اخترنا هذا البحث للعلامة المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي(رحمه الله) (1352هـ) تحقيق السيد محمد علي الحكيم،مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث- نظرًا لأهميته وتجدّد موضوعه. وقد قام بنشره مركز الأبحاث العقائدية.
التوسل والاستغاثة والاستشفاع:
لكن التوسل بغير الله سبحانه، والاستغاثة، والاستشفاع -المعمولة عند المسلمين، في جميع الأزمان، بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء- ليس بمعنى التشريك في أفعال الله تعالى.
بل الغرض أن يفعل الله فعله ويقضي الحاجة ببركتهم وشفاعتهم، حيث إنهم مقرّبون لديه، مكرمون عنده، ولا مانع من أن يكونوا سببًا ووسيلة لجريان فيضه.
هذا، ومن المركوز في طباع البشر توسلهم في حوائجهم التي يطلبونها من العظماء والملوك والأمراء إلى المخصوصين بحضرتهم، ويرون هذا وسيلة لنجح حاجتهم، وليس ذلك تشريكًا لذلك المخصوص مع ذاك الأمير أصلاً.
فلماذا يُعزَل أنبياء الله والأولياء من مثل ما يصنع بمخصوصي العظماء؟! إِنْ هذا إلا اختلاق، وقد قال الله عز وجل: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} ([71]).
فاستثنى، وقال سبحانه: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ([72]).
ومما ذُكر ظهر أن قول القاضي: “ودعائها مع الله” يعني الضرائح، افتراء على المسلمين من جهتين:
الأولى: دعوى تشريك غير الله معه في الدعاء:
مع أنهم لا يدعون إلا الله الواحد القهار، ويتوسلون بأوليائه إليه.
وإن كان المراد أنهم يدعون الله عز وجل لقضاء الحاجات، ويدعون أولياءه ليكونوا شفعاء لديه سبحانه، فاختلفت جهتا الدعوة، فهذا حق وصدق، ولا مانع منه أصلاً.
بل الوهابية ما قدروا الله حق قدره إذ قالوا: لا ضرورة في استنجاح الحاجة عنده إلى شفيع! ولا حسن في ذلك، ويرون ذلك أمرًا مرغوبًا مطلوبًا بالنسبة إلى غيره سبحانه! فإذا كان لهم حاجة إلى الناس، يتوسلون في نجاحها إلى المقربين لديهم، ولا يرون في ذلك بأسًا! فما بال الله عز وجل يقصر به عما يصنع بعباده؟!
الجهة الثانية: إضافة الدعوة إلى الضرائح:
والحال أنهم لا يدعون الضريح للشفاعة، بل يدعون صاحب الضريح، لأنه ذو مكان مكين عند الله وإن كان متوفى {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ …}([73]).
وبالجملة: فالتوسل وطلب الشفاعة من أولياء الله أمر مرغوب فيه عقلاً وشرعًا، وقد جرت سيرة المسلمين عليه قديمًا وحديثًا.
* فعن أنس بن مالك، أنه قال: “جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت المواشي وتقطعت السبل، فادع الله. فدعا الله، فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة. فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، تهدّمت البيوت وتقطّعت السبل وهلكت المواشي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم على ظهور الجبال والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر. فانجابت عن المدينة انجياب الثوب”.
رواه البخاري في الصحيح([74])، وروى عدة أحاديث في هذا المعنى يشبه بعضها بعضًا([75]).
* وفيه أيضًا: حدثنا عبد الله بن أبي الأسود، [حدثنا حرمي]، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: “قالت أمّي: يا رسول الله، خادمك [أنس]، ادع الله له.
قال: اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته”([76]).
* وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم، عن الجعد بن عبد الرحمن، قال: سمعت السائب بن يزيد يقول: “ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابن أختي وجع.
فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه مثل زر الحجلة”([77]).
* وروى البيهقي، أنه جاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، استقِ لأمتك، فسقوا([78]).
* وروى الطبراني وابن المقرئ وأبو الشيخ، أنهم كانوا جياعًا، فجاؤوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، الجوع الجوع، فأشبعوا([79]).
* ونقل أن آدم لما اقترف الخطيئة قال: يا ربي أسألك بحق محمد لما غفرت لي.
