ليس المقصود من هذه الأوراق مجرّد تقديم بحث يستعرض وجهة نظر في السلفية التكفيرية، بل اعتمدت تبيان وعرض وتقديم أفكارهم العقائدية والفقهية – السياسية، بالطريقة التي هم قدَّموا أنفسهم بها، مستفيداً من ذلك جملة استنتاجات توفرها تلك المعطيات التي تمَّ استعراضها عبر وثائق وكتب وخطابات وفتاوى جماعات السلفية التكفيرية… بغية الوصول إلى فهم يشارك فيه القارئ لهذا النص، وإفساحاً بالمجال ليرسم تصوره حولهم بشكل مباشر وقابل لفتح حوار جدي موثق في ذهن ومعتقدات الجماعات السلفية.
التكفير بما هو منهجية صادرة عن عقلية إقصائية تختزل الحق والخير والصلاح وتحصره في أفق الذات، لتبني عليه رفضا مدّمراً للآخر المختلف..
لا يمكن نسبته إلى الظاهرة الإسلامية وحدها.. إذ شهدت الأديان في مساراتها الكثير من مثل هذه الحالة،.. بل يمكننا القول: إن الاتجاهات اللادينية في المراحل: الحديثة، والمعاصرة من عمر الزمن الذي استتب على ما أطلق عليه عصر التنوير وإفرازاته من علمنةٍ، وليبرالية، وحداثة، وديمقراطية… إلخ.. لم يحجب قيام نزعة إقصائية متطرفةٍ في مركزية الدولة الحاصية لكل هذه الشعارات “أمريكا” والتي نشبت، وقامت فيها دعوات ذات سمةٍ إقصائية كالمحاظفين، والمحافظين الجدد، والألفيين وغير ذلك..
والذين يشكّلون اليوم حضوراً قيادياً لدفة السياسة القائمة على صراع الشعوب وقيم الحضارات..
وهذا يعني أن دراسة النزوع التكفيري، لا يتأتى من النص الديني – بغض النظر عن أي دين نتحدث – وحده، بل لا بدّ لنا حين دراسته من التوقف ملياً عند الأسباب التي تشكّل بمجملها مفاصل أساسية لقراءة الظاهرة، باعتبارها ظاهرةً اجتماعية، وتاريخية.. (فضلاً عن بعدها الديني).
إلا أن ما يعنينا في هذه المعالجة هو التوقف عند الموجة التكفيرية الإسلامية التي تجتاح العالم انطلاقاً من البيئة السنية، والقراءة السلفية التكفيرية فيها.. والتي اتسمت بسمة المسارعة إلى إلصاق حكم التكفير – الشركيّ، بكل من خالفها، مسلماً أو غير مسلم،..
ولا يخفى أن مثل هذا الحكم إذا اندرج تحت حكم آخر يفيد أن كل الذنوب تغتفر إلا الشرك بالله.. صارت النتيجة مفتوحة على كل وجوه وصنوف التصدّي والمواجهة، مع الذين حُكم عليهم بالكفر والشرك..
ولعلّ أول بذرة لمثل هذا التوجه، إنما كانت أيام الخوارج.. ووصف الخوارج هو أول التهم التي ألصقها أهل السنة بجماعات السلفية الوهابية (على وجه الخصوص).. ولقد كان لها وقعاً عنيفاً ومزعجاً للغاية في نفوس السلفيين الوهابيين الذين لطالما عملوا على الدفاع عن أنفسهم بمواجهة هذا الاتهام،.. وهي من النقاط التي يمكن الاشتغال عليها…
الآباء المؤسسون.. للتيار السلفي..
وقع الكثير من المسلمين – السنّة – بشبهة اصطلاح السلفية، إذ نسبوا أنفسهم إليها، انطلاقاً من أمرين:
أولهما: أن السلفية هي عودة إلى المرحلة التطهرية، إن من حيث العلاقة مع النص الديني – القرآن والحديث -،.. أو من حيث العلاقة مع الفترة التاريخية الأولى لعصر الرسول (الصحابة) ثم عصر التابعين.
ثانيهما: الانسجام الذهني العام للعقلية السنية المبني على الماضوية في فهم الزمن، والذي يقوم على أن الزمن الأصلح هو زمن رسول الله ثم عصر التابعين، ثم عصر تابعي التابعين، ثم تبدأ مرحلة الانحطاط العام…
وقد سارع الكثير من علماء ومفكّرين وقادة وحركات إسلامية للتصريح بأنهم من أهل السلفية اعتباراً من كون السلفية في هذه العودة للمنبع الصافي للإسلام، (وهذا ما ساعد على وجود بيئة مناسبة لنشر شبه السلفية). وهذه النقطة بالذات هي التي أوقعت “الإخوان المسلمين” باضطراب كبير في مناقشة انتساب “حسن البنا” إلى السلفية أو عدم انتسابه إليها، إذ أنه كان قد أدلى ببعض كلام يفيد أن تياره يعود للمنبع الصافي من إسلام القرآن والحديث، والسلف الصالح… فجاء من بعده من وظّف هذا القول لينسب حسن البنا إلى السلفية.. ولنفس هذا الاعتبار ما زال الكثيرون ينسبون أنفسهم إلى السلفية.
أما مورد الشبهة، فهي تكمن في أن السلفية المقصودة هنا هي غير تلك التي تقصدها جماعة التكفير والتي تقوم على الأساس المنهجي الذي أرساه “أحمد بن حنبل – 241هـ -” في مواجهته لما أطلق عليه اسم “محنة خلق القرآن” أيام المأمون.. والذي عاد فتوهج نجمه، أيام حكم “المتوكل”..
إذ ذهب “أحمد بن حنبل” للقول حسب السراج: إلى أن من قال بأن القرآن مخلوق فهو كافر، ومن لم يقل عنه بأنه كافر فهو كافرٌ أيضاً.. ثم ذهب للقول: إن الطريق الوحيد لفهم الدين هو النص القرآني الذي شرحه الحديث النبوي.
من هنا أطلق على جماعة اسم “أهل السنة والجماعة”.
أما كيفية تفسير القرآن والحديث إنما يكون على وفق الظاهر.. بما في ذلك معنى الأسماء والصفات وأن لله يد، ومعنى الكرسي والعرش وغير ذلك..
عليه فإن علينا العودة للقرآن والسنة بظاهر لفظهما، وتكفير من لا يقول بهذا القول، بل وتكفير من لا يكفّرهم الحنابلة أيضاً…
وهذا المنهج استقر بشكل منهجي واضح على يد ابن تيمية:
إن معرفة الملامح الأساسية لمنهج ابن تيمية أصل لا يمكن فهم السلفية التكفيرية بدونه…
إذ إن إدخال مفهوم التوحيد في حقل أكثر تفصيلي يشابه في مستلزماته وأحكامه حركة العملية الفقهية في إنتاج الأحكام، والموقف، وربط المفهوم التوحيدي الخاص كأصل لفهم النص.. ثم إسقاط الهالة الكلامية- التي دعت الغزالي “لكتابة إلجام العوام عن علم الكلام” – لتكون في تداول العالمة من الناس وسلوكياتهم وأنماط تفكيرهم ومواقفهم من بعضهم البعض، إنما كانت على يد “ابن تيمية” وهذا ما كان له أعظم الأثر في كل الحركات السلفية التفكيرية فيما بعد، كما سوف يتبين معنا..
وإننا في قراءة معالم المقولات التيمية سنتوقف عند رسالتين لابن تيمية كان لهما التأثير المركزي في صياغة العقل التكفيري على صعيد العقيدة والفقه السياسي أو “الدعوي”.
وهما: رسالة “العقيدة الواسطية” خاصة أنها النص الرسمي الذي يتداول تدريسه أصحاب المدرسة التكفيرية اليوم.. ورسالة “السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية” لما يمثل من بنية فقهية لمواقف الإمرة عن السلفية التفكيرية..
- البعد العقيدي، في الرسالة الواسطية:
صدّر ابن تيمية رسالته “العقيدة الواسطية” بقوله: “أما اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة من أهل السنة والجماعة…”.
وهذا المصطلح “الفرقة المنصورة” هو التعبير الذي تبناه شرّاح ومنظّرو الفكر السلفي التكفيري كصفة لحركتهم.. وشرح معتقداتها،.. ويقوم هذا الاعتقاد على ما يلي:
1- الإيمان بالله وصفاته إيماناً بحرفية تعبير النص دون أي تأويل.. معتبراً أن شرح الحديث النبوي الوارد في “أحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها”، فأصل الإيمان مرتبط إذن بكل كلمة موجودة وبحرفية في كتاب الصحاح. وهو ما يعتبره مورد إجماع أهل السلف..
2- الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق. “وهو كلام الله حروفه ومعانيه ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف”، لذا فكل ما تمّ شرحه من معاني هو شرح لكلام الله والرد عليه إنما هو رد على الله.
3- ثم يذكر الإيمان بالآخرة وفتنة القبر وشفاعة النبي (ص) لعموم أهل الموقف ولخصوص أهل الجنة، بل يشفع لبعض أهل النار قبل دخولها، بل وبعد دخولها أيضاً..
4- التركيز على الإيمان بالقدر وهو العلم الأزلي إضافة إلى الإيمان بـ “مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن”.
هذا دون أن ينسى القول بأن العباد مسؤولون عن أعمالهم.. لذا يمكن محاسبتهم عليها.. أما المشيئة النافذة فهي التي تربط كل قلوب الذين يصبرون لحكم ربهم ولا يتراجعون..
5- من أصولهم أنهم “لا يكفّرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر.. كما يفعله الخوارج، بل الأخوّة الإيمانية ثابتة مع المعاصر”.. “ولا يسلبون الفاسق الملّي الإسلام بالكلية”، بل هو “مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم”.
6- ثم يتحدث عن موقفه العقائدي من الصحابة وأن قرنهم خير القرون ويعتبر أن أبا بكر وعمر مقدمان على عثمان وعلي، أما الأخيران وأيهما مقدّم على الآخر فهي ليست من “الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة”.
إلى أن يقول: “ويتبرؤن من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل”.
7- “ومن أصول أهل السنّة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات”.
ثم يعتبر أن الإجماع هو أصل يعتمد عليه في الدين بعد القرآن والسنة.
إن الصورة العامة التي وردت في هذه الرسالة وكيفية التعاطي معها.. يفيد أن ابن تيمية قد وضع قواعد ذهنية ونفسية تجعل من القناعة الحرفية التي تتبناها “الطائفة المنصورة” أي السلفية التكفيرية – الشرعية. لا مجال لردها أو الخروج منها لأن في ذلك عين الخروج عن مضمون معنى القرآن والسنة.. وأن ملاقاة الصعاب هو قدر ومشيئة إلهية بمقدور العباد أن يجعلوا منها إما مورداً لرحمة الآخر والدنيا أو لنقمة إلهية في الدنيا والآخرة.
أما الذي يبقى بحاجة للاشتغال عليه فهو موقفه من تكفير أهل القبلة، والموقف من الكرامات، ثم الموقف من الإجماع..
أما الأول، ولعله هو الأهم بين بقية النقاط فيفيد بحسب “مجموعة الفتاوى” أن “كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا بشرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين…”، وهو هنا في مورد الجواب عن سؤال حول حلّية قتال التتار.. إلا أنه بعد ذلك يعقّب بالقول: إن “من أصول أهل السنّة والجماعة الغزو مع كل بر وفاجر” شريطة أن يحصل من مثل هذا الغزو مصلحة شرعية.. وهذا يعني أن الحكم على الموقف السياسي إنما يكون بحسب وجهة النظر الشرعية للفقيه، لا بحسب صفة المتصدّي للغزو والقتال.. (فالأصل عنده صفاء التشريع أما الأمر فلا)..
ثم يبين رأيه في الشيعة ويعتبرهم أخطر من الخوارج لرفضهم خلافة “الثلاثة” وينسب إليهم مفاسد الأخلاق ثم يقول: “والرافضة تحسب التتار ودولتهم، لأنه يحصل لهم بها من العز ما لا يحصل بدولة المسلمين”. ثم يشدّد أن هذه الطائفة قد دخل فيها من أهل الزندقة والإلحاد.. ويشير هنا إلى الفيلسوف الطوسي..
ليطلق بعد كل ذلك قاعدة السلفية التفكيرية؛ والتي يمكن لنا تسميتها بالقاعدة الذهبية عندهم:
“إن عقوبة المرتدّ أعظم من عقوبة الكافر الأصلي”.
وهكذا فإنه أسّس للأمور التالية:
1- إمكانية التحالف مع الفاجر إن كانت المصلحة الشرعية بحسب فهم السلفية مضمونة.
2- إن الرافضة يحكم عليهم بحسب أمرين: مخالفتهم لأصل المعتقد السلفي إضافة لمواقفهم السياسية المباشرة.. إذ لو وافقوهم في المواقف المباشرة لأمكن التخفيف من حدة الحكم تجاههم،.. كما يظهر ذلك بوضوح من بعض أقوال ابن تيمية وغيره..
3- إما إذا تمّت المعاداة في أصل المعتقد والموقف السياسي فإن الحكم على الشيعي هو باعتباره مرتداً ويطبق عليه جزاءً يفوق ما يطبق على الكافر الأصلي.
4- إن قاعدة أولوية قتال المرتد الأقرب والتي جعلت المواجهة مع دول العالم إنما خرقتها تجربة القاعدة بالذهاب لأفغانستان مما دشّن مرحلة جديدة.
ب- البعد السياسي، أو السياسة الشرعية:
تكاد تخلو هذه الرسالة من أي إشارة إلى الشورى كحاكم يتم على ضوئه تحديد صاحب الإمرة.. بل إن ابن تيمية لا يحسم أيهما أولى بالخلافة عثمان أو علي، ولا يعتمد على الشورى في تقديم عثمان..
ثم إنه يعتبر بالنسبة لمرحلة ما بعد عهد الخلفاء أن الحكم فيه يختلط بالملك وهو ممن يجيز ذلك فاتحاً إمكانية تعدد أساس الحكم.. أما صاحب الولاية أو الإمرة فهو صاحب الشوكة” المتصدّي للحكم والذي يكفي أن يوافقه ولو مجموعة قليلة على حكمه وإمرته.. وعلى الرعية طاعته طالما أنه كان ملتزماً وأميناً على تطبيق الشريعة، أما إذا رأى أحدٌ أنه غير أمين على تطبيق الشريعة فيجب الانقضاض عليه لأن الأصل هو للشريعة وليس للولي.
وهنا يُفصِّل بين الأحكام الواضحة في الشريعة وهي التي على الأمير التزامها، وبين الأمور التي تُترك للأمير كصاحب حق في الولاية وفي التصرّف وفي التدبير.. طالما أنه يحقق الهدف التالي: “إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً… وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم وهو نوعان: قسم المال بين مستحقيه.. وعقوبات المتعدين”..
ثم يدخل بعد ذلك في تفصيلات الأمور..
إلا أن الذي يمكننا استفادته هو تأسيسه للأمور التالية:
أولاً: الحاجة في أي إمرة إلى معرفة الفارق بين الأصول الثابتة في الشريعة (وهي التي تحتاج إلى فقيه)..وإلى الأمور التدبيرية وهي التي يعود الأمر فيها إلى صاحب الإمرة مما يفتح للأمير مساحاتٍ واسعة من حق التصرّف والتقرير وتقليب الأمور ووجوه المواقف.
ثانياً: لو فرضنا أن شخصاً ما كان ينتمي إلى جماعة ما لها أميرها،.. فإذا قدَّر ذاك الشخص خروج الأمير عن ظاهر حكم الشريعة فإنه يقوم عليه أو يتركه،.. فإذا تصدى لدعوة جديدة أمكنه تأسيس إمرةٍ جديدة.. وبحسب ابن تيمية، فلا ضرورة لكون الإمارة واحدة…
ثالثاً: يمكن الاستفادة من هذه الرسالة؛ التفريق بين الإمرة بالمعنى القيادي.. وإمرة الفقيه الذي يعالج الموقف الفقهي..
والنقطة الأخيرة هي التي فتحت المجال واسعاً لبناء حركات دعوية سلفية فيها الفقيه وفيها الأمير.. والتي على أساسها بدأ الزرقاوي حركته الدعوية في الأردن، إذ كان فقيه الدعوة “المقدسي” وكان هو “الأمير”.
بعد ابن تيمية فإن “محمد بن عبد الوهاب” يمثّل المحيي الفعلي لفكرة السلفية،.. هذا علماً أن الباحثين فيه عدّوه مجرّد ناقل لأفكار “ابن تيمية”.. إلا أنه لا يخفى على أحد حجم الدور الذي قامت به “الوهابية”..
أما الأمر الجديد الذي أكّد عليه “محمد بن عبد الوهاب” فهو ما أورده في “كتاب التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد”.. إذ صاغ الكتاب بمضامين عقيدية حادّة تحمل طابع التقنين الفقهي، حتى تحولت القناعات العقائدية إلى مجرّد حرام وحلال وجائز وواجب…
ومن أكثر الإقحامات التي قام بها قوله: “إن العبادة هي التوحيد، لأن الخصومة فيه”.
واعتباره أن لا أحد معذور لأن “الرسالة عمَّت كل أمّة”.
ثم ذهابه إلى أن التوحيد بما هو عبادة تستقيم بحسب شرح “ابن عبد الوهاب” لها، لا يكفي مجرّد الاعتراف فيها، بل لا بدّ من التزام “المسألة الكبيرة – وهي – أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت… والطاغوت عامٌ في كل ما عُبد من دون الله”.
بعد هذا يأخذ ليبين كيف يكون اتباع الكفر والطاغوت فيصل لدرجة “أن من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه”.
وليعتبر أن “سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين”.
وليفتح المجال أمام القول: إن “من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحلّ الله، أو تحليل ما حرَّم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله”.
وهكذا يصبح كل موقف فقهي إنما يأخذ أصالته من عنوان التوحيد الذي صاغه “محمد بن عبد الوهاب” حسب فهمه الخاص.. مما جعل الدارسون له يعتبرون أن كل رأي أو كل مرة يكون الكلام فيها عن الكفر والكافرين فإنما يكون المقصود بهم الذين لم يفهموا التوحيد على الطريقة الوهابية..
بل إنه أسقط علاقة الأمم قبل الإسلام مع الأوثان والأصنام على كل فرقة إسلامية تمارس علاقة مع قبول الأولياء…
كما أنه حكم على البدو بالكفر – وبطريقة قبلية ملفتة – إذ اعتبر أن كفرهم أعظم من كفر اليهود..
وحاد عن طريقة ابن تيمية في “عذر الجاهل” ليعتبر أن كل قول أو عمل فيه مخالفة لرسول الله (ص) إنما هو تكذيب للنبي (ولا عذر لأحدٍ في ذلك).. وهذا ما فتح المجال عند السلفية التكفيرية للأخذ بالمظنّة والقطع في الحكم والموقف التكفيري..
إذ إن “ابن عبد الوهاب” اعتبر أن الجدال في مثل هذه الأحكام أقلّ ما يقال في صاحبه أنه “فاسق لا يقبل خطه ولا شهادته، ولا يصلّى خلفه، بل لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم”[1].
وما ذلك إلا لأن أي ترك لآراء الوهابية كان يعتبرها بحسب مفاد رسالة تأنيب أرسلها لأحد تلامذته في الإحساء.. إنها:
1- خروج عن دين الإسلام.
2- وقوع في الشك يتبعه الشرك.
3- مداهنة أعداء المسلمين.
4- تبرؤ من ملة إبراهيم..
هذا وكان يذهب للقول أن المذهب الأشعري هو الذي أطاح بحقيقة التوحيد.. وجعل الإسلام غريباً.. لذا فقد قامت دعوة “بن عبد الوهاب” على الركائز التالية:
أ- إعادة معنى التوحيد، وبالتالي تبيان حقيقة معنى الإسلام.
ب- إعادة بعث الإسلام بعد أن كان غريباً..
ج- تجميع أهل الحق وإن قلوا..
د- ربط مواقفه بالمصاعب التي مرّت لتبيان حقيقة التوحيد بصبر رسول الله على الأذى، وصبر أحمد بن حنبل في مواجهة السلطان..
ورفض ابن تيمية للباطل وعسكره وقتاله لتثبيت مبدأ التوحيد والسلفية…
ليشكل بذلك إعادة لحلقة “الإحيائية الإسلامية” بمنهجية مذهبية حرْفية… وببعد نفسي يصمد أمام المصاعب لأن في ذلك كل وجوه الحق،.. وبذاكرة تاريخية مشبعة بالمواجهات والتحديثات..
وهذه العناصر الثلاث تأذن بإعطاء أي دعوى قوة حضور واستمرار وصلابة موقف ينبغي أن لا نستهين في قدرته على الاستمرار، بل وعلى تجديد نفسه أيضاً..
يتبع...
*الشيخ شفيق جرادي