إن الفكر الإرهابي التكفيري في الخطاب المنسوب الى الإسلام، ليس وليد اليوم أو الظروف السياسية الإقليمية والدولية التي نمر بها، بل هو نتاج الإنحراف الفكري والسياسي والسلوكي لبعض الفئات التي ظهرت في عصر صدر الإسلام وما بعده.
وكان لظهورها أسباب ترتبط بالواقع السياسي الذي تعيشه، وبإسقاط تفسيراتها الجامدة والمأزومة والمسيسة للنص المقدس على هذا الواقع من أجل تسويغ سلوكياتها وإنحرافاتها وأهدافها السياسية. وكان الخوارج أحد أبرز الفئات التي عبّرت عن هذا اللون الفاقع من أزمة تفسير النص وإسقاط الأهداف الخاصة والرؤى السياسية على الخطاب الفكري. وكانت محصلة هذا النتاج أو الخطاب أن تقوم هذه الفئة الظلامية الإرهابية بالتحالف سراً مع الطغاة المتمردين على الشرعية الإسلامية المتمثلة بإمام الأمة علي بن إبي طالب (ع)، وتكفير الإمام وقتله غيلة وهو في محراب صلاة الفجر في بيت الله (تعالى).
وظهرت في فترات لاحقة فئات أخرى ذات مظاهر فكرية وكلامية ولكنها ترتبط بمشاريع سياسية وسلطوية، سوّغ بعضها تسويغاً شرعياً قتل الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السلام) بذلك الاسلوب الوحشي الهمجي. وقد كانت الفتن والأحداث والحروب والخصومات السياسية التي تستهدف بمجملها خط الإسلام الأصيل وتجلياته وتفسيراته الحقيقية في فترة خلافتي الإمام علي والإمام الحسن (عليهما السلام)، والتي انتهت بولادة السلطة الأُموية،سبباً في تبوء الفئات السياسية التي تتلفع بغطاء التفسيرات النصية مواقع رأسية ومهمة في الواقع الإسلامي. ولم تكتف هذه الفئات ومن يقف وراءها بالاجتهاد في مقابل النص المقدس، بل راحت تلوي عنق النص وتفسره تفسيرات قسرية وتبتدع عبر ذلك الأفكار والأحكام التي تفرضها على القرآن والسنة بالصورة التي تسوغ مواقفها الفكرية والسياسية المسبّقة. وبذلك أصبح النص المقدس تابعاً ومحكوماً، بدل أن يكون متبوعاً وحاكماً. وهو ماعبّر عنه الإمام علي (ع) بأبلغ تعبير حين قال واصفاً هؤلاء المنحرفين: «فاجتمع القوم على الفرقة، وافترقوا على الجماعة، كأنهم أئمةُ الكتاب وليس الكتاب إمامهم».
وإستكمالاً لجريمة الابتداع والتفسيرات المأزومة والمسيسة للنص وتسويغات المواقف السلطوية، فقد بدأت في هذه المرحلة أكبر عملية نصب واحتيال ضد السنة النبوية الشريفة، كان عنوانها الوضع في الحديث؛ إذ وضع المحدِّثون والرواة الكذبة آلاف الأحاديث والروايات ونسبوها الى رسول الله (ص)، لتحقيق الأهداف السياسية والتخريبية السابقة نفسها، والتي تمكِّن السلطات والفئات التكفيرية المرتبطة بها من تسويغ سلوكياتها الإرهابية التدميرية. وظلت ظاهرة الإرهاب التكفيري تتسع بشكل كبير حتى أصبحت بمثابة السيف الذي تشهره السلطة بوجه مخالفيها ومعارضيها. وإذا كانت السلطة والفئات السياسية المتمظهرة بالفكر قد كفّرت القرآن الناطق علي بن أبي طالب (ع) وقتله، وبقيت تكفره وتلعنه على المنابر عشرات السنين بعد إستشهاده، فإن من الطبيعي أن تمتد مساحة الإرهاب التكفيري لتستهدف فئات كبيرة جداً من المسلمين، بهدف إستئصال أي رأي عقيدي وفقهي معارض وموقف سياسي مخالف.
