لكن هذا التغییر لم يكن عميقا في جميع طبقات وشرائح المجتمع العربي آنذاك وكانت الدوافع مختلفة باشهار الاسلام.. وهنا ايضا يسعفنا القران الكريم عندما يكشف عن حقيقة بعض المتأسلمين: { قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ...} (سورة الحجرات: 14).. وفي آية اخرى: { اَلأَعَرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِه} (سورة التوبة: 97(.
لذلك ورغم التهديدات التي اطلقها الوحي قرآنيا وبتعبيرات نبوية (حديثيا) في التحذير من الردة القيمية والانقلاب على الاعقاب.. فبعد الانقلاب الذي حصل على السلطة الشرعية والقیمیة والمنصوص عليها بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، لم يكن غريبا ان يصبح بعد ثلاثين سنة فقط من رحيل المؤسس والنبي (صلى الله عليه وآله)، شخص طليق كمعاوية، لايشك في نفاقه وهناك كثير من الادلة بانه ممن لم يدخل الايمان قلوبهم.. وابن أبي سفيان رأس الكفر وأعدى أعداء النبي صلى الله عليه وآله، محاربا لربيب الوحي ومن وصفه القران الكريم بنفس رسول الله (ص): { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } (آل عمران: 61).. ومن ثم خليفة على المسلمين!
لكن الغریب هو ان يورّث معاوية السلطة لابنه الفاجر والمتجاهر بالفسق يزيد ویجعله خلیفة على المهاجرين والانصار!
ومع استخلاف معاوية لابنه يزيد، ظهر أن الأمة تحتضر بعد ستة عقود فقط من قيامها بعد الهجرة النبوية وخمسة عقود على رحيل مؤسسها، رغم مَن فيها مِن الأحياء!
معاوية داس بقدمه على صلحه مع الأمام الحسن عليه السلام منذ اليوم الأول للصلح.. وقمع وقتل اغلب الاصوات التي عارضته بل والتي لم تتخذ موقفا معاديا من أهل البيت عليهم السلام، ووصل الامر الى اغتيال الامام الحسن عليه السلام نفسه، وقتل العديد من الصحابة رضوان الله عليهم.. وسفه وتجاهل المهاجرين والأنصار وأبناءهم، وأخذ من أكثرهم البيعة بحدّ السيف لابنه الفاجر، نديم القيان والقردة باتفاق جميع المسلمين، الا الشواذ منهم وهم معروفون بنصبهم لآل البيت، بل لكل المسلمين دون استثناء.. وتعرفون من أقصد!
هذه التغييرات القيمية أو في الحقيقة العودة الى قيم الجاهلية، والتي طالت النخب واسماء لامعة من الصحابة وابناءهم، كانت بحاجة الى صدمة عنيفة والى "لا" كبرى من فم رجل كبير يمثل الرسالة المحمدية برمتها وبقيمها وبالخط النقي والناصع لصاحبها.. حتى لو كانت النتيجة كارثية بموازين أهل الارض...
نعم كانت الأمة ممدة على سرير الفناء وبحاجة الى عملية إحياء كالتي تحصل اليوم في المشافي وغرف الانعاش، بحاجة الى هزة كبيرة تعيد النبض الى قلوب ابناءها بعد ان اماتهم القهر والخوف وشراء الذمم واللامبالاة...
ولم يكن في الكون بأسره من يستطيع ان يقوم بمهمة الثورة والاحياء هذه غير سبط النبي وريحانته وسيد شباب أهل الجنة وخامس اصحاب الكساء الذين نزلت بحقهم آية التطهير، لم يكن غير ابي الاحرار وسيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام)... فسطرها إبن علي بن ابي طالب ملحمةَ هزّت تاريخ الظلم فضلا عن عرش يزيد.. وارعبت كل الطواغيت الأرض على مدى الأيام.. وايقضت الدنيا بكل اديانها ومذاهبها وملاحدتها.. فسالت أودية بقدرها!
كربلاء التي صارت بعاشوراء الحسين (عليه السلام) قبلة للثوار يريد البعض ان يحولها الى مجرد طقوس خرافية وندب وعويل وعملية جلد للذات، بعيدا عن اهداف الثورة وغاياتها.. وبعيدا عن تلك الروح الصلبة والمقاومة التي تتجلى في منطق سيد الاحرار: (ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة...)
وهذا قتل آخر لمبادئ الرسالة واجهاض لثورة الحسين عليه السلام ونهضته، وتحريف لمضمونها بعد ان عجز الأمويون والعباسيون والسلطويون والمستعمرون من اجهاضها والقضاء عليها...
الحسين عليه السلام لم يستشهد لنلبس السواد ونرفع الرايات السود ونبكي عليه وتتحول حركته الى طقوس تطين وادماء وتجمير و... أو ليأكل فيها الغني والفقير عشرة ايام من المواكب والحسينيات ذاتها ومن نفس القدور، وينسون بعضهم لنحو 355 يوما من السنة!..بل لتعود قيم الرسالة التي تمثل الفطرة والانسانية وليروي شجرة الدين ويجعل الأمة أكثر صلابة ومقاومة..
الحسين عليه السلام ليس بحاجة الى ندبنا وبكاءنا وزناجيلنا وقاماتنا ومشاعلنا وهوادجنا.. بل نحن الذين بحاجة لان نتربى من خلال عاشوراء، ونعيش كل ايامنا، على قيم ونزاهة وعدل واخلاق ووجدان الحسين عليه السلام..فهل من مدكر؟!