يحتضن الإسلام في خطابه للناس بعدين اثنين:
أولهما يتعلق بالبلاغ الرسالي للعالمين، وهم كل فئة يصلها البلاغ الديني ممن لم يسمع بذاك البلاغ من قبل وممن لم يؤمن به كما والذين آمنوا به، لكن بما هو آخر ملحوظ في الخطاب.
ثانيهما ما يتعلق بالجماعة الخاصة ممن آمنوا بالبلاغ الديني، أو القريبين منهم والذين يعايشونهم في المجتمع الواحد، أو الحضارة الواحدة أحياناً..
وهذا البعد الثاني يغلب في خطابه مقتضيات الناظم الروحي لحياة الفرد والجماعة، كما والناظم الاجتماعي – السياسي.. من هنا فإنه بالغالب خطاب تقنيني فقهي وعظي يربط العمل الإنساني بالحياة الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب.. وهو خطاب الذات للذات.. وإذا كانت دراسات الخطاب لحظت في تعريفه أنه ذلك الملفوظ الموجَّه إلى الغير، بإفهامه قصداً معيّناً.. فإن من تعاريفه أيضاً الشكل اللغوي الذي يتجاوز الجملة [1].. وبذلك لوحظ تارة بما يعني قصد الغير، وأخرى نظام القول بغض النظر عن أن يكون المخاطب هو الذات أو الآخر.. وهذا ما يفسح المجال لاعتبار أن الأصل في بناء الخطاب هو قيم مقاصده وحقول تفاعلاته وسياقاته التي يرتكز عليها.. والتفاعل في الخطاب كما السياقات التي تبنيه يُعنى بها مُرسِل الخطاب كما المُرسَل إليه.. إذ كلاهما مسؤولان عن دلالة وفهم مضمون الخطاب والبلاغ..
وهنا قد ينبني الخطاب على مسلك الوعظ والاستشهاد بالنص، أو قد ينبني على مسلك النقد والاستدلال بالعقل..
وهذا ما يولّد لدينا التساؤل عن المدى الذي استطاع فيه خطابنا الإسلامي أن ينوِّع مقولته في سياقات ومرجعيات أطروحته.. وعن مدى امتلاك الخطاب الديني الإعلامي رؤية معرفية واستراتيجيات واضحة لإطلاقه لمثل هذا الخطاب الأثيري الذي بات يتجاوز بفعل قنوات التواصل من فضائيات وغيرها حدود المكان، إن لم نقل حدود الأزمنة الأخلاقية والقيمية المتوزّعة في الأمم والشعوب والحضارات.
ثم إلى أي مدىً استطاع التوفيق بين المسلك الوعظي – النصوصي، وبين المسلك النقدي – الاستدلالي؟ خاصة بعد أن بات من الضرورات والمسؤوليات اللازمة على هذا الخطاب أن يجيب عن الوقائع التي فرضتها الحضارة الغربية مما يطلق عليه روح وشكل الحداثة وقيمها بأطروحة إسلامية تؤسّس أو تسيِّل قيماً وأعرافاً ومعارف إسلامية واثقة خالية من عقد الخوف والدونية وإسقاطات الآخر على الذات، بل عقدة الخوف حتى من الخوف نفسه..
وهنا اسمحوا لي أيها الإخوة أن أذهب للقول: إننا بتنا في عصر تقع المسؤولية الكبرى فيه على المؤسّسات الإعلامية العابرة للحدود.. والتي بإمكانها أن تؤسّس لأوضاع استثنائية في حياتنا الإسلامية..
كما واسمحوا لي القول ولو بشيء من التسامح في التعبير: إن أهداف الخطاب الديني الإعلامي هي نفس القيم التي ينبني عليها الخطاب الإسلامي، ومن هذه القيم و الأهداف أذكر:
أولاً: الهداية باعتبارها القيمة الأكثر بروزاً في الخطاب الإسلامي التأسيسي بالقرآن الكريم ونصوص العصمة.. وهو هدف وقيمة تلحظ الآخر عبر الدعوة والبلاغ.. كما وتلحظ الذات – أي الجماعة المؤمنة – بالإنذار والتبشير ونظم الحياة الفردية والعامة بسنن وقوانين وقواعد الهدي النبوي.
ومثل هذا الهدف الواحد المتنوّع في استهدافاته هو ما يحتاج إلى دراسة ودراية في استراتيجيات بناء خطاب تكوين الوعي والمعنويات عند من يصلهم البلاغ..
ثانياً: التحرّر من ربقة الاستبداد والظلم والتبعية والاحتلال.. وهنا لا بدّ أن نفرّق بين التحرّر وبين الحرية.. إذ لا حرية مسؤولة وبنّاءة قبل تحقيق التحرّر، وهنا تكمن المقاومة في وعيها وفعلها المواجه لسلطة القهر وسلطة الغاصب، والمؤسسات التي ترتهن الوعي وتسرق الروح..