وظل الحلف المتين بين الفئات التكفيرية الإرهابية والسلطات الطاغوتية الإستبدادية قائماً حتى يومنا هذا؛ لأن من شأن هذا الحلف تحقيق أهداف الطرفين. ولكن أضيف عامل جديد في معادلة هذا الحلف بدءاً من ظهور طلائع الإستكبار الغربي في منطقتنا العربية والإسلامية؛ هو العامل السياسي الخارجي الإستكباري. إذ لعب هذا العامل دوراً أساسياً في إستثمار وجود الأفكار التكفيرية لدى بعض فئات المسلمين وكذلك الجماعات والسلطات المحلية الطامحة الى التوسع والهيمنة. وبهذا تكوّن الحلف الجديد من ثلاثة أركان:
الأول: الإستكبار الغربي؛ الذي بدأ بالوجود البريطاني في منطقتنا العربية والإسلامية ثم الوجود الفرنسي وانتهى بالأمريكان والصهاينة. وكانت هذه الكتل الإستكبارية بدءاً من القرن الثامن عشر الميلادي ولاتزال تستخدم دراساتها الإستشراقية والإسلامية المعمقة لإكتشاف مواطن الضعف والقوة في الموروث الفكري والعقيدي والفقهي والخطاب الإسلامي، لتعمل بكل قوة على تمزيق الواقع الإسلامي من الداخل ،ومنع نهوضه عبر بعث الروح في الأفكار التكفيرية ودعمها بالمخططات والتدريب والمال والسلاح والمعلومات، وربطها بجماعات سلطوية محلية توسعية طموحة،لتتحول الى فئات ومنظمات ايديولوجية إرهابية قاتلة عالية التنظيم والقدرات.
الثاني: الجماعات السلطوية والحكومات المحلية التوسعية الطموحة ؛ ولاسيما التي ظهرت في الجزيرة العربية في القرون الاخيرة، والتي تحتاج الى مسوغات دينية لتحقيق أهدافها في ضرب وتدمير السلطات المحلية المنافسة؛ وصولاً الى فرض هيمنتها على كامل الجزيرة العربية، كما تحتاج الى الدعم الإستكباري الخارجي لتنفيذ مخطط الهيمنة المشترك.
الثالث: الجماعات التكفيرية الإرهابية التي تمثل إمتداداً لأفكار التكفيريين الذين ظهروا خلال حكم الأسر الأموية والعباسية والعثمانية؛ الذين شرعنوا لقتل المسلمين الذين يختلفون معهم فكرياً وفقهياً وإستباحة أعراضهم وأموالهم وأراضيهم وذبح أطفالهم ونسائهم.
ومن رحم هذا التحالف المثلث؛ ولدت الجماعة الوهابية تحت غطاء الفكر السلفي، وتفسيراته للقرآن الكريم والسنة النبوية. وتلخص خطابهم العقيدي والفقهي في حصر الإسلام بأتباع الحركة الوهابية فقط، وإعلان الجهاد الدائم ضد الكفار والمشركين والمرتدين من أتباع المذاهب الإسلامية، إستناداً الى تطبيق تفسيراتهم للنصوص الواردة بحق المشركين والكفار على المسلمين، بذريعة إرتداد المسلمين عن حقيقة التوحيد وأصالة الإسلام. ولكن لم يكن هذا الخطاب سوى غطاءً لتحقيق أهداف الركنين الأول والثاني من مثلث التآمر على الإسلام والمسلمين. فمنذ ظهور هذه الحركة وحتى الآن؛ مارس أتباعها أبشع أنواع التخريب في عقائد المسلمين وفقههم وتاريخهم، وحاولوا بالقوة والترهيب والرشوة فرض أفكارهم ومعتقداتهم وتوجهاتهم السياسية على المسلمين، وشنوا عشرات الحروب ضد المسلمين تحت شعارات دينية، إعتدوا فيها على المقدسات واستحلوا الحرمات وذبحوا الرجال واسترقوا النساء ونهبوا الأموال وأحرقوا الحرث وإغتصبوا الأرض. وظلت مدارس المذهب الوهابي وجامعاته الدينية ومراكزه الثقافية ومساجده، مصانع لإنتاج الفكر التكفيري والشخصيات التكفيرية والجماعات التكفيرية الإرهابية، تحت أسماء ومسميات مختلفة ليس آخرها: القاعدة وداعش والنصرة وبوكوحرام وغيرها.
