السلفية التكفيرية.. النشأة والجذور العقائدية والفكرية (القسم الثاني)

السبت 14 أكتوبر 2017 - 05:58 بتوقيت غرينتش
السلفية التكفيرية.. النشأة والجذور العقائدية والفكرية (القسم الثاني)

أفكار ورؤى - الكوثر

سلوك الهجرة والإمرة

حينما تكاملت نظرته إلى جاهلية المجتمع، واعتقاده أنه محيي ومجدّد الإسلام.. يتجه الشيخ إلى “الدرعية” ويعلنها “دار هجرة وإسلام” ويقسّم الناس إلى قسمين: الموحّدون، ودارهم دار الإسلام.. والمشركون ودارهم دار الشرك..

وهناك تتم بيعته لـ “محمد بن سعود” على الجهاد، على أن ينصر دعوته.. فيكون هناك أمير (سلطان) وفقيه (ولي)..

ويدلي بفتاويه التي تشير إلى وجوب اتباع الإمام (السلطان) سواءً أكان من الأبرار أم الفجّار ما لم يأمر بمعصية الله..

بل وحرَّم الخروج عليه.. بحسب “الدرر السنية في الأجوبة النجدية”..

والملفت أنه لم يقبل بالشورى في قبال إمام السلطان المسترشد بالفقيه

ومع ابن عبد الوهاب.. يمكن أن نختم حلقة التأسيس الأول لمنطق منهجي عقيدي هو عينه يمثل مفتاح الأحكام الشرعية.. والتي تقوم في وجهه النظري على تحديد الثوابت من خلال “حرفية” النص – وتكفير أي تأويل له – القرآني، والحديث النبوي الشارح بحرفيته لتمام المعنى القرآني المنزل من عند الله دون أي “تكييف” أو (تمثيل) لتلك النصوص (الأحكام).. ثم عرض آراء السلف وفقهاء السلفية والتحرّك في دائرتها فقط.. وبقطعيات لا تقبل النقاش..

أما اللغة المستخدمة في تحديد الأحكام فهي “وصفية” تعرض ما أسلفنا ذكره.. وأحياناً تحمل طابعاً إنشائياً وعظياً يعتمد “المغالطة” في إثارة الإشكال، والإسقاطات القطعية في إنتاج الجواب..

هذا من جهة، ومن جهة ثانية فطالما أن المساحة المعطاة (للأمير) في الدعوة.. أو (السلطان) في الحكم،.. اتسعت لكل ما فيه إجرائيات حكم المال والسياسة والحرب السلم والحدود وغير ذلك فلقد وجد المتصدّون للدعوات والإمرة السلطانية.. الباب مشرَّعاً لاستخدام لغة إنشائية قطعية في تقريراتهم تعتمد على شواهد من النصوص والقيام بطرح مستلزمات افتراضية متعلقة بها، لأخذ مواقفهم بحيث يشرِّعون كل أشكال العنف والتصدّي تارة، وكل أشكال الطاعة والانقياد للواقع والسلطة وللجماعات من حولهم تارةً أخرى.. دون أن يسقطوا حكم التكفير الخاص بكل هذه الجماعات مما يعني أن هناك فصلاً واضحاً بين حكم التكفير وبين إجراء مستلزمات حكم التكفير.. وفي ظني أن هذا يفتح المجال واسعاً – كما حصل في أزمنة متعددة – لقراءات سلفية تكفيرية لا تعتمد لغة العنف ولا لغة الجهاد حتى..

ومن أمثلة ذلك الشيخ محمد سرور، والطرطوسي، والمقدسي. بل وبعض مواقف “محمد بن عبد الوهاب”.. الذي دخلت السلفية من بعده بمرحلة الانتشار والتوضيح بحيث تحوّلت إلى “دولة ودعوة”.. يناحران في توسيع رقعة انتشار السلفية إن في الذهنية الدينية أو في الجماعات الإسلامية

المنحنيات الجديدة للتيارات السلفية:

لن أطيل الحديث حول هذه المرحلة لكن بالإمكان القول: إن السلفية وبعد تجارب ثورية قام رجالٌ، على غير عقلية السلفية، من أمثال جمال الدين الأفغاني وتياره..

شهدت قبولاً عند تلامذة جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده.. فرشيد رضا الذي تبني هذا الاتجاه السلفي.. اعتبرها تعبيراً حيوياً لاستفاقة دينية ترفض الخرافة والأسطورة.. وقارنها بالحركة البروتستانتية في الغرب والتي أنتجت عصر التقدّم والتنوير.. فكأنما السلفية هي هذه الثورة من النهضة الخاصة بأمّتنا.. ولقد لامس هذا الموقف آراء أمثال “مالك بن نبي” في بعض كتاباته.. بل ولعله حمل بعض التأثير في أفكار حركة الإخوان المسلمين في مصر.. والجماعة الإسلامية في باكستان.. وإن كانت الأولى قد جمعت بين النزعة الروحية الصوفية التي تربّى عليها بالأساس المؤسّس “حسن البنّا” وبين قدرته الاستثنائية على التكيّف مع مقتضيات الواقع، وبين انشداده (للطهرانية الدينية) النصوصية

أما باكستان فإنها البلد التي احتضنت حركات صوفية المنشأ والنظام، سلفية التوجه بعد أن لاقى مؤسسي تلك الدعوات رموزاً في أرض الحجاز يحملون السلفية.. مما نقل فكرة السلفية والكثير من برامجها التعليمية إلى باكستان..

وفي باكستان أطلت أفكار “أبو علي المودودي” لتشكّل إعادة قراءة للإسلام بروحية تتوافق مع الفهم التوحيدي عند السلفية.. ففي كتابه “المصطلحات الأربعة في القرآن”.. أثار أن إعادة فهم القرآن ينبغي أن تكون بتحديد واضح ومنهجي لمصطلحات “الإله/ الرب/ الدين/ العبادة".

وأسّس فهم كلٍ منها بما يتناسب مع روح الفهم السلفي للتوحيد وربطه بمعنى العبادة وعواملها النفسية

بل ذهب أبعد من ذلك ليقول: “إن كلاً من الألوهية والسلطة تستلزم الأخرى وأنه لا فرق بينهما من حيث المعنى والروح”..

وأن “من يملك السلطة هو الذي يجوز أن يكون إلهاً وهو وحده ينبغي أن يتخذ إلهاً”. ثم أن السلطة لا تجزّأ فالله كما أنه هو الخالق هو الحاكم.. لذا أطلق مفهوم “الحاكمية الإلهية”. والذي استفادت منه كل الحركات الإسلامية، التكفيرية منها على وجه الخصوص،.. وأثمرت هذه الفكرة بإنتاج ثقافة يمكن لنا تسميتها بثقافة “الوعي الحركي” والتي شدّ أزرها “سيد قطب” في كتابه “معالم في الطريق”. إذ اعتبر أن “العالم يعيش اليوم كله في جاهلية من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقوّمات الحياة وأنظمتها”.

واعتبر أن “هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخصّ خصائص الألوهية.. وهي الحاكمية”.

وهو بهذا اعتمد فكرة “أبو الأعلى” ثم جعل كل الحياة والمجتمع يعيشان عصر جاهلية حديثة.. مما سمح للجماعات التفكيرية أن تحكم على منابع أصول الحياة ومجتمعات اليوم بالكفر الجاهلي الصريح.

أما كيف – يمكن مواجهة ومعايشة هذا المجتمع الجاهلي – فيقول (سيد قطب): “هذا يقتضي عملية بعث في الرقعة الإسلامية هذا البعث الذي يتبعه – على مسافة ما بعيدة أو قريبة – تسلم قيادة البشرية.

فكيف تبدأ عملية البعث الإسلامي؟

إنه لا بدّ من طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضي في الطريق. تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعاً. تمضي وهي تزاول نوعاً من العزلة من جانب. ونوعاً من الاتصال من جانب آخر”.

ويقدّم بعد ذلك جملة من النصائح كيف يمكن فهم هذه الجاهلية ومواجهتها..

وهذا المنحى هو الذي أسّس أموراً منها:

أ‌. تقسيم المجتمع إلى فئة طليعية هي الإسلام وأخرى هي المجتمع الذي ينتمي للجاهلية.

ب‌. أن يكون الطموح هو قيادة كل العالم وتغيير كل أنظمته.

ج- التأكيد على ضرورة العزلة النفسية والعملية بحيث أن لا يتأثر ولا يتكيف أصحاب هذه الحركة بما يحيط بهم.

د- رسم الخطط لمسير التغيير الشامل.

هـ- إدخال ثقافة الوعي الحركي كأصل جديد في تمييز أفكار الحركات الإسلامية وهو ما سمح بتحويل الاتجاه الديني البحث إلى (منحنى أيديولوجي) طبع أصحاب الدعوات التفكيرية في خطاباتهم وبرامجهم ومواقفهم وآرائهم حتى الفقهية منها..

وهذا الحجم من التأثير الذي تركه سيد قطب يعبّر عنه (أيمن الظواهري) في كتاب له نشرت بعض فصوله صحيفة الشرق الأوسط (فرسان تحت راية النبي).. إذ يقول: “وأصبح سيد قطب نموذجاً للصدق في القول، وقدوة للثبات على الحق، فقد نطق بالحق في وجه الطاغية، ودفع حياته ثمناً لذلك، وزاد من قيمة كلماته موقفه العظيم عندما رفض التقدّم بطلب العفو من جمال عبد الناصر، وقال كلمته المشهورة، (إن إصبع السبّابة التي تشهد لله بالتوحيد في كل صلاة تأبى أن تكتب استرحاماً لظالم).. ويذهب الظواهري للقول: إنه بعد مقتل سيد قطب “تكونت النواة التي انتمى إليها كاتب هذه السطور (جماعة الجهاد) وأضافت الأحداث عاملاً خطيراً أثّر في مسار الحركة الجهادية في مصر ألا وهو نكسة 1967 وسقط الرمز جمال عبد الناصر الذي حاول أتباعه أن يصوّروه للشعب على أنه الزعيم الخالد الذي لا يقهر..

وبذلك فإن الأيديولوجيا التي أسّس لها سيد قطب تحولت إلى تيار “جهادي”.. وجد المناخ مؤاتياً له بسبب الإخفاق والإحباط الشامل الذي ولّدته هزيمة [1967]..

وهنا تصاعدت أمواجٌ وتيارات إسلامية رفضت منطق الإخوان والذي عبَّر عنه “الهضيبي” في كتاب له – ردَّ فيه على كتاب سيد قطب – وأسماه “دعاة لا قضاة”..

وبرزت شخصيات وأفكار انقلابية من أمثال صالح سرية ومحاولته الانقلاب عبر خلية “الفنية العسكرية”، ومحمد عبد السلام فرج صاحب كتاب “الفريضة الضائعة” الذي تحوَّل إلى الوثيقة الأولى للحركات الجهادية والعنفية..

وعمر عبد الرحمن الزعيم الروحي للجماعة الإسلامية..

ويحيى هاشم وعصام القمري الذي كان يخطط لضرب أنور السادات أثناء تشييعه.. وهذه المجموعات حفرت في ذاكرة جماعات الجهاد، إذ أن أصحابها كلهم أو أغلبهم قد استشهد..

ويستفيد الظواهري من هذه الظاهرة التي انبعثت في مصر:

1- إن الشجاعة إذا لازمها الإيمان حققت المعجزات.

2- إمكانية القضاء على رؤوس الشر يستلزم إضافة للإيمان والشجاعة كفاءة عالية في التدريب والتخطيط.

3- إن التغيير الجذري للأنظمة هو الأصل لأي حركة جهادية.

4- ضرورة زرع الرعب بقلوب الأعداء (أمريكا وإسرائيل والدول العربية)، بحيث إن أي فعل سيستلزم رد فعل قاسٍ.

5- رفض أي مساومة مع الأنظمة العلمانية وقوانين وقرارات الدول.

6- إمكانية اختراق الأجهزة الأمنية والعسكرية المعادية.

لكن الظواهري رغم ذلك اعتبر أن الواقع القائم لن يحقق الآمال فذهب بطموحه ليعايش التجربة الأفغانية.

وبالعودة إلى الحركات في مصر فإنها قد أصدرت جملة من الوثائق جمعها د. رفعت سيد أحمد في كتاب له اسمه “النبي المسيح” وفي جزئه الأول أورد تلك الوثائق والتي تقاسمت المشتركات التالية:

1- الله وحده صاحب التشريع، وكل تشريع آخر باطل.

2- ربط الإيمان بالعمل.

3- اعتماد عقيدة السلف الصالح.

4- تطبيق الشريعة يعني التطبيق الكامل للإسلام.

5- شمولية الإسلام لمختلف متطلبات الحياة.

6- الحكم القائم في بلاد المسلمين هو حكم كافر والمجتمعات هي مجتمعات جاهلية.

7- الاستفادة من العلوم الحديثة.

8- وجوب الهجرة لبلوغ الغاية.

9- إحياء نظام الخلافة الإسلامية.

10- قتال العدو القريب أولى من البعيد.

يتبع...

الشيخ شفيق جرادي

المصدر: Wordpress.com

تصنيف :