يتحدَّث سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض)، عن ظاهرة التكفير في المجتمعات الإسلامية، وأساليب مواجهتها، من خلال إجابته عن مجموعة من الاستفتاءات. وقد اعتبر سماحته أن التكفيريين أناس لا يفهمون الإسلام ولا يعرفون حقائقه؛ ولذلك، فإنهم لا يميّزون بين الكفر والإيمان، مشيراً إلى أنَّ مناقشتهم مناقشة موضوعية، وإقناعهم بخطئهم في ما يعتقدونه من قضية الكفر والإيمان وتكفير المسلمين، وفي ما يستحلّونه من دماء المسلمين، من شأنه أن يعالج هذه الظاهرة ويحدّ منها...
ظاهرة التكفير:
س: برزت في الآونة الأخيرة ظاهرة التكفير في مجتمعاتنا الإسلامية، فكيف السَّبيل إلى أن نتخلص منها؟
ج: إنَّ مشكلة هؤلاء المكفِّرين، أنهم لا يملكون ثقافة الإيمان والكفر، يعني مثلاً نحن مسلمون، ما الذي يجعل الإنسان مسلماً أو كافراً؟ الذي يجعل الإنسان مسلماً ثلاثة أشياء بإجماع المسلمين: التوحيد، والنبوة، والمعاد. هذه هي الأشياء الأساسية التي إذا آمن بها الإنسان كان مسلماً. وما الذي يجعل الإنسان كافراً؟ إنكاره واحدة من هذه الأمور، يعني إذا أنكر الشخص وجود الله سبحانه وتعالى، أو أنكر توحيده، فهذا كافر، ولذلك نقول إن الملحدين كافرون، لأنهم ينكرون وجود الله سبحانه وتعالى، وإن المشركين كفرة، لأنهم ينكرون توحيد الله تعالى والنبوّة. كما نقول ذلك بالنسبة إلى أهل الكتاب، يعني أهل الكتاب يقولون لنا: كيف تقولون نحن كفرة؟ نعم، الكفر نسبي، فقد يكون هناك مؤمن بالله سبحانه وتعالى، ولكنه كافر بالرسول، هم يؤمنون بالله على طريقتهم، ولكن الله تعالى اعتبرهم موحّدين، ولذا قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا الله وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله}[1]، وهكذا، قال تعالى: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ}[2]، ولذا قال القرآن الكريم: {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ}[3]. اعتبر أهل الكتاب من اليهود والنصارى كفرة، ولم يعتبرهم مشركين، على أساس أنهم كفروا بالرسول، كذلك الله سبحانه تعالى، اعتبر أنّ الذي لا يؤمن باليوم الآخر أيضاً كافر.
وتوجد هناك حالةٌ من الحالات يقول فيها الفقهاء ـ سواء السنة أو الشيعة ـ إنه من أنكر ضرورياً من ضروريات الدين، يعني أنكر شيئاً ثبت في الدين بالبداهة، بأن هذا الشيء من الدين، يعني كأن يقول شخص: الصلاة غير واجبة، وهذا ينتهي إلى تكذيب الله تعالى ورسوله(ص)، فالله يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}، والنبي(ص) يقول أيضاً بوجوب الصلاة، أو أن يقول هذا الإنسان مثلاً، الصوم غير واجب، والحج غير واجب، والخمر ليست محرَّمة، مع أن هذه الأحكام معلومة لجميع المسلمين، فهذا إنكار للمبدأ، وهو صدق الله وصدق رسوله بلحاظ الملازمة في إنكاره للضروري وتكذيب الرسول. أما لو فرضنا أن أحداً ما أنكر شيئاً مما ثبت أنه ضرورة من الدين، ولكنه لم يلتفت إلى الملازمة بين إنكار الضروري وتكذيب النبي(ص)، فإنه لا يصير كافراً، كما نص العلماء، ومنهم الأستاذ السيد الخوئي(قده)، فبعض الناس لا يميِّزون، ولا يعتبرون ولا يعرفون ما هي أصول الإيمان التي يحكم فيها بكون الإنسان مؤمناً، مسلماً، وما هي أصول الكفر في هذا المجال. كما يحدث الآن عند بعض من السُنّة وبعض الشيعة، فقد يروون حديثاً، ويقولون إنّ هذا حديث صحيح عندنا، فتتهم بأنك كافر، لأنك تكذّب رسول(ص) في نظرهم، ولكن قد يكون هذا الحديث الثابت عندكم غير ثابت عندي من حيث وثاقة الراوي أو دلالة الكلام، فكونك تعتبر هذا حديث رسول الله(ص)، وأنا أقول إنه غير صحيح، فهذا لا يعني تكذيب النبي (ص)، لأنَّ الرواة عندك في هذا الحديث غير موثقين، أو أنك تقول: إن هذا الحديث يدل على كذا، فأنا أقول: لا، لأني أفهم منه غير ذلك، فلا يجوز أن تفرض عليّ فهمك أنت. فبعض الناس هكذا، يكفّرون المسلمين، لأنّ عندهم بعض الأفكار التي يحتفظون فيها لأنفسهم، ويعتبرونها صحيحة.
وللأسف، فإنّ هؤلاء الذين يطلقون كلمة (الكفر) وكلمة (الضلال)، كثيرون عند الشيعة والسنة، فهناك سلفية شيعية وسلفية سُنية، ولكن علينا أن نناقشهم مناقشة موضوعية، إذا كانوا يقبلون النقاش، لأن بعض الناس لا يقبلون بذلك، قال تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[4]، فهذا الذي يكون مستعداً لإغلاق عقله وإغلاق سمعه، لا تستطيع أن تتحدث معه، لكن الشخص الذي يكون مستعداً لأنْ يناقش مناقشة علمية، لا بد من أن ندخل معه في نقاش، حتى نصحح له فهمه لمسألة الكفر والإيمان.[5]
التكفير مسألة خطيرة
س: تحدّثت عن وفاق بين الدين والعقل، وضربت مثلاً العلماء المسلمين، ومنهم الفارابي، وابن سينا، ولكن حتى هؤلاء وقعوا في الخطأ، فتنادى الإمام الغزالي لتكفيرهم في ثلاثة أمور، وتبديعهم في سبعة عشر، مع أنّنا نلاحظ أنّك تتفق مع الغزالي في مسألة التأويل، والسعي للوصول إلى الحقّ بوجوب اللجوء للتقارب بين الأديان؟
ج: أنا لا أتفق مع السائل في مسألة التكفير، لأنَّها مسألة خطرة، وتعريف الكفر هو تعريفٌ مقابلٌ للإيمان، الذي يعني أن تؤمن باللّه الواحد والنبيّ المرسل، بكلّ ما تعنيه الرسالة من كتاب اللّه وما إلى ذلك واليوم الآخر، فمن كفر باللّه الواحد كان كافراً، ومن كفر بنبوّة النبيّ كان كافراً أيضاً بالنبوّة، ومن كفر باليوم الآخر كان كافراً. يبقى هناك شيء يتحدّث عنه الفقهاء تحت عنوان: "إنكار ضرورة من ضرورات الدين"، وهذا الأمر إنَّما يوجب الكفر لأنَّه يوجب تكذيب الرسول، ولا يكون إلا مع الالتفات اللازم بين الاثنين، وهذا بحث فقهي، لذلك أن نبادر إلى التكفير فهو أمر خطر، ومن الممكن أن يكون هناك إنسان كافر نكفّره، لكن علينا أن لا نستعجل التكفير، فربَّما تكون هناك شبهة، وربَّما تكون هناك وجهة نظر أخرى.
أمّا مسألة التأويل فنحن نقول: إنَّ التأويل موجود في اللغة العربية، ولكن على أساس الخضوع لقواعد اللغة العربية في التأويل، فهناك تأويل مزاجي، على غرار إعطاء كلمة الذرّة في هذه الآية: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}[6]، معنى الذرة العلمي المعروف في هذا العصر، ويتعاطى هذا التأويل مع القرآن كأنَّه كتاب في العلوم الطبيعية، رغم أنَّ القرآن يعطي بعض الإشارات في هذا الإطار. وفي رأيي، أنَّه لا يجوز أن نفسّر القرآن بالنظريات العلمية، لأنَّ القرآن كتاب مقدس، فاليوم أنت فسرته بنظرية وغداً قد تتغير النظرية، فماذا تفعل؟ هناك حقائق علمية وهناك نظريات علمية، لذلك، القرآن يهدي إلى أن تأخذ بأسباب العلم، ولكن لا على أساس أن تقول إنَّ الكتاب هو كتاب يتحدّث عن العلوم الطبيعية وما إلى ذلك[7].
تكفير الوهابيّة للشّيعة:
س: ما رأيكم في موقف إمام الحرم المكّي الذي يكفّر فيه الشّيعة، بحيث أصبح ذلك ذريعةً للآخرين لهدر دمائنا؟
ج: لا تقتصر القضيَّة على إمام الحرم المكّي، فكلّ الوهابيّة يُكفّرون الشّيعة، وأكاد أقول: إنهم ينشرون بين المذاهب الإسلاميّة مسألة تكفير الشّيعة. لذلك، المشكلة هي مشكلة العصبيّة العمياء. ومشكلة هذا الرجل أنّه لم يقرأ التشيّع أساساً، فحين تقرأ كلامه، تعرف أنّه لم يقرأ التشيّع ولم يفهمه، بل إنّ الكثيرين من العلماء، سواء في مصر أو في السّعوديّة، أو في غيرهما، عندما يتحدّثون عن التشيّع، تشعر بأنهم جاهلون بحقيقته.[8]
التكفير انحراف:
س: ما هو رأيكم في التكفيريين الذي يقطعون بأنّهم على الحق فيما يعتقدون ويفعلون؟
ج: هم أُناسٌ لا يفهمون الإسلام ولا يعرفون حقائقه؛ ولذلك، فإنهم لا يميزون بين الكفر والإيمان، كما أنهم في ما يتحركون به، من استحلالهم دماء المسلمين الّذين يختلفون معهم، إنّما يتحرّكون خلافاً لقول رسول الله(ص): "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله عرضه"[9]، وقبل ذلك قول الله: [10]{وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ}[11].
طرق مواجهة التكفيريّين:
س: ما هي أفضل السبل لمواجهة الحركات التكفيرية التي أخذت تنتشر بشكل كبير في مجتمعاتنا العربية؟
ج: إذا استطعنا أن نقنعهم بخطئهم في ما يعتقدونه من قضية الكفر والإيمان وتكفير المسلمين، وفي ما يستحلّونه من دماء المسلمين، وأنّ مجرد الكفر ليس كافياً لقتل الإنسان، بل إنه يكون كذلك في حالة الحرب حتى بالنسبة إلى غير المسلمين، حيث يقول الله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[12]، إذا استطعنا، فعلينا أن نقوم بذلك.[13]
التفكير والتكفير!
س: إنني أفكر كثيراً في كل مسألة أقف عندها، سواء كانت دينية أو غيرها، علام يدل هذا؟ وهل هو تطبيق للحديث الشريف "تفكّر ساعة خير من عبادة سنة"؟
ج: إنَّ مسألة أن يفكِّر الإنسان في كل شيء يخطر له، أو يُطرح عليه، أو في كل شيء يواجهه، هي مسألة جيدة ينبغي أن تعيش في عقل الإنسان، إذ إنَّ اللّه سبحانه وتعالى يريد للإنسان ألاّ ينطلق في أي أمر إلا بعد أن يفكّر، لكن على الإنسان أن يفكِّر في القضايا التي تتصل بمسؤولياته، فهو عندما يفكر في الجوانب العقيدية الأساسية، عليه أن يفكِّر بالتزاماته الدينية الشرعية، وفي علاقاته الإنسانية، وفي مواقفه السياسية والاجتماعية، وحتى في الأمور المتّصلة بمسؤولياته، كإنسان مسؤول أمام اللّه، ومسؤول أمام نفسه في أن يؤكد شخصيته بالطريقة التي يغتني بها عقلياً وروحياً ومعنوياً. ولعل سرّ المشكلة في امتداد تخلّفنا في الواقع، هو أنّ هناك تياراً يمنع الناس من التفكير الجدّي في الأمور الفكرية الحيوية المتصلة بالعقيدة في تفاصيلها، وبالمفاهيم العامة في عناصرها الدقيقة، ولا يؤمن بالحوار العلمي الموضوعي في مواجهة الفكر، بل يتحرك ليرجم المفكّرين الطليعيين بالتكفير والتضليل من دون دراسة موضوعية وبدون علم[14].
الخطاب الإسلامي:
س: هناك ارتباك في الخطاب السياسي اليوم، بسبب التناقض بين العمل الإرهابي أو التكفيري، والنظرية الإسلامية الحقّة. كيف يمكن أن نؤصِّل خطابنا الإسلامي وعملنا الإسلامي في ظل هذه التحديات؟
ج: هذه المشكلة هي أحد التحديات التي تواجه الإسلام، من خلال أعداء الإسلام الذين يشوّهون صورته. وفيما يتعلق بمسألة الإرهاب وقضية العنف، علينا أن ننطلق لندرس الإسلام في كتاب الله وسنة رسوله، من أجل أن نعرّف الناس كلهم، أن الإسلام لا يؤمن بالعنف، بل يؤمن بالرفق، وأن العنف إنما هو في مواجهة الذين يفرضون العنف على الإسلام، على أساس قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}[15]، وقد ورد في حديث النبي(ص): "إن الرفق ما وضع على شيء إلا زانه، وما رفع عن شيء إلا شانه"، "وإن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف". ولذلك، فإن قضية اتهام الإسلام بالإرهاب، هي مسألة سياسية تدخل في صراعنا مع الاستكبار العالمي، الذي يحاول أن يستغل ما يقوم به بعض المسلمين من أعمال تثير الجدل هنا وهناك، أو من أعمال تنطلق من خلال عدم فهم للإسلام، ويحاول أن يوظّفها للسّيطرة على العالم الإسلامي.
ونحن نقول للاستكباريين، إذا كنتم تتحدثون عن المسلمين الذين يقومون ببعض الأعمال الإرهابية، أو بعض أعمال العنف، لتّتهموا الإسلام بذلك، فما بالكم بما تقومون به أنتم الغربيون. نحن نعرف أن هناك إحصاءات للجريمة في الغرب ليست موجودة في البلاد الإسلامية. ثم إنّ اليابانيين، ومعهم العالم، يحتفلون اليوم بذكرى جريمتي هيروشيما وناكازاكي اللّتين اقترفهما الجيش الأمريكي بحق المدنيين اليابانيين، ألا يُعدّ هذا الشيء إرهاباً؟! ألا يعتبر إرهاباً ما يقوم به الآن الأميركيون في العراق، وفي أفغانستان، وفي كثير من البلدان التي يتحركون فيها مع الأنظمة التي تضطهد شعوبها!؟
لذلك، علينا أن نبيّن لهم أن الإسلام ليس كذلك، وأن نناقشهم، بأن نقول لهم: إذا كنتم تحكمون على الإسلام بالإرهاب، فنحن نحكم عليكم أيضاً بالإرهاب، وإلا كيف تفسّرون الاستعمار للبلاد الإسلامية، وما تقومون به أيضاً في هذه البلدان؟ وكيف تفسّرون المافيات التي كانت موجودة في أوروبا وفي أمريكا؟
علينا أن لا نسقط أمام الاتهامات، بل علينا أن نعترف بأخطائنا، وندين الذين يبتعدون عن الخط الإسلامي الأصيل، وقد يسيئون إلى صورة الإسلام. وعلينا أن نؤصل مفاهيمنا الإسلامية والعمل الإسلامي، ونستمر في العمل في هذا الاتجاه.
في زمن النبي(ص)، كانت هناك تحديات، ولكن من نوع آخر تنسجم مع الزمن الذي كان النبي يعيش فيه، عندما قالوا عنه إنه ساحر، وإنه كاهن، وإنه كاذب، وهو الصادق الأمين: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا}[16]، {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}[17]، وأخيراً قالوا إنه مجنون واتهموه بعقله، حتى إن أبا لهب، كما تقول السيرة، كان يمشي وراء النبي(ص) وهو يقول: لا تصدقوا ابن أخي فإنه مجنون. ومع ذلك، فإن النبي(ص) واجه كل ذلك، واستمر الإسلام، وسقط كل أولئك. ولذلك، علينا أن نملك عنفواناً إسلامياً أصيلاً، وأن لا نضعف أمام الآخرين الذين يتهموننا، والذين يكذبون علينا وما إلى ذلك[18].
قساوة المسلمين:
س: نجد أن المسلمين أكثر من غيرهم يحملون القساوة، والغلظة، والتكفير، وفكرة القتل ضد بعضهم البعض، وضدّ غيرهم من البشر، من أين أتت هذه التربية؟
ج: لعلّ ذلك ناشئ من خلال التربية القائمة على العصبيات، والقائمة على تكفير المسلمين بعضهم لبعض، والقائمة على اعتبار القسوة والغلظة الأسلوب الأمثل والأسرع في التربية والتنشئة[19].
الإمام علي(ع) وظاهرة التّكفير:
س: يعيب البعض على أمير المؤمنين(ع) أنه ـ بحسب قولهم ـ دخل في معمعة التكفير والقتل التي حدثت عقب وفاة رسول الله(ص)، حيث قتل الخوارج، وهم مشهورون بالعبادة، وأغلبهم من حفظة القرآن الكريم، وبدون شك، يقرّون جميعاً بالشهادتين، ورسول الله(ص) يقول:"من قال لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، فقد عصم مني ماله ودمه"، فكيف نرد على مثل هذا الكلام؟
ج: الواقع أنَّ هؤلاء لا يفهمون المسألة في أبعادها الإسلامية، وفي واقعها التاريخي، وظروفها الشرعية، فعندما انطلق الإمام(ع) بالخلافة، رأى كل الألغام مزروعة في طريقه، سواء تلك التي زرعت في الفترة التي سبقت تولّيه الخلافة، أو في عهده، عند تسلّمه الخلافة في بيعة المسلمين له. والإمام علي(ع) هو الخليفة الحق، حتى لو لم يبايعه الناس، بدليل الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ}[20]، والأحاديث المشهورة عن النبي(ص): "أنت مني بمنـزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي"[21]، وقوله(ص) في حديث الغدير: "من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه"[22].
لكن الإمام(ع) عندما بويع بالخلافة، بدأ يخطِّط للدولة الإسلامية الحضارية، وهو خير من يخطِّط لها، فأول ما ابتلي به كان خروج طلحة والزبير، وهما من الصحابة، والزبير ابن عمته، وطلبا منه بعد أن بايعاه: "يا عليّ، أشركنا في الحكم"، فقال الإمام لهما: "عليكما المشورة، أما الخلافة فليس لكما شأن بها؛ لأنّكما لا تملكان شرعيّتها، وأنا لا أملك منحكما إيّاها"، وحاول أن يقنعهم، ولكنهما أصرّا على موقفهما، واصطحبا معهما زوجة الرسول(ص) السيدة عائشة، وذهبوا إلى البصرة لإثارة النَّاس ضد علي(ع). وبذلك، اختل نظام الدولة، وقد أرادوا أن يحكموا البصرة، في الوقت الذي أخذ الإمام الكوفة مركزاً له. وعندما ذهب إلى البصرة وجمع الناس، حاورهم، وخاطبهم، وحتى إنه بعث أحد الأشخاص ليعرض القرآن عليهم، إلا أنهم قتلوه.
عند ذلك، رأى الإمام أن يقاتلهم، لا على أساس اختلاف الرأي، وإنما على أساس حفظ الأمن العام للمسلمين، وحفظ نظام الدولة الإسلامية، التي أرادا أن يقسِّماها لمصلحتهما الشخصية. فقتال طلحة والزبير كان قتالاً لحفظ الأمن في الواقع الإسلامي، وحفظ وحدة الأمة الإسلامية. وبعد ذلك، قام عليه معاوية بعنوان الأخذ بثأر عثمان، والإمام ليس له دخل في مقتل عثمان، لأن الإمام(ع) دافع عن عثمان، وترك ولديه يدافعان عنه، ولو قرأنا في (نهج البلاغة) الرسائل التي أرسلها الإمام(ع) إلى معاوية، والتي تشتمل كل الأساليب الرائعة والقيم الإسلامية، لرأينا أن الإمام ما كان في موقع حرب، إنما كان هدفه الحفاظ على الدولة الإسلامية. ومن ثم، دارت الدوائر، وقام معاوية بالحرب، ولجأ إلى التحكيم، وثارت بعد ذلك اللعبة، فأراد الإمام(ع) أن يرسل ابن عباس، لكنَّ الضغط الذي مارسه الخوارج ضده، أجبره أن يرسل أبا موسى الأشعري، الإنسان البسيط والمعقَّد من الإمام أيضاً، حتى تغلّب عليه عمر بن العاص، فقالوا: لا حكم إلا لله، كيف تحكم، أنت أشركت يا علي! فتركهم الإمام، وبعث ابن عباس ليحاورهم، وبقي يعطيهم أعطياتهم ومعاشاتهم، مثل بقية المسلمين. ومع ذلك، لم يقاتلهم الإمام(ع) لأنهم عارضوه، بل لأنهم بدأوا يقطعون طريق المسلمين، فقتلوا خبّاباً وزوجته. ولأن الإمام هو الحاكم الشرعي، كان لا بد له من أن يحاربهم، وأن يقيم النظام، دفاعاً عن النظام الإسلامي، وأمن المسلمين، ولكن بعض الناس لا يفهمون هذه الأمور بعمقها، ويأخذون بالعناوين الساذجة السطحية[23].
بناء المساجد على القبور:
س: هل نستطيع أن نتّخذ من الآية القرآنيّة: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}[24]، دليلاً على جواز التعبّد عند القبور، وبناء المساجد عليها، في وقتٍ نرى البعض يعتبرون إقامة المساجد على القبور، والصّلاة والدّعاء قرب قبور أولياء الله الصّالحين من النبيّين والأئمّة(ع)، شركاً بالله، وخصوصاً أنّ المستضعفين الّذين اقترحوا بنيان المسجد هم الأكثريّة دائماً؟
ج: إنّ الأخ السائل يتحدّث عن مقولة وقع فيها جدل بين بعض المذاهب الإسلاميّة. فهناك مذهبٌ يتّهم مذهباً آخر بالشّرك، أو بما يقرب من الشّرك، عندما يصلّي أبناؤه عند قبور الأنبياء والأئمّة، ويعتبرون ذلك شركاً، كأنّهم يعبدونهم ويسجدون لهم. وهناك أحاديث حتى عند الشّيعة تقول: "لا تتّخذوا قبور أنبيائكم مساجد". لكنّ هذا المعنى لا واقع له مما يلتزمه المسلمون، سواء من الشّيعة أو من السنّة؛ وذلك باتّخاذ القبور مساجد؛ لأنّهم لا يسجدون لها، وعندما يصلّي أحدهم عند القبر ركعتين قربةً إلى الله تعالى، ويهدي الثّواب إلى الميت، فأيّ شرك في ذلك؟! فالمصلّي قد صلّى قربةً إلى الله، ولم يتوجّه إلى القبر، ولم يستقبل القبر، ولم يتوجّه بصلاته إلى صاحب القبر، وإنَّما توجَّه إلى الله سبحانه وتعالى. لذلك، هذه الشّبهة الّتي يتّهم بها بعض المسلمين ناشئة من عدم التدبّر والفهم للأحاديث الّتي ورد فيها: "لا تتّخذوا قبور أنبيائكم مساجد"، أو "لا تتّخذوا قبري مسجداً"، وما إلى ذلك.
نعم، هناك بعض المظاهر الّتي يستعملها بعض النّاس من باب التّواضع، فينبغي أن لا يأتي بها الإنسان، كالّذي يدخل مشهداً من مشاهد الأولياء، فيسجد عند أبوابه مثلاً، فإنّه وإن لم يسجد له كما هو المقطوع به، ولكنَّ مظهره هذا يجعل الآخرين يفكّرون بطريقةٍ لا تنسجم مع قصده، مع أنّه يأتي بذلك الفعل بكلّ تأكيدٍ من باب الاحترام والمحبّة. ولكن على الإنسان عندما يحبّ هذا أو ذاك، أن لا يعبِّر عن حبّه وولائه بالطّريقة التي تجعل النّاس تظنّ فيه غير ما يعتقد. وكثير من الاتّهامات الموجّهة ضدّ الشّيعة، بعضها جاء نتيجة مظاهر من هذا النّوع، فبعض النّاس بدلاً من أن يدعو الله، يقول: (يا عليّ ارزقنا أو اشفنا)، مع اعتقاده أنّ الله هو الشّافي وهو الرّازق.
نعم، إنّنا نتوسّل بالأئمة والأنبياء، ونقدّمهم كشفعاء، لأنّ الله يقول: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى}[25]، و{لَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ}[26]، وقد أُذن لهم بالشّفاعة، ولكن علينا أن نتوازن بالعاطفة، ولا نعطيها على غير ما نعتقد وعلى غير ما نريد[27].
[1] (آل عمران/64)
[2] (العنكبوت/46)
[3] (البينة/1)
[4] (يس/10)
[5] (فكر وثقافة - العدد 352)
[6] (الزلزلة:7)
[7]أسئلة بعد المحاضرة بتاريخ: 16ربيع الأول 1419هـ ـ الموافق 10تموز 1998.
[8] (فكر وثقافة / العدد 612)
[9] الحقائق الناضرة، المحقق البحراني، ج 18، ص 147
[10] (الإسراء: 33)
[11] (فكر وثقافة - العدد 502)
[12] (الممتحنة:8)
[13] (فكر وثقافة - العدد 496)
[14] (فكر وثقافة - العدد 293)
[15] (البقرة:190)
[16] (الفرقان:5)
[17] (النحل:103)
[18] (فكر وثقافة - العدد 411)
[19] (فكر وثقافة - العدد 391)
[20] (المائدة/67)
[21] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 5، ص 69
[22] الحقائق الناضرة، المحقق البحراني، ج 3، ص 378
[23] (فكر وثقافة - العدد 377)
[24] (الكهف:21)
[25] (الأنبياء:28)
[26] (طه:109)
[27] فكر وثقافة - العدد 633