فقال: يا آدم، كيف عرفته؟
قال: لأنك لما خلقتني نظرت إلى العرش فوجدت مكتوبا فيه: “لا إله إلا الله، محمد رسول الله” فرأيت اسمه مقرونًا مع اسمك، فعرفته أحبّ الخلق إليك. صحّحه الحاكم([80]).
* وعن عثمان بن حنيف، أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت صبرت فهو خير لك، وإن شئت دعوت. قال: فادعه. فأمره أن يتوضأ ويدعو بهذا الدعاء:
“اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبي الرحمة، يا محمد، إنني توجهت بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي. اللهم شفعه”. رواه الترمذي والنسائي([81])، وصحّحه البيهقي وزاد: فقام وأبصر([82]).
* ونقل الطبراني، عن عثمان بن حنيف، أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة، فكان لا يلتفت إليه، فشكا ذلك لابن حنيف، فقال له: اذهب وتوضأ وقل:… وذكر نحو ما ذكر الضرير.
قال: فصنع ذلك، فجاء البواب فأخذه وأدخله إلى عثمان، فأمسكه على الطنفسة وقضى حاجته([83]).
* وفي رواية الحافظ، عن ابن عباس، أن عمر قال: اللهم إنا نستسقيك بعمِّ نبينا، ونستشفع بشيبته، فَسُقوا([84]).
الشفاعة:
وأخبار الشفاعة متواترة:
* روى البخاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: من سمع الأذان ودعا بكذا حلّت له شفاعتي يوم القيامة([85]).
* وروى مسلم، عنه صلى الله عليه وسلم أنه: ما من ميت يموت يصلي عليه أمة من الناس يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه([86]).
* وروى الترمذي والدارمي، عنه (صلى الله عليه وآله) أنه: يدخل بشفاعتي رجال من أمتي أكثر من بني تميم([87]).
* وروى الترمذي، عن أنس، أنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة.
فقال: أنا فاعل.
قلت: فأين أطلبك؟
قال: أولاً على الصراط.
قلت: فإن لم ألقك.
قال: عند الميزان.
قلت: فإن لم ألقك؟
قال: عند الحوض، فأني [لا] أخطئ هذه المواضع([88]).
وقد نقل عن الصحابة، بطرق عديدة، أن الصحابة كانوا يلجأون إلى قبر النبي (صلى الله عليه وآله)، ويندبونه في الاستسقاء ومواقع الشدائد وسائر الأمراض([89]).
ولا يخفى أن وفاة المتوسل به لا تنافي التوسل أصلاً، فإن مكانه عند الله لا يزول بالموت، كما هو واضح.
هذا، مع أنهم في الحقيقة أحياء كما ذكر الله عز وجل في حال الشهداء، فالشهداء إذا كانوا أحياء فالأنبياء والأولياء أحق بذلك.
هذا كله مع أن الأرواح لا تفنى بالموت، والعبرة بها لا بالأجساد، وإن كان أجساد الأنبياء لا تبلى كما نص عليه في الأخبار([90]).
* وفي خبر النسائي وغيره، عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: إن لله ملائكة سيَّاحين في الأرض يبلغونني من أمتي السلام([91]).
والأخبار في هذا الباب كثيرة([92]).
* وأخرج أبو نعيم في “دلائل النبوة” عن سعيد بن المسيب، قال: لقد كنت في مسجد رسول الله فما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الأذان من القبر([93]).
* وأخرج سعد في “الطبقات” عن سعيد بن المسيب، أنه كان يلازم المسجد أيام الحرة، فإذا جاء الصبح سمع أذانًا من القبر الشريف([94]).
* وأخرج زبير بن بكار في “أخبار المدينة” عن سعيد بن المسيب، قال: لم أزل أسمع الأذان والإقامة من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الحرة حتى عاد الناس([95]).
* ونقل أبو عبد الله البخاري، أن الشهداء وسائر المؤمنين إذا زارهم المسلم وسلم عليهم عرفوه وردوا عليه السلام([96]).
* وروى الثعلبي في تفسيره، وابن المغازلي الشافعي الواسطي في “المناقب” أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما حملهم البساط وصلوا إلى موضع أهل الكهف، فقال: سلّموا عليهم، فسلّموا عليهم، فلم يردوا، فسلّم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته([97]).
* ونقل أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي، أن عيسى (عليه السلام) لما دفن مريم ÷ قال: السلام عليك يا أماه، فأجابته من جوف القبر: وعليك السلام حبيبي وقرة عيني… إلى آخره([98]).
