ولو فرضنا أنّه لا يصحّ وصفه بالمؤمن فهل هذا يعني أنّه كافر؟
بعد كلّ ذلك، ماذا لوم آمنّا نحن (بغضّ النظر مَن نحن) بدين أو بمذهب معيّن، وكان للدين أو المذهب مقرّراته العقائديّة، وأحكامه الشرعيّة، وطقوسه الخاصّة. ثم جاء مَن يقول عن نفسه أنّه مؤمن، وخالفنا في وجهتنا الدينيّة أو المذهبيّة، فهل نسمّيه كافرًا؟ وبأيّ معنًى.
* * *
لا شكّ أنّ هذه الأسئلة تتردّد على لسان كثير من الناس. وهي، برغم عفويّتها ودقّتها، تحمل طابعًا عموميًّا، لا يخلو من بعض المصادرات. من ذلك، على سبيل المثال، القول بإمكانيّة أن يخالف صاحب القلب المؤمن حكم ربّه وأمره. فهذا من الأمور الخلافيّة التي يُرجَّحُ فيها أنّ الإيمان هو تصديق وثبات في الولاء والتزام سلوكيّ بمقتضى ما يريد الله سبحانه، في حال كنّا نتحدّث حول الإيمان بالله سبحانه. لذا فالقول بإيمان قلب إنسان يخالف عمله أو ما يؤمن به من توحيد الله وفضله وحقّه سبحانه بإصدار التعاليم التي توجب علينا الالتزام، هذا فيه مصادرات قائمة على نظرة عامّيّة سطحيّة. وواقع الأمر أنّ الأديان تفرّق بين الإيمان بمعناه الدقيق وهو ذاك النزوع الفطريّ نحو الله الذي يستلزم الإقرار والإعلان والالتزام ، وبين الإيمان بما هو حالة اعتراف حياديّة عند الإنسان بوجود مصدر خالق للإنسان والوجود وللحياة. ففي الحالة الثانية تحدّث، حتّى العرفاء فضلًا عن كثير من علماء الأخلاق الدينيّة، عن أنّ طبيعة الإنسان تقتضي التوجّه نحو الكمال المطلق، بل تنحّى نحو طلب الكمال المطلق. وهذا أمر يتساوى فيه كلّ بني البشر. أمّا خلافهم واختلافهم فهو في تحديد ماهيّة ذاك الكامل الذي يطلبونه ويرغبون فيه. فبعضهم إنّما يريد الله، وبعضهم يريد الهوى {أرأيت من اتّخذ الهه هواه}[1] وبعضهم يريد الإرث الدينيّ أو القبَليّ أو العائليّ…
وهكذا يختلف الناس في تشخيص الكامل، وإن كانوا يتّحدون في أصل طلب الكمال. لكن مثل هذا النزوع الإيمانيّ لا يسمّى إيمانًا دينيًّا، بل هو إيمان طبيعيّ، أو طبعيّ. أمّا الإيمان الدينيّ، فإنّه يربط المرء نزوعه الفطريّ نحو الكامل بمقرّرات دينيّة وأصول عقائديّة وقيميّة نابعة بالغالب من الوحي الإلهيّ، وشرط تسمية المتّصف بهذه الحالة “مؤمنًا” أن يكون مصدّقًا لما يؤمن به. وأن يكون ملتزمًا بمقتضى ذاك الإيمان.
لذا، ليس من الصحيح القول أنّ الإيمان الدينيّ أمرٌ، والالتزام أمر آخر.
وهذا من المسائل التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله {وجحدوا بها واستيقنَتها أنفسهم…}[2]. ومن هنا، تمّ تصنيف الجماعات ما بين منافق يُظهر ما لا يستبطن، فيعيش خللًا في شخصيّته الدينيّة. وبين مسلم أقرّ باللسان ولم يركن قلبه ويصدّق عقله ما أقرّ به لسانه، وبين كافر يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه الآخر، وبين إنسان سويّ وافق العقل عنده القلب والعمل، وهو المُسمّى بـ “المؤمن”.
وكي نكون واضحين تمامًا، قد ننظر للموضوع الإيمانيّ من زاوية دين محدّد. فحينها نقول أنّ المؤمن بهذا المعنى هو المُقرّ بعقائد وأحكام وقيم دينيّة خاصّة. فالمؤمن باليهوديّة هو غير المؤمن بالمسيحيّة، وهو غير المؤمن بالإسلام، لذا مَن خرج عن إيمانه الخاصّ، اعتبره كافرًا.
أمّا لو نظرنا إلى الموضوع من الزاوية الدينيّة العامّة، فكلّ مؤمن بمقرّرات دينيّة سماويّة هو مؤمن {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا{[3].
عليه، فإنّ الكافر تارةً يكون بمعنى المجرم الذي يستحقّ القصاص، وهو الذي أعلن عن مكافحته للدين ولقيمه ولو بالمعنى الخاصّ للإيمان الدينيّ، وقد يكون معنى الكافر، الشخص الذي لم يذهب إلى القول الإيمانيّ الذي ينصّ عليه هذا الدين، دون أن يُفسد الخلاف في الودّ قضيّةً، ويُعاد الأمر الى الله ليحكم بين المختلفين.
أمّا أن نجعل حكم كلّ كافر واحدًا، فهذا ما لا تساعد عليه الأحكام ويأباه الطبع الإنسانيّ والأخلاقيّ. من هنا، وإن كان في كلّ دين عند كلّ جماعة دينيّة أحكامًا تكفيريّة. إلّا أنّها استثناء للأصل. وهذا الاستثناء ليس على مستوًى واحد. وعندما يصبح الأصل عند الجماعات الدينيّة تكفير الآخرين والحكم على الكلّ بمقتضى واحد وهو القتل مثلًا، حينها ننعت هذه الجماعة بالتكفيريّة.
[1] سورة الفرقان، الآية 43.
[2] سورة النمل، الآية 14.
[3] سورة المائدة، الآية 48
تحقيق الشيخ شفيق جرادي