ثالثاً: إحقاق العدالة في الحياة بموازين تقاطعاتها بين الحاكم والمحكوم والحضارة المركز وحضارات الأطراف، وبين الفرد والجماعة..
رابعاً: وهو هدف يحمل الكثير من الخصوصية، فمنذ وفاة النبي محمد (ص) حتى قيام الإمام الخميني (قده) بنهضته ما تسنّى لنهج آل بيت محمد الأطهار (ع) حمل أمانة قيادة إرث رسول الله محمد (ص).. وها هم اليوم الأكثر حضوراً في تمثيل الأطروحة الإسلامية.. وهو زمن ما لم نقبض فيه على الأمانة بكل ما أوتينا من قوة فإنه سيتعرّض للانفلات منّا، إذ مقتضى الشكر في مثل هذه الأحوال نشر الحديث حول النعمة ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾[2].
ولعلّ مثل هذه الأهداف تقتضي منّا اتباع سياسات مبنية على:
1- التقنية العالية والتنوّع الدقيق في طرح ونشر الأفكار، وخلق الأعراف في البيئة المجتمعية.. إذ ينبغي أن لا تقتصر على مجرّد طرح الموضوعات وتوصيف الوقائع.. إذ خلق التغيير يقتضي إنشاء البيئة الجديدة والأعراف والتقاليد والمعاني المتناسبة معها.
2- الوضوح والثقة بتقديم الإسلام كأطروحة جدّية لحياة الناس والأمم والشعوب.. لكن حينما نتحدث عن الوضوح علينا الالتفات إلى أن بعض ما نذهب إليه من شعائر وأفكار قد لا يُفهم على حقيقته إن تمّ تقديمه كما يقدّم في البيئة الخاصة.. وهذا ما يحتاج إلى نقاش جدّي في كيفية التوفيق بين احتياجات الخاص ومتطلبات العام..
3- الثقة بقيومية الدين على الدين كله.. ما يسمح بمنافذ تتسع للغير، وأن نعيد النقاش في معنى أفكار الضلالة المحظورة، خاصة أن القرآن الكريم قد خلّد بعض هذه الطروحات التي ناقشها.. مما يفسح المجال لانتهاج مثل هذه السياسة المفتوحة على أفكار وطروحات الآخر..
4- الدقة في نقل المعلومة، وهي الأمر الذي بات من المطلوب أن يُحسم النقاش حوله، إذ البعض يعتبر أن المادة الإعلامية ينبغي أن توفر السهل المستساغ.. والبعض يعتبر أن في ذلك إخلالاً بالمضمون، إذ الأمر يقضي بضرورة تعميق الطروحات والمفاهيم ولو ببعض البرامج.. كما أن هناك من يعتبر أن المعيار في تقديم الأفكار في الحقل الإعلامي هي اللغة غير المباشرة، بينما يذهب البعض للقول بضرورة تسمية الأمور كل الأمور بأسمائها.. وفي اعتقادي أن الدقة هي المعيار سواءً على مستوى مضمون أو شكل الطرح، بحيث يتم التنويع المفيد والمتناسب مع المقام والسياق والرؤية.. مع المراعاة الأكيدة لدور وطبيعة الوسائل الإعلامية..
أما في الإجراء فاسمحوا لي أن أتقدّم من رئاسة الاتحاد باقتراح إنشاء مركز إعلامي فكري يُعنى بالخطاب الديني في إعلامنا الإسلامي؛ وهو مركز استشاري يعتمد على الرصد للنتاج الديني عند المؤسّسات الإعلامية ليستفيد العبر من تجاربها.. كما ويعتمد على إقامة حلقات تفكير جماعي في موضوعات حسّاسة على هذا الصعيد، ويعمل على تقديم توصيات وتقرير سنوي متخصّص للجهات المعنية..
إضافة إلى عمله على المساهمة في تأهيل المعنيين بالتخطيط والإعداد والتقديم للبرامج الدينية في الإذاعات والفضائيات التابعة للاتحاد.. من حيث المضمون.. كما ويقدّم خدمات خاصة لبعض الفضائيات والإذاعات في برامجها الدينية إذا طلبت هي ذلك..
على أن تكون رئاسة الاتحاد هي مرجعية هذا المركز الذي يمكن له أن ينظّم سنوياً مؤتمراً تشاورياً للأقسام الدينية لفضائيات الاتحاد وإذاعاته..
الشيخ شفيق جرادي
[1] – استراتيجيات الخطاب، ص 37.
[2] – سورة الضحى، آية 11.