* وروى الحاكم، عن سالم بن أبي حفصة، قال: توفي أخ لي فوضعته في القبر وسوّيت عليه التراب، ثم وضعت أذني على لحده فسمعت قائلاً يقول له: من ربك؟ فسمعت أخي يقول بصوت ضعيف: ربي الله… إلى آخره([99]).
والأخبار التي يُستدل بها على الدعوى أكثر من أن تحصى.
الفصل الثالث: في البناء على القبور
اعلم أن البناء على قبور الأنبياء والعباد المصطفين تعظيم لشعائر الله، وهو من تقوى القلوب، ومن السنن الحسنة، حيث إنه احترام لصاحب القبر، وباعث على زيارته، وعلى عبادة الله عز وجل – بالصلاة والقراءة والذكر وغيرها – عنده، وملجأ للزائرين والغرباء والمساكين والتالين والمصلين. بل هو إعلاء لشأن الدين.
* وعن النبي (صلى الله عليه وآله): “من سنَّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها”([100]).
وقد بني على مراقد الأنبياء قبل ظهور الإسلام وبعده، فلم ينكره النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا أحد من الصحابة والخلفاء، كالقباب المبنية على قبر دانيال (عليه السلام) في شوشتر([101])، وهود وصالح ويونس وذي الكفل (عليهم السلام)، والأنبياء في بيت المقدس وما يليها، كالجبل الذي دفن فيه موسى (عليه السلام)، وبلد الخليل مدفن سيدنا إبراهيم (عليه السلام).
بل الحِجْر المبني على قبر إسماعيل (عليه السلام) وأمه رضي الله عنها.
بل أول من بنى حجرة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) باللبن -بعد أن كانت مقومة بجريد النخل- عمر بن الخطاب، على ما نصّ عليه السمهودي في كتاب “الوفا”([102]) ثم تناوب الخلفاء على تعميرها([103]).
* وروى البنائي([104]) واعظ أهل الحجاز، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده الحسين، عن أبيه علي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: “والله لتقتلن في أرض العراق وتدفن بها.
فقلت: يا رسول الله، ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها؟
فقال: يا أبا الحسن، إن الله جعل قبرك وقبر ولديك بقاعًا من بقاع الجنة [وعرصة من عرصاتها]، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه، وصفوة من عباده، تحن إليكم [وتحتمل المذلة والأذى]، فيعمرون قبوركم، ويكثرون زيارتها تقربًا [منهم] إلى الله تعالى، ومودة منهم لرسوله [أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي، الواردون حوضي، وهم زواري غدا في الجنة].
يا علي، من عمر قبوركم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس…” إلى آخره([105]).
ولا يخفى أن جعل مُعمِّر قبورهم كالمعين على بناء بيت المقدس، دال على أن تعظيم مراقدهم تعظيم لشعائر الله سبحانه.
ونقل نحو ذلك -أيضًا- في حديثين معتبرين، نقل أحدهما الوزير السعيد بسند، وثانيهما بسند آخر([106]).
والسيرة القطعية – من قاطبة المسلمين – المستمرة، والإجماع، يغنيان عن ذكر الأحاديث الدالة على الجواز.
وما أعجب قول المفتين: “أما البناء على القبور فممنوع إجماعًا”!
فإن مذهب الوهابية -وهم فئة قليلة بالنسبة إلى سائر المسلمين- لم يظهر إلا قريبًا من قرن واحد، ولا يتفوه أحد من المسلمين -سوى الوهابية- بحرمة البناء، فأين الإجماع المدعى؟!
ودعوى ورود الأحاديث الصحيحة على المنع -لو ثبت- غير مجدٍ لإثبات الحرمة، لأن أخبار الآحاد لا تنهض لدفع السيرة والإجماع القطعي، مع أن أصل الدعوى ممنوع جدًا.
فإن مثل رواية جابر: “نهى رسول الله أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ”([107]) لا تدل على التحريم، لعدم حرمة الكتابة على القبور ووطئها، فذلك من أقوى القرائن على أن النهي في الرواية غير دال على الحرمة، ولا نمنع الكراهة في غير قبور مخصوصة.
