحة السيطرة. الفارق أن المعركة اليوم تدور في عقل المواطن ووعيه، فتُصبح السيطرة على الفكر أخطر من السيطرة على الأرض.

خاص الكوثر - العشرات 

إذا تتبّعنا تطور الحروب عبر الأجيال، نرى انتقالًا من مواجهاتٍ تقليدية إلى صراعاتٍ معقّدة:

في بدايات الصراع كانت الحروب “حديدية” وجهاً لوجه، حيث البنادق والمدفعية كانت سلاح القتال، وكان معيار النصر من يقبِض على الأرض.

مع الثورة الصناعية والحربين العالميتين دخلت الأسلحة الثقيلة كالمدافع والطائرات والدبابات، وصارت القدرة على التصنيع والإمداد عاملاً حاسماً يفوق الشجاعة الفردية.

الحرب الخاطفة أو “حروب البرق” في الحرب العالمية الثانية تميّزت بالسرعة والمناورة والاختراق، فغيّرت مفهوم ميادين القتال.

الجيل الرابع من الحروب، الذي برز منتصف القرن العشرين، اعتمد على نزاعاتٍ غير متماثلة: جيش نظامي ضدّ حركات مسلّحة أو مقاومة، مع تكتيكات الاستنزاف والكمائن والحرب النفسية والإعلامية (كما رأينا في فيتنام وأفغانستان والعراق).

الجيل الخامس جعل من الإعلام والاقتصاد والثقافة ساحات قتال؛ العقوبات الاقتصادية والشائعات ووسائل التواصل الاجتماعي صارت أدواتَ حربٍ فعّالة تؤثر في وعي الشعوب.

أما الجيل السادس والأحدث — فجاءت حروب الذكاء الاصطناعي: طائراتٌ مسيّرة، روبوتات قتالية، خوارزميات تختار الأهداف أسرع من الإنسان وأنظمةٌ ذاتية. الأخطر هنا هو ما تصفه الدراسات بـ"الحرب الإدراكية"؛ حيث يصبح الدماغ البشري ومجموع خياراته وقراراته ميدان القتال.

الحرب الإدراكية لا تهدف فقط إلى تعطيل اقتصاد أو إسقاط نظام؛ بل تستهدف عمليات التفكير نفسها لدى الأفراد والمجتمعات. اليوم قد تُدار الحروب عبر تطبيقٍ على هاتف أو عبر محتوىٍ رقمي يقود الجمهور لاتخاذ قراراتٍ تخدم أجندات خارجية. وفي العالم العربي، ثمة استهداف مضاعف يستخدم تقنيات من أجيالٍ مختلفة في وقتٍ واحد: هجومات عسكرية مباشرة متزامنة مع حملات استنزاف اجتماعي وثقافي عبر الاستهلاك والترفيه الموجّه.

التهديد القادم يتمثّل في دمج الذكاء الاصطناعي بمنصات التواصل لصناعة حملاتٍ إدراكية قادرة على تحييد المقاومة الاجتماعية وتهيئة مجتمعاتٍ لاتخاذ قراراتٍ تناسب مصالح جهاتٍ خارجية. النتيجة الممكنة: دولٌ لا تُقهر عسكريًا تنهار داخليًا لأن وعي شعوبها تعرض للالتهاب والتشويه.

السؤال الحاسم اليوم: كيف نواجه؟ هل نمتلك الوعي الكافي أم أن قرارات الناس توُجه من قِبَل قوىٍ خَفية؟ هل الاستهلاك والثقافة السياسية مُفروضان أم من اختيارنا؟ المواجهة تبدأ ببناء وعيٍ جماعيٍ واعٍ، يقظٍ، قادرٍ على تمييز أذرع الحرب الإدراكية ومقاومتها.