إنّ السيدة عائشة من زوجات النبي وأُمّهات المؤمنين لها من الشرف والكرامة ما لسائر نسائه (صلى الله عليه وآله وسلم) غير خديجة ـ رضي اللّه عنها ـ فقد رأت النور في بيتها، وعاشت معه فترة طويلة، ولم يشك أحد من المسلمين القدامى والجُدد في براءتها من الافك الذي صنعته يد النفاق، ونشره عميد المنافقين وأذنابه «عبد اللّه بن أبي سلول» في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحدّث عنه القرآن في آيات، يقول سبحانه: (إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالاِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْـرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْـرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظيمٌ) [327].
( وَلَولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذا سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظيمٌ ) [328].
وكفى في براءتها أنّه سبحانه سمّى النسبة إفكاً وبهتاناً عظيماً وأوعد من تولّـى كبره بعذاب أليم.
ولأجل إيقاف إخواننا أهل السنّة على موقف الشيعة من هذه المسألة نأتي بنص أحد أقطاب التفسير من علماء الإمامية في القرن السادس، أعني: الشيخ الطبرسي (471 ـ 548هـ) مؤلف «مجمع البيان في علوم القرآن»، الذي طبق اسمه وكتابه أقطار العالم الإسلامي، يعرفه كل من له صلة بالتفسير وعلومه.
يقول (رحمه الله) بعد نقل آيات من سورة النور فيما لها صلة بالموضوع:
«روى الزهري، عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وغيرهما، عن عائشة أنّها قالت: كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، وذلك بعد ما أنزل الحجاب، فخرجت مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى فرغ من غزوه وقفل.
- أنّها كانت غزوة بني المصطلق من خزاعة قالت: ودنونا من المدينة، فقمت حين أذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل، فلمست صدرتي فإذا عِقد من جِزْع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني فحملوا هودجي على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أنّي فيه، وكانت النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلهنّ اللحم ولم يغشهن اللحم إنّما يأكلن العُلقة من الطعام، فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عِقدي، وجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فسموت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنّ القوم سيفقدوني فيرجعون إليّ، فبينا أنا جالسة إذ غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان، المعطل السلمي قد عرّس من وراء الجيش فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني، فخمرت وجهي بجلبابي وواللّه ما كلّمني بكلمة حتى أناخ راحلته، فركبتها، فانطلق يقود الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في حر الظهيرة فهلك من هلك فيَّ. وكان الذي تولّـى كبره منهم عبد اللّه بن أبي سلول، فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمتها شهراً والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يرثيني في وجعي، غير أنّي لا أعرف من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) اللطف الذي كنت أرى من حين اشتكي إنّما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ فذلك يحزنني ولا أشعر بالسرّ ـ إلى أن قالت: ـ استأذنت رسول اللّه إلى بيت أبي فأذن لي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فجئت أبوي وقلت لا ُمي: يا أُمّاه ماذا يتحدث الناس؟ فقالت: أي بنية هوني عليك، فواللّه لقلّ ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلاّ أكثرن عليها، قلت: سبحان اللّه أوقد يحدث الناس بهذا؟ قالت: نعم، فمكثت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا اكتحل بنوم.
ثمّ أصبحت أبكي، ودعا رسول اللّه أُسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، فأمّا أُسامة فأشار على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالذي علم من براءة أهله وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود فقال: يا رسول اللّه هم أهلك ولا نعلم إلاّ خيراً، فأمّا علي بن أبي طالب ـ عليه أفضل الصلوات ـ فقال: لم يضيق اللّه عليك والنساء سواها كثيرة، وإن تسأل الجارية تصدقك، فدعا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بريرة، فقال: يا بريرة! هل رأيت شيئاً يريبك من عائشة ؟ قالت بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً قطّ أغمضه عليها أكثر من أنّها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها.
قالت: وأنا واللّه أعلم أنّي بريئة، وما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولكنّي كنت أرجو أن يرى رسول اللّه رؤيا يبرئني اللّه بها، فأنزل اللّه تعالى على نبيه وأخذه ما كان يأخذه من برحاء الوحي حتّى أنّه لينحدر عنه مثل الجمان من العرق في اليوم الثاني من ثقل القول الذي أنزل عليه، فلما سري عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أبشري يا عائشة أما اللّه فقد برّأك، فقالت لي أُمي: قومي إليه، فقلت: واللّه لا أقوم إليه ولا أحمد إلاّ اللّه، فهو الذي أنزل براءتي فأنزل اللّه تعالى: (إنّ الّذينَ جَاءُوا بالإِفْكِ) الآيات العشر [329].
هذه مقالة الشيعة ولو كان لهم ولغيرهم من سائر الطوائف الإسلامية كلام في حقّ السيدة فإنّما يرجع إلى وقعة الجمل وهي ذي شجون ولأعلام المسلمين ومحققي التاريخ كلمات حولها ومن أراد فليرجع إليها.
اللّهم ارزق المسلمين توحيد الكلمة، كما رزقتهم كلمة التوحيد.
[327] . النور: 11.
[328] . النور: 16.
[329] . الطبرسي: مجمع البيان: 4/130، ط صيدا، لبنان.
الشيخ جعفر السبحاني