مع أن الظاهر من قوله: “يبنى عليها” إحداث بناء كالجدار على نفس القبر، فإن بناء القبة وجدرانها بعيدة عن القبر، ليس بناء على القبر على الحقيقة، وإنما هو نوع من المجاز، وحمل اللفظ على الحقيقة حيث لا صارف عنها معين، مع أن النهي عن الوطء يؤكد هذا المعنى، لا الذي فهموه من الرواية.
وأما الاستدلال على وجوب هدم القباب بحديث أبي الهياج، فغير تام في نفسه -مع قطع النظر عن مخالفته للإجماع والسيرة- لوجوه:
* الأول: إن الحديث مضطرب المتن والسند.
فتارة يذكر عن أبي الهياج أنه قال: “قال لي علي” كما في رواية أحمد عن عبد الرحمن([108]).
وتارة يذكر عن أبي وائل، أن عليا قال لأبي الهياج([109]).
ورواه عبد الله بن أحمد في “مسند علي” هكذا: “لأبعثنك فيما بعثني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أسوي كل قبر، وأن أطمس كل صنم”([110]).
فالاضطراب المزبور يسقطه عن الحجية والاعتبار.
* الثاني: إنه من الواضح أن المأمور به في الرواية لم يكن هدم جميع قبور العالم، بل الحديث وارد في بعث خاص وواقعة مخصوصة، فلعل البعث قد كان إلى قبور المشركين لطمس آثار الجاهلية -كما يؤيده ذكر الصنم- أو إلى غيرها مما لا نعرف وجه مصلحتها، فكيف يتمسك بمثل هذه الرواية لقبور الأنبياء والأولياء؟!
قال بعض علماء الشيعة من المعاصرين: إن المقصود من تلك القبور، التي أمر عليٌّ (عليه السلام) بتسويتها، ليست هي إلا تلك القبور التي كانت تتخذ قبلة عند بعض أهل الملل الباطلة، وتقام عليها صور الموتى وتماثيلهم، فيعبدونها من دون الله.
إلى أن قال: وليت شعري لو كان المقصود من القبور -التي أمر علي (عليه السلام) بتسويتها- هي عامة القبور على الإطلاق، فأين كان (عليه السلام) -وهو الحاكم المطلق يومئذ- عن قبور الأنبياء التي كانت مشيّدة على عهده؟! ولا تزال مشيّدة إلى اليوم في فلسطين وسورية والعراق وإيران، ولو شاء تسويتها لقضى عليها بأقصر وقت.
فهل ترى أن عليًا (عليه السلام) يأمر أبا الهياج بالحق وهو يروغ عنه فلا يفعله؟!
انتهى ما أردنا نقله منه.
* الثالث: قال بعض المعاصرين من أهل العلم: لا يخفى من اللغة والعرف أن تسوية الشيء من دون ذكر القرين المساوي معه، إنما هو جعل الشيء متساويًا في نفسه، فليس لتسوية القبر في الحديث معنى إلا جعله متساويًا في نفسه، وما ذلك إلا جعل سطحه متساويًا.
ولو كان المراد تسوية القبر مع الأرض، لكان الواجب في صحيح الكلام أن يقال: إلا سويته مع الأرض. فإن التسوية بين الشيئين المتغايرين لا بد فيها من أن يُذكَر الشيئان اللذان تراد مساواتهما.
وهذا ظاهر لكل من يعطي الكلام حقه من النظر، فلا دلالة في الحديث إلا على أحد أمرين:
أولهما: تسطيح القبور وجعلها متساوية برفع سنامها، ولا نظر في الحديث إلى علوها، ولا تشبث فيه بلفظ (المشرِف) فإن الشرف إن ذكر أنه بمعنى العلو، فقد ذكر أنه من البعير سنامه، كما في القاموس وغيره([111])، فيكون معنى (المشرِف) في الحديث هو: القبر ذو السنام، ومعنى تسويته: هدم سنامه.
وثانيهما: أن يكون المراد: القبور التي يجعل لها شرف من جوانب سطحها، والمراد من تسويته أن تهدم شرفه ويجعل مسطحًا أجم، كما في حديث ابن عباس: أمرنا أن نبني المدائن شرفًا والمساجد جمًا([112]).
وعلى كل حال، فلا يمكن في اللغة والاستعمال أن يراد من التسوية في الحديث أن يساوى القبر مع الأرض، بل لا بد أن يراد منه أحد المعنيين المذكورين.
وأيضًا: كيف يكون المراد مساواة القبر مع الأرض، مع أن سيرة المسلمين المتسلسلة على رفع القبور عن الأرض؟!
وفي آخر كتاب الجنائز من جامع البخاري، مسندًا عن سفيان التمار، أنه رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنمًا([113]).
وأسند أبو داود في كتاب الجنائز عن القاسم، قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أُمّه، اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة([114]).
وأسند ابن جرير، عن الشعبي، أن كل قبور الشهداء مسنمة([115]).
انتهى ما أردنا نقله منه.
وأقول بعد ذلك: لو كان قوله: “مشرفًا” بمعنى عاليًا، فليس يعمّ كل قبر ارتفع عن الأرض ولو بمقدار قليل، فإنه لا يصدق عليه القبر العالي، فإن العلو في كل قبر إنما هو بالإضافة إلى سائر القبور، فلا يبعد أن يكون أمرًا بتسوية القبور العالية فوق القدر المتعارف المعهود في ذلك الزمان إلى حد المتعارف، وقد أفتى جمع من العلماء بكراهة رفع القبر أزيد من أربع أصابع([116]).
ولتخصيص الكراهة -لو ثبت- بغير قبور الأنبياء والمصطفين من الأولياء وجه.
* الرابع: لو سلم أي دلالة في الرواية، فلا ربط لها ببناء السقوف والقباب ووجوب هدمها، كما هو واضح.
وأما قول السائل: “وإذا كان البناء في مسبّلة -كالبقيع- وهو مانع… إلى آخره”.
فقد أجاب بعض المعاصرين عنه بما حاصله:
أن أرض البقيع ليست وقفًا، بل هي باقية على إباحتها الأصلية، ولو شككنا في وقفيتها يكفينا استصحاب إباحتها.
وأقول: بل وقفيتها غير مانع عن البناء، لأنها موقوفة مقبرة على جميع الشؤون المرعية في المقابر، ومنها: البناء على قبور أشخاص مخصوصين كالأصفياء، فإنَّ البناء على القبور ليس أمرًا حديثًا، بل كان أمرًا متعارفًا من قديم الأيام.
الفصل الرابع: في الصلاة عند القبور، وإيقاد السرج عليها
الصلاة عند القبور:
وقد جرت سيرة المسلمين -السيرة المستمرة- على جواز ذلك.
وأما حديث ابن عباس: “لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج”([117]) فالظاهر والمتبادر -من اتخاذ المسجد على القبر-: السجود على نفس القبر، وهذا غير الصلاة عند القبر. هذا لو حملنا المساجد على المعنى اللغوي.
ولو حملناه على المعنى الاصطلاحي، فالمذموم اتخاذ المسجد عند القبور، لا مجرد إيقاع الصلاة، كما هو المتعارف بين المسلمين، فإنهم لا يتخذون المساجد على المراقد، فإن اتخاذ المسجد ينافي الغرض في إعداد ما حول القبر إعانة للزوار على الجلوس لتلاوة القرآن وذكر الله والدعاء والاستغفار، بل يصلّون عندها، كما يأتون بسائر العبادات هنالك.
هذا، مع أن اللعن غير دال على الحرمة، بل يجامع الكراهة أيضًا.
إيقاد السرج:
وأما إيقاد السرج، فإن الرواية لا تدل إلا على ذم الإسراج لمجرد إضاءة القبر، وأما الإسراج لإعانة الزائرين على التلاوة والصلاة والزيارة وغيرها، فلا دلالة في الرواية على ذمه.
وإن شئت توضيح ذلك فارجع إلى هذا المثل:
إنك لو أضعت شيئًا عند قبر، فأسرجت هناك لطلب ضالتك، فهل في تلك الرواية دلالة على ذم هذا العمل؟! فكذلك ما ذكرناه.
هذا، مع ما عرفت أن اللعن -حقيقة- هو البعد من الرحمة، ولا يستلزم الحرمة، فإن عمل المكروه -أيضًا- مبعد من الله، كما أن فعل المستحب مقرب إليه عزّ وجلّ.
هذا، وذكر بعض العلماء في الجواب: أن المقصود من النهي عن اتخاذ القبور مساجد، أن لا تتخذ قبلة يصلى إليها باستقبال أي جهة منها، كما كان يفعله بعض أهل الملل الباطلة.
ومما يدل عليه ما رواه مسلم في “الصحيح”: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل يوم القيامة([118]).
وقال صلى الله عليه وسلم: لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد([119]).
فإنه من المعلوم لدى الخبراء بتقاليد أولئك المبطلين، أنهم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد على الوجه المذكور، وذلك بجعل ما برز من أثر القبر قبلة: وما دار حوله من الأرض مُصلَّى، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير إنه خشي أن يتخذ مسجدًا([120]).
فلو كان اتخاذه مسجدًا على معنى إيقاع الصلاة عنده -وإن كان التوجه بها إلى الكعبة- لما كان الإبراز سببًا لحصول الخشية، فإن الصلاة -كذلك- غير موقوفة على أن يكون للقبر أثر بارز، وإنما الذي يتوقف على بروز الأثر هو: الصلاة إليه نفسه. انتهى.
ثم استشهد بكلام النووي في شرح صحيح مسلم، قال:
“قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدا خوفا من الافتتان به، فربما أدّى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية، ولما احتاجت الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كَثُر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة -رضي الله عنها- بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله، لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام ويؤدي إلى المحذور. ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر، ولهذا قال في الحديث: (ولولا ذلك لأبرز قبره، غير إنه خشي أن يتخذ مسجدًا) والله العالم بالصواب”([121]). انتهى.
ثم استظهر العالم المومى إليه أن يكون الإسراج المنهي عنه:
إما الإسراج على قبور أولئك المبطلين الذين كانوا يتخذونها قبلة، كما ربما يشهد بذلك سياق الحديث المومى إليه.
أو الإسراج الذي يتخذه بعض جهلة المسلمين على مقابر موتاهم في ليال مخصوصة، لأجل إقامة المناجاة عليها والنوح على أهلها بالباطل.
الفصل الخامس: في الذبائح والنذور
اعلم أن من المسائل المسلمة الواضحة الضرورية عند طوائف المسلمين:
اختصاص الذبح والتقرب بالقربان به سبحانه، فلا يصح الذبح إلا لله.
وهكذا أمر النذر، فمن المؤكد المتفق عليه بين طوائف المسلمين أن النذر لا يصح إلا لله، ولذا يذكر في صيغته: لله عليَّ كذا.
أما الذبح عن الأموات، فلا بد أن يكون لله وحده وإن كان عن الميت، وكم بين الذبح عن الميت والذبح له، والممنوع هو الثاني لا الأول.
قال بعض العلماء -رحمه الله- في “المنهج”([122]): وأما من ذبح عن الأنبياء والأوصياء والمؤمنين، ليصل الثواب إليهم -كما نقرأ القرآن ونهدي إليهم، ونصلي لهم، وندعو لهم، ونفعل جميع الخيرات عنهم- ففي ذلك أجر عظيم.
وليس قصد أحد من الذابحين للأنبياء أو لغير الله سوى ذلك.
أما العارفون منهم فلا كلام، وأما الجهال فهم على نحو عرفائهم.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذبح بيده وقال: اللهم هذا عنِّي وعن من لم يضَحِّ من أمتي. رواه أحمد وأبو داود والترمذي([123])… إلى آخره.
وقال بعض المعاصرين: أما التقرب إلى الضرائح بالنذور ودعاء أهلها مع الله، فلا نعهد واحدا من أوباش المسلمين وغيرهم يفعل ذلك، وإنما ينذرون لله بالنذر المشروع، فيجعلون المنذور في سبيل إعانة الزائرين على البر، أو للإنفاق على الفقراء والمحاويج، لإهداء ثوابه لصاحب القبر، لكونه من أهل الكرامة في الدين والقربى… إلى آخره.
وهذا أوان اختتام الرسالة، وأرجو أن ينفع الله بها، إنَّّه هو المتفضل المنان.
الهوامش :
([71]) سورة البقرة: 255.
([72]) سورة الأنبياء: 28.
([73]) سورة آل عمران: 169 و170.
([74]) صحيح البخاري 2/37.
([75]) صحيح البخاري 2/34-38.
([76]) صحيح البخاري 8/93.
([77]) صحيح البخاري 8/94، والحجلة: بيت كالقبة يستر بالثياب ويكون له أزرار كبار؛ انظر: لسان العرب 11/144 (حجل).
([78]) انظر قريبًا منه في الوفا 4/1374.
([79]) انظر: وفاء الوفا 4/1380.
([80]) المستدرك على الصحيحين 2/615 باختلاف يسير؛ وانظر: دلائل النبوة -للبيهقي- 5/489؛ ووفاء الوفا 4/1371-1372.
([81]) سنن الترمذي 5/569 ح3578 باختلاف يسير؛ ورواه النسائي في كتاب “اليوم والليلة”؛ وفي سنن ابن ماجة 1/441 ح1385 باختلاف يسير أيضًا.
([82]) انظر: وفاء الوفا 4/1372.
([83]) المعجم الكبير 9/30-31 ح8311 باختلاف يسير؛ وانظر: وفاء الوفا 4/1373.
([84]) دلائل النبوة -للأصبهاني- 2/725 ح511 باختلاف يسير.
([85]) صحيح البخاري 1/159 باختلاف يسير.
([86]) صحيح مسلم 2/654 ح947، باختلاف يسير.
([87]) سنن الترمذي 4/626 ح2438، وسنن الدارمي 2/328، باختلاف يسير فيهما.
([88]) سنن الترمذي 4/621-622 ح2433، الوفا بأحوال المصطفى 2/824 باختلاف يسير.
([89]) انظر: وفاء الوفا 4/1372-1387.
([90]) سنن ابن ماجة 1/524 ح1637، وانظر مؤداه في وفاء الوفا 4/1350-1356.
([91]) سنن النسائي 3/43، مسند أحمد 1/441، سنن الدارمي 2/317.
([92]) انظر: وفاء الوفا 4/1349-1354.
([93]) دلائل النبوة -للأصبهاني- 2/724-725 ح510 باختلاف يسير.
([94]) الطبقات الكبير 5/132.
([95]) انظر: وفاء الوفا 4/1356.
([96]) انظر: وفاء الوفا 4/1351.
([97]) مناقب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): 232-233 ح280، وفيه: “علي (عليه السلام)” بدل “النبي (صلى الله عليه وآله)”.
([98]) لم أعثر على تخريج له في المصادر المتوفرة لدي.
([99]) المستدرك على الصحيحين، وروي قريب منه وبسند آخر وباختلاف يسير في كتاب من عاش بعد الموت: 86 و87 ح42 و43.
([100]) ورد الحديث باختلاف يسير في: مسند أحمد 4/361؛ سنن ابن ماجة 1/74-75 ح203-208 باب من سن سنة حسنة أو سيئة؛ مشكل الآثار 1/94 و96 و481.
([101]) هي إحدى مدن مقاطعة خوزستان في إيران، ومعربها: تستر، انظر معجم البلدان 2/29 ( تستر ).
([102]) وفاء الوفا 2/481.
([103]) المصدر السابق 2/481-647.
([104]) في المصدر: التباني.
([105]) فرحة الغري: 77، وعنه في بحار الأنوار 100/120 ح22.
([106]) فرحة الغري: 78، وعنه في بحار الأنوار 100/121 ح23 و24.
([107]) سنن الترمذي 3/368 ح1052.
([108]) مسند أحمد 1/96.
([109]) مسند أحمد 1/129.
([110]) مسند أحمد 1/89 و111.
([111]) انظر مادة (شرف) في: القاموس المحيط 3/157؛ تهذيب اللغة 11/341؛ لسان العرب 9/171.
([112]) غريب الحديث 4/225؛ الفائق 1/234؛ لسان العرب 9/171، والجمّ: هي التي لا شرف لها.
([113]) صحيح البخاري 2/128.
([114]) سنن أبي داود 3/215 ح3220، ولاطئة: أي لازقة بالأرض. انظر: لسان العرب 15/247 (لطا).
([115]) كنز العمال 15/736 ح42932.
([116]) منتهى المطلب 1/462.
([117]) سنن أبي داود 3/218 ح3236؛ سنن النسائي 4/95.
([118]) صحيح مسلم 1/376 ح528.
([119]) مسند أحمد 2/285.
([120]) مسند أحمد 6/80؛ صحيح مسلم 1/376 ح529.
([121]) شرح النووي على صحيح مسلم 5/13-14.
([122]) ورد مضمونه في: منهج الرشاد: 160.
([123]) مسند أحمد 3/356 و362؛ سنن أبي داود 3/99 ح2810 وليس فيه: “اللهم”؛ ونحوه في سنن الترمذي 4/91 ح1505.
المصدر: الاجتهاد