بينما كان كليم الله موسى ذاهبا إلى المنطقة المقدسة التي ورد في بعض الأخبار أنها بين مكة ومنى، وقبل أن يطأها بقدميه جاءه النداء الإلهي المقدس طالبا منه الامتثال بخلع النعلين، والخلع كما يقول أرباب اللغة هو نزع الشيء الملبوس، والذي كان عبارة عن نعلين كان الكليم ينتعل بهما، وهنا يمكن حمل القران الكريم على ظاهره حيث يأمر موسى بخلع نعليه، ولأن الظهور حجة يجوز لنا الاستناد إلى هذا الحمل على الظاهر، فيكون المراد حينها التجرد منهما حتى يباشر موسى بقدميه الوادي المقدس فيحظى ببركة الوادي من جهة قداسته...
وأما الحمل الآخر فتبعا لما جاء من روايات مؤولة للنعلين بأنهما خوفان كانا يقلقان النبي، الأول: خوف من ضياع أهله إذ تركها وهي في حالة مخاض. والثاني: خوف من فرعون الذي كان يلاحقه بجيشه العظيم.
لا نريد هنا البحث تفصيلا عن كلا الحملين، وإنما نناقش المعنى الأول القاضي بحمل اللفظ على ظاهره، ومن باب الإشارة فإن بعض المفسرين هنا قالوا بأن موسى كان ينتعل بنعلين من إهاب جلد ميتة الأمر الذي نوقش فيه من جهة عدم إمكانه ومعقوليته بالنسبة لمن هو في مقام النبوة والرسالة.
وبعيدا عن هذه الإشارة، ماذا يعني التجرد من النعلين ؟
وهل أن المراد منه هذا الخلع لهذا المصداق، أم أن المراد منه شيء أعمق من ذلك؟
يبدو والله العالم أن المراد من هذا التجرد والخلع هو التهيئة والإعداد لخطاب الله سبحانه وتعالى, فالكليم موسى كان يعد لأن يكون مبعوثا رسولا بعد هذا النداء كما جاء في الآيات وبعدها في الأخبار، والتشرف بهذه المنزلة يحتاج من الإنسان إلى تجرد من قيم الأرض وعلاقات التراب حتى يحظى بتلك العناية الخاصة، ومن هنا جاء في دعاء الندبة "واشترطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية"، ولذلك يشير آية الله المدرسي دام ظله في تفسيره لهذه الآية من سورة طه إلى أن التجرد من ارتباطات الإنسان وعلاقاته مقدمة لفهم الرسالة بتجرد.
ولاشك هنا أيضا بأن العلاقة بين خلع النعلين وبين الوادي المقدس هو أن الإنسان في الأماكن المقدسة يجب أن لا يكتفي بخشوع القلب فقط وإنما يجعل مظهره أيضا دالا على أنه خاشع لله سبحانه وتعالى. (من هدى القران ج7 ص136)
إننا نذكر هذه المقدمة لأننا ندخل هذه الأيام في موسم الحج الاكبر, وفي الحج أيضا نبدأ الواجب الأول في مناسكه ألا وهو الإحرام، وفي الإحرام يشترط نزع المخيط والتجرد منه, وكما ذكرنا في مقدمة الكلام وكيف أن موسى أمر بالتجرد من النعلين اللتين كانتا عبارة عن مجمل الارتباطات الدنيوية، كذلك الحال هنا في الحج حيث يؤمر الحاج بنزع المخيط واللباس من باب الإشارة إلى التخلي في هذه الأيام المعدودات وما بعدها عن هذه القيود، ولهذا فإن من يطالع تروكات الإحرام يلاحظ أنها في جانب منها دعوة للانسان بأن يتخلى عن علاقات الأرض وقيم التراب، ولهذا جاء في أحكام الحج حرمة الزينة بكل أنواعها من لبس الثياب التي عادة ما تكون مدعاة للتفاخر والتفاضل بين الناس واستعمال الطيب والاكتحال إذا كان لزينة ولبس الخاتم والساعة والنظر للمرآة كل ذلك إذا كان بقصد التزين، لأن فلسفة الإحرام هي هذا التجرد من كل ما يربط الإنسان بالدنيا.
ولهذا جاء عن الإمام الرضا عليه السلام: «وإنما أمروا بالإحرام ليخشعوا قبل دخولهم حرم الله وأمنه، ولئلا يلهوا ويشتغلوا بشيء من أمور الدنيا وزينتها ولذاتها، ويكونوا جادين فيما هم فيه قاصدين نحوه مقبلين عليه بكليتهم، مع ما فيه من التعظيم لله عز وجل ولبَيته، والتذلل لأنفسهم عند قصدهم إلى الله عز وجل ووفادتهم إليه راجين ثوابه، راهبين من عقابه، ماضين نحوه، مقبلين إليه بالذل والاستكانة والخضوع» (الوسائل ج9ص3)
إننا بهذه الكيفية من الإحرام وبهذا القصد من التوجه تلامس ذرات ذلك التراب الطاهر أبداننا, فنحظى ببركة تلك المناسك المشرفة التي زادها الله شرفا بتقلب أوليائه فيها من الرسل والأنبياء. نسال الله عز وجل أن يكتبنا من حجاج بيته الحرام في عامنا هذا وفي كل عام.
*الشيخ عبد الغني عباس