وفي النتيجة، فإن إشكالية ظهور الحركات التكفيرية والمتطرفة والإرهابية، منذ عصر صدر الإسلام وحتى الآن، ليس إشكالية عقيدية وكلامية وفكرية وحسب. ففي ضوء المعطيات الواضحة والحقائق الثابتة، يستحيل حصر هذه الإشكالية في منهجية هذه الحركات في تفسير النص أو الجمود على النص وعلى تفسير السلف له، أو الإجتهاد في تطبيقات النص والسيرة على المصاديق الجديدة، أو منهجية التبعية للسيرة النبوية وسيرة السلف؛ فهذا الجانب هو المظهر الذي تسوق من خلاله هذه الحركات نفسها الى العالم والى المسلمين تحديداً، وكأنها مجرد حركات دينية تعمل على إعادة المسلمين الى التوحيد الحقيقي والى أصالة الإسلام عبر وسائل تجتهد فيها. بل إن ولادة هذه الحركات ونموها وظهورها يرتبط بمعادلة معقدة تتداخل فيها العوامل السياسية والسلطوية والفكرية والطائفية والمالية والنزعات الإجتماعية والمصالح الشخصية. وكانت ولاتزال أكبر جريمة تمارسها هذه الحركات هو تشويهها حقيقة الإسلام أمام العالم، وتقديم صورة عنه في غاية البشاعة والوحشية والتخلف الفكري والإنحطاط الأخلاقي والسقوط الإنساني. وهو دليل عملي محسوس على حقيقة أهداف هذه الجماعات وإرتباطها بمشاريع الهيمنة الإقليمية والإستكبار العالمي.
وإذا أردنا أن نستل العامل الفكري المتعلق بفهم النص من عوامل ظهور الحركات التكفيرية، ونحلله في ضوء نموذج معاصر للمنهجيات الأصيلة في فهم النص، وهي منهجية الإمام الشهيد محمد باقر الصدر، فسنرى تضاداً واضحاً بين المنهجين؛ فالسيد الشهيد محمد باقر الصدر يستند في فهم النص على الفهم الشمولي للإسلام وغاياته وأهدافه ومقاصده، وإرتباط أحكامه العقيدية والفقهية بعضها ببعض بإعتباره منظومة واحدة متكاملة بكل أصوله وفروعه وتفاصيله، وتفاعلها مع الواقع ومتطلبات الزمان والمكان وقدرة التشريع الإسلامي على ملء مساحات التفويض التشريعي أو منطقة الفراغ كما يعبر عنها الشهيد الصدر، وتجريد فهم النص عن مسبقات المتكلم والفقيه وتسويغاتهما لواقع معين. وقبل ذلك فإن مدرسة الشهيد الصدر تعتمد فهم العترة الطاهرة للنص وللسنة الشريفة بإعتبارها عدل القرآن. وبهذا تحول منهجية الشهيد الصدر دون تسلل أي فكرة تكفيرية أو مسلك إرهابي الى المدرسة الإسلامية، لأنها منهجية تؤمن بوحدة المسلمين وتحترم قناعاتهم العقيدية والفقهية والتاريخية، ولاتعمل على تجزئة الواقع الإسلامي الى طوائف متناحرة، وتحقن دم من شهد الشهادتين وتحفظ عرضه وماله، وتواجه بحزم أي هدف إستكباري يحاول بث الفرقة بين المسلمين، ولا تمارس أي سلوك يشوه صورة الإسلام الناصعة.
نوري كامل المالكي - الوفاق