الحج إلى رسالة مكة

الإثنين 4 سبتمبر 2017 - 06:17 بتوقيت غرينتش
الحج إلى رسالة مكة

أفكار ورؤى – الكوثر.. كلمة توجيهية ألقاها الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره بمناسبة سفره إلى حج بيت الله الحرام سنة 1387 هـ

أستودعكم الله، رزقكم الله السفر إلى بيت الله الحرام بمعناه الحقيقي الذي هو السفر إلى مكة، وبمعناه الأشرف من هذا المعنى الحقيقي وهو سفر إلى أهداف مكة، وإلى رسالة مكة، وإلى تلك المراتب العالية التي ترمز إليها مكة، فإن مكة بمعناها المادي يحج إليها بهذه العملية التي نحن نفكر فيها.

وأما مكة بمعناها الرسالي العظيم، بالمعنى الذي يرمز إلى نهج في الحياة وأسلوب في العيش ونظام للمجتمع بهذا المعنى لابد وأن يحج إليها بأسلوب آخر من الحج ويعمل لها بنحو آخر من العمل، فهي أشرف من هذا الحج الذي سوف نحجه مئات المرات؛ لأن ذلك الأسلوب هو الجهاد في سبيل الله تعالى والجهاد في سبيل استعادة أمجاد هذه الرسالة وفي سبيل تحقيق أهداف مكة العظيمة، هذه الأهداف التي سعد المسلمون في ظلها، ثم شقوا باعتبار انحسارها وخروجهم عليها وتمردهم عليها.

وكل واحد منا مدعو للحج لمكة بمعناها المادي إذا تمت في شأنه شروط الحج من الاستطاعة وغيرها وكل واحد منا مدعو للحج إلى رسالة مكة بالمعنى الرمزي والمعنوي سواء كان مستطيعاً أو لم يكن مستطيعاً، هذا الحج الآخر ليس من شرائطه الاستطاعة، إن رسالة مكة تناديكم، تستنجد بكل واحد منكم بطاقة من طاقاتكم في سبيل الدفاع عنها وفي سبيل حمايتها وفي سبيل إيصالها إلى أكبر عدد ممكن من المسلمين.

اليوم أصبحنا نعيش في عصرٍ، الانحراف عن رسالة مكة هو القاعدة، والعود على رسالة مكة هو الاستثناء، بعد أن تغير وضع العالم الإسلامي، العالم الإسلامي بعد أن خرج عن كونه كياناً قائماً على أساس الإسلام ودخل عصر الاستعمار الذي بناه على أساس القواعد الفكرية الكافرة، صبغه بأنظمته الكافرة، دخل هذا العصر وكان بدخوله في هذا العصر كان يواجه تحولاً كبيراً، في كل وجوده، في كل تركيبه العضوي الروحي الفكري السياسي الاجتماعي، فأصبحت القاعدة فيه هي جاهلية الغرب، القاعدة فيه الانحراف عن الله، هي الانقطاع عن السماء هي التمرد على رسالة الله، وأصبح الاستثناء فيه هو الالتفات إلى مكة، الالتفات إلى رسالة مكة، إلى قيم مكة ومُثُل مكة، هذا أصبح هو الاستثناء.

وهذا معنى ما جاء في الصحيح عنهم عليهم السلام حينما تنبؤوا أن المؤمن في عصور مختلفة من عهد الغيبة سوف يصبح المؤمن القابض على دينه كالقابض على جمرة، نعم المؤمن القابض على دينه كالقابض على جمرة، لأن هذا استثناء، لأن هذا شذوذ، أصبح القبض على الدين وأصبح التمسك بالدين أصبح الوقوف على هذا الخط دون ململة ودون تذبذب وتأمل ودون تمييع، أصبح هذا كالقبض على الجمرة، يعني أصبح نوعاً من التضحية ولوناً من العذاب الذي يستعين به المؤمن الصحيح في سبيل الله تعالى، لماذا؟ لأنه بهذا الصمود يواجه تياراً عظيماً كاسحاً، هذا التيار الذي غزا العالم الإسلامي من أقصاه الى أقصاه، لكن على مراتب مختلفة، على درجات متفاوتة، لا تتصوروا أننا في منجى من هذا التيار هذا التيار يكتسح كل العالم الاسلامي لكن بهذه الدرجات.

أنتم إذا أردتم أن تعلموا مصيرنا ونحن في العراق، مصيرنا ونحن في مصر، مصيرنا ونحن في إيران، ونحن في أي جزء من العالم الاسلامي انظروا إلى أسرع بلاد الإسلام انفتاحاً على أوربا، انفتاحاً على حضارة أوربا، انظروا إلى تركيا وما وصلت إليه تركيا من انفتاح على حضارة أوربا والابتعاد عن الإسلام. هذا البلد الذي كان من البلاد التي يحكم على العالم فكانوا أسرع انفتاحاً على حضارة أوربا فكان مآله إلى ما ترون، كانوا أقرب إلى الميوعة وأسرع ذوباناً منا.

إذاً فهناك تيار جارف، هذا التيار الجارف يكتسح العالم الاسلامي، وهذه العملية سوف تتكرر، وإنما التفاوت تفاوت الزمن. هؤلاء كانوا أكثر انفتاحاً منا، وهؤلاء كانوا أقرب إلى الميوعة وأسرع ذوباناً منا إذاً فهناك تيار جارف لا بد من مقابلته والصمود في وجهه، وهذا الصمود على وجه هو معنى قوله إنّ المؤمن القابض على دينه كالقابض على الجمرة.

فلا بدّ من الصمود في وجهه لأن الله تعالى وعد المؤمنين بالنصر، فلا بد إذاً لكل إنسان منا أن يعمل قدر طاقته وقدر جهده وإمكاناته في سبيل الوقوف في مقابل هذا التيار. في سبيل أن يعطل من سيله، ومن أبدأ أوليات هذه الأساليب التي يمكن أن تتخذ في هذا الموضوع هو إنشاء المجالس للتبليغ والوعظ والإرشاد في بلادنا.

هل تصدقون أنه في النجف الأشرف نفسه، في مركز الحوزة العلمية في النجف الذي من المفروض فيه أن يموّن بإشعاعه الفكري والعلمي والروحي والديني، أن يموّن كل العالم، أو على الأقل كل العالم الإسلامي، أو على الأقل كل العالم الشيعي، هذا النجف فيه آلاف الناس لا يعرفون أحكام رسالتهم، غير منفتحين على رسالة مكة، ولا على مبادئ مكة، منجرفون مع تيارات أخرى، أو جاهلون أو مقصرون، من الذي يُسأل عن هؤلاء أمام الله. نحن نُسأل أمام الله عن منحرف انحرف عن دينه، وعن منحرف انحرف في آخر نقاط العالم الإسلامي في ظل وجود إمكانيات، فكيف لا نُسأل عن منحرف انحرف في أوطاننا، في أهلنا، في بلدنا.

كيف ندعي أننا من الدعاة إلى الله ويوجد في بلدنا من لا يعرف من الإسلام شيئاً ونحن لا نفكر فيه.

وأبسط الأشياء هو عقد المجالس، وغير ذلك وعقد الحلقة والجلسة لتبليغ الأحكام.

ولهذا لا بد وأن نفكر في أن نحج إلى بيت الله الحرام بهذا النحو الأفضل من الحج، نلتقي مع رسالة مكة، أن نلتقي مع المجاهدين الأولين من أصحاب بدر وأحُد وحنين، هؤلاء الذين بذلوا دمائهم في سبيل الله وأرواحهم ونفوسهم.

*من كتاب ومضات للشهيد الصدر