لم تكن قضية العاشر من محرم مجرد معركة غير متكافئة بين فئتين، ثلة من سبعين رجلا بوجه جيش الدولة المجهز والمنظم وعدته ثلاثون الف، هذه المعركة بحسابات الفنون العسكرية لا تعد معركة بل هي عملية ضرب وتطويق مجموعة من المسلحين وتم فيها الاسراف والتعسف في استخدام القوة حيث قتل جميع الرجال واحتزت رؤسهم واقتيدت النساء سبايا الى دار الخلافة وانتهى كل شئ، حكم بنو امية احدى وسبعون سنة بعد العاشر من محرم واتسعت دولتهم الى اسيا وشمال ووسط افريقيا وفتحوا الاندلس وتوالى على الحكم العشرات من الامويين…
على الجانب الاخر كان الامام الباقر هو العقل الذي هندس تداعيات العاشر من محرم فحولها من معركة خاسرة الى قضية حية تشتعل مع الاجيال وتعيش في روح وضمير الاحرار، لم تحدد لعاشوراء هوية خاصة ضيقة، ولم تكن انقلاباً او طموحاً لنيل السلطة كما صورها الامويون ووعاظهم من رجال الدين، الذين نصبوا مجلس عزاء للبكاء على الحسين في دار يزيد، وكانت تلك المحاولة الوحيدة التي أتيحت للامويين لتحويل الامر الى قضية بعيدة عن الثورة والرفض والوقوف بوجه التوريث والاستحواذ على الدولة بالفساد والمحسوبية…
بعد الامام الباقر ورث ولده الامام جعفر الصادق فكرة الثورة ومنهجا، وقد ادرك جيداً ان الامام الحسين لم يخرج ويترك الحج خلفه لمجرد التمرد والابتعاد عن عيون الامويين الذين اعدوا العدة لاغتياله في الحرم، بل كانت فكرة الخروج والثورة قضية قديمة في فكر وممارسة الامام عليه السلام، وكان ينتهز كل فرصة للاعداد والتهيئة للثورة، وينقل العقاد رحمه الله: ان الحسين كان يستغل مواسم الحج للالتقاء بنخب من القوم الذين كانوا في العاشر من محرم هم خميرة جهود عشرات السنين من الدعوة والاعداد…
على يد الصادق عليه السلام تبلورت فكرة انتصار الدم على السيف، فما كان المحرم يلوح افقه حتى يكتسي وجه الامام الحزن وتعلوه مرارة ويعقد مجالس التذكير والتوعية بمواقف الامام الحسين وكان يقول (أحيوا أمرنا)، واحياء امر اهل البيت هو احياء للاسلام الاصيل والذي لا يتم الا من خلال مواقف عاشوراء التضحية والدم والرفض…
مر التاريخ يطحن ايامه ويحاول في كل عام ان يزعزع الفكرة الحسينية ويحولها الى عزاء وبكاء، واخذت السلطة بما تملكه من عقول وتدابير تدفع الشيعة الى التمسك بالحسين من خلال العزاء والبكاء بمحاولة ناجحة لابعاد فكرة الثورة عنهم، فتحولت مطالب الشيعة الى السماح لهم باللطم والعزاء وزيارة الضريح المقدس..
امتلأت الموروث التاريخي والحديثي بروايات وادعية تحض على زيارة الحسين والبكاء عليه ولم تتضمن تلك الروايات منهج الثورة والسير على خطى الحسين بل ان روايات الاخوة السنة ذهبت ابعد من ذلك فكانت تمنع الثورة والخروج على الخليفة حتى لو كان ظالماً فاسقاً، ومعظم الروايات تلك مقطوعة السند وضعيفة…
في العراق كان صدام يحكم بمنظومة ماهرة من فن التعامل النفسي وادارة السلوك الاجتماعي، فامر بمنع العزاء ومراسيم عاشوراء وهو يعلم جيداً ان الشيعة لن يتركوا الحسين ابداً وحتى لو تم المنع سيتحول العزاء الى باطن الارض بعيداً عن عيون السلطة ووكلاء الامن، الفكرة نجحت والطعم ابتلعه الجميع، حتى صار السماح المشروط بالعزاء مكرمة تمدح عليها الدولة ونظامها، فالحسين هو عزاء ولطم وبكاء وعند المتحمسين وصقور الشيعة زنجيل وتطبير، وهكذا ارتاح النظام من الحسين واختصره وحدد حركته في اطار منابر تتشح بالسواد وعيون تطفح دماً بعد جفاف ماءها.
اما السياسة فالجميع يرفض الحديث فيها ويقولون بالحرف الواحد: رجاءا ابعدوا المنبر الحسيني عن السياسة، نعم هم لم يصدقوا ان تتراخى يد السلطة للسماح لهم باللطم والبكاء فكيف يكون رد جميل السلطة، فالرد هو العزوف عن الحديث بالسياسة وادارة الدولة وتطبيق مناهج وسياسات بعيدة عن الاسلام والعدل الاجتماعي…
هل اصبح لدينا الامر واضحاً، ان السلوك الجمعي الذي تحول الى سياسة عامة تدعمها منظومة السلطة حددت القيم المعنوية والفكرية للعاشر من محرم وحولتها الى طقوس باردة وروتينية، تذرف فيها الدموع ويذكر فيها جهاد ومجاهدة اهل البيت للظلم والتعسف الذي تمارسه السلطات الاموية، والموقف الصعب والشجاع لسيدة البيت العلوي زينب عليها السلام وخطبة الامام العليل السجاد في مجلس يزيد، والموقفان كلاهما لا يبعثان على الحزن والبكاء بقدر ما يبثان في النفس من الفخر والاعتزاز وشحذ الهمم، ولكن السلطة البارعة حولت هذه المواقف العظيمة الى دراما وتراجيديا مؤلمة تستدر الدمع واللطم والعويل بدل الحماس والاستنفار والاقدام…
في ايران وعند وصول الامام الخميني مرحلة النضج السياسي والايديولوجي وجد في الفكر والمنهج الحسيني ملاذاً وأساساً لبناء أمة الرفض والاتحاد والثورة، وتمسك بعاشوراء وجانبها المنسي والمخفي، جانب الثورة والرفض والتمرد على السلطة الجائرة، واستطاع العودة بعاشوراء الى منابعها الاولى وحولها من ذكرى حزن ودموع الى شعلة نار واحتجاج ضد حكم الشاه ونظامه.
ولهذا فإن دول الخليج الفارسي التي كانت تتذمر وتشكو من تسلط وسطوة الشاه (شرطي الخليج) والذين كان من مصلحتهم سقوط الشاه ووصول الخميني الى الحكم بدل حزب تودة الشيوعي او بقاء شاه ايران بعصاه الغليظة فوق ظهورهم، لكنهم عندما انجلت الغبرة واستبان صبح الثورة ومنهجها الحسيني الخطير وقفوا بكل ما لديهم من اموال ومن ورائهم قوى العالم الكبرى ضد الثورة ومنهجها، والذي عزز ذلك في مواقفهم الشعارات الحسينية التي صبغت الحياة في ايران (كل يوم عاشوراء، كل ارض كربلاء)، (كل ما لدينا من عاشوراء) هل هذه الشعارات تحض على اللطم او الحزن او الزنجيل، بقدر ما تستنفر كربلاء الثورة والرفض…
والان للجادين فقط، اين تجد الحسين، في العزاء ام في الثورة؟ في السواد او البكاء، في اللطم والزنجيل والتطبير، ام الرفض وصيحة (هيهات منا الذلة) التي اطلقها الامام العليل السجاد في مجلس يزيد وهو مكبل بالقيود والاسر…
*حيدر عبد علاوي، الاجتهاد