إذا أردنا أن نختبر أنفسنا في معرفة مدى حبّنا لله عزّ وجلّ، فثمّة دلائل وإشارات وأسئلة، نتبيّن من خلال طرحها بصراحة والإجابة عنها بصدق على مستوى هذا الحبّ، ومن ذلك:
1- استصغار الطّاعة واستعظام الذنب
سأل أعرابي الإمام علي (ع) عن درجات المُحبِّين، فقال (ع): "أدنى درجاتهم مَنِ استصغر طاعته واستعظم ذنبه، وهو يظنّ أن ليس في الدارين مأخوذٌ غيره. فغشي على الأعرابيّ (غاب عن الوعي)، فلمّا أفاق، قال: هل درجة أعلى منها؟ قال: نعم، سبعون درجة"!!
إنّ (استصغار الطاعة) و(استعظام الذنب) كفيلان بإصلاح حال المُحبّ ورفع درجته عند الله. بل أنّ بعض المُحبِّين يطلبون إلى الله تعالى أن يُنسيهم حسناتهم وأعمالهم الصالحة، حتى لا يشعروا بحالة المنّ، ويسألوه أن يضع سيِّئاتهم ومنكراتهم دائماً تحت أعينهم حتى يتوبوا ويستغفروا ويستدركوا.
واستصغار الطاعة ليس حالة تواضعيّة فقط، بل إنّ الإنسان المُطيع لو قارنَ نفسه بأهل الطاعة من الأنبياء والأوصياء والأولياء والعلماء، لرأى أنّ أعماله في قِبال أعمالهم قطرات في بحر. كما أنّ استعظام الذنب ليس مبالغة أو تضخيماً للجرم، بل لأنّ المُحبّ الحقيقي لا ينظر إلى حجم الجرم، بل ينظر إلى مَن عصى فيستعظم جرمه وجرأته ووقاحته وتعدِّيه، وهذا المنحى التربوي يساعد على الارتقاء في درجات الحُبّ.
2- عدم اجتماع حُبّين مُتناقضين في القلب
قال رسول الله (ص): "حُبّ الدُّنيا وحُبّ اللهِ لا يجتمعان في قلبٍ أبداً".
هذا أيضاً مجسّ آخر للاختبار، فحبّ الدنيا المُراد منه الاستغراق والانشغال فيها وبها لدرجة نسيان الله والآخرة، والانصراف عن ذكر الله، والابتعاد عن المسؤوليّات الشرعية المُترتِّبة بذمّة كