عن الإمام السجاد عليه السلام:
"اللهم ألحقني بصالح من مضى واجعلني من صالح من بقي وخذ بي سبيل الصالحين وأعني على نفسي بما تعين به الصالحين على أنفسهم وأختم عملي بأحسنه".
1- ما هو سبيل الصالحين؟ الخلوة والاعتزال أم الحياة والنضال؟
يوجد انطباع سائد لدى الكثيرين أن أهل القلوب والسالكين لا يختلطون مع الناس وإنما يعتكفون في بيوتهم أو يعتزلون شؤون الحياة الدنيا ويتفرغون للقيام بوظائفهم العبادية ومناسكهم التي تستغرق المساحة الكبرى من حياتهم والوقت الأكبر من أعمارهم، والحقيقة مع الاعتراف بأن هذا ديدن البعض منهم.
إن هذا المنهج لا يتفق مع الشريعة جسداً وروحاً ولا شكلاً ومضموناً من منطلق أن اللَّه تعالى لم يخلق الخلق ليعيش كل واحد منفرداً وعازفاً في صومعة أو زاوية خربة وإنما كما جاء في التنزيل المبارك:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾1 لذلك لا يمكن حصر الرسالة الدينية في الحياة الفردية وإنما هي رسالة وقانون يحكم كل تفاصيل العالم ويفرض التزامات في شتى جوانب الحياة من اجتماع واقتصاد وسياسة وغير ذلك كما ورد: "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"2 وهو معنى خلافة الإنسان في الأرض، وسوف يسأل الإنسان يوم القيامة عن أي تقصير في أي ميدان من هذه الميادين، ويكفي شاهداً لبطلان منهج العزوف والاعتزال وعدم الخوض في سياسة العباد والبلاد، إن الذي كان عليه أرباب السلوك وأئمته بدءً من النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام هو على خلافه حيث كانوا يتصدون لسائر شؤون الحياة المطلوبة ويخوضون المعارك ويعمرون ما أمروا بإعماره وما من جدال إنهم القدوة والأسوة للسالكين.
2- هل يعني التحذير من اتخاذ الاعتزال مسلكاً المنع من الاختلاء باللَّه تعالى؟
لا يعني ذلك على الاطلاق حيث يوجد فرق بين أن يقضي الإنسان تمام عمره معتزلاً مبتعداً عن الحياة اليومية وبين أن يمارس دوره في المجتمع وإلى جنبه يخصص جزءاً من وقته للإختلاء بخالقه سبحانه في اناء الليل أو أطراف النهار فيلزم نفسه بالبقاء في مصلاه بين الطلوعين أو الغروبين أو في الأسحار لأداء نافلة الليل: ﴿إِنَّ نَاشِئَةاللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا﴾3 حيث تدل الاية الكريمة على أن النهار هو للتواصل والتفاعل سواء في العلاقات أو التجارات أو الصناعات وغير ذلك مما به السبح في المجتمع ويهدف ذلك إلى عملية تنظيم إلهي في توزيع الأوقات والإرشاد إلى الأنسب بحسب موضوعاتها الدنيوية والأخروية وكذلك موازنة الأعمال بالأهداف كما في الحديث: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لاخرتك كأنك تموت غداً" 4 وكذلك الاستواء على عدم الانقطاع والهجران لأحد العالمين الأول والاخر قال عز من قائل: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾5.
فالموقف الذي يمكن الانتهاء إليه أن ترك الدنيا بكل ما فيها وهجران ميدان الحياة هو أمر مرفوض وكذلك الركون إليها وإغفال جانب الاختلاء باللَّه والعمل على تهذيب النفس بالتفلت من برنامج الإسلام التربوي هو ممنوع أيضاً، فالصواب هو المتابعة في الاتجاهين معاً لأن كليهما مما لا يسوغ الاستغناء عنه يقول النبي صلى الله عليه وآله: "فإن العمل لا يتقبّل مع الهجران"6.
3- هل تبرّر المدرسة السلوكية الصحيحة في الإسلام المجاهدات المؤدية إلى إلجاء الاخرين أو قهرهم؟
إن ذلك مما لا يمكن الموافقة عليه لأنه يدخل في دائرة المخالفات المردوع عنها ليس في الفقه الأكبر فحسب بل في الأصغر كذلك ولأجل
أن تكون الصورة واضحة نعطي مثالاً: كما لو قرّر السالك القاطن في بلد شديد البرودة عدم استعمال وسائل التدفئة مع قدرته على ذلك بغية مجاهدة نفسه وعدم إعطائها سؤلها في أن تنعم بالدفء في الشتاء القارس فحكم على عائلته وأولاده بأن يتحملوا هذا العناء حيث يعيش الجميع في غرفة واحدة.إن هذا يعتبر خروجاً وليس سلوكاً لأنه مصادرة لإرادة الاخرين وإجبار لهم على ما يكرهون ويندرج تحت الإيذاء المحرم، وفي التاريخ نماذج كثيرة من أولئك وقد ابتلي أمير المؤمنين عليه السلام ببعضها كعاصم بن زياد وغيره ففي الرواية: قال له العلاء: "يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد قال: وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا قال: عليّ به فلما جاء قال: يا عُدَيّ نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك، أترى اللَّه أحلّ لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟! أأنت أهون على اللَّه من ذلك!
قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك.
قال عليه السلام: "ويحك إني لست كأنت إن اللَّه تعالى فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيّغ بالفقير فقره"7 ومن ذلك أن امرأة شكت زوجها إلى النبي صلى الله عليه وآله لأنه يجاهد نفسه بعدم مقاربتها فيمنعها حقّها فقال صلى الله عليه وآله: "لم يرسلني اللَّه بالرهبانية ولكن بعثني بالحنفية السمحة أصوم وأصلي وألمس أهلي، فمن أحب فطرتي فليستنّ بسنتي ومن سنتي النكاح"8.
4- هل أن البرنامج السلوكي خاص بمجموعة من الناس أو عام يمكن لكافة شرائح المجتمع الالتزام به؟
إن منهج الإسلام في تربية الإنسان ليس وقفاً على أي فئة من البشر وإنما يعتبر من تعاليمه السامية وخطوطه العامة التي أرسل بها النبي صلى الله عليه وآله كافةً "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فيكم"9 فإن جادة السلوك مفتوحة أمام الجميع لكن مع مراعاة أسسها ولوازم السير عليها والزاد الذي يجب حمله وسلاح المعرفة.
لذلك من الخطأ بمكان نفي القابلية لهذا الأمر وإنما من خلال المجاهدة والمثابرة تتكشف الغائبات عن المرء ويزداد نموه ويسرع في تقدمه كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾10.
- سورة الحجرات، اية 13
- الكافي، ج2، ص163
- سورة المزمل، ايات 7-6.
- البحار ، ج44، ص139.
- سورة القصص، الاية 77.
- مكارم الأخلاق، ص554.
- البحار، ج70، ص121.
- الوسائل، ج20، ص106.
- مستدرك الوسائل، ج11، ص187.
- سورة العنکبوت، الاية 69.
المصدر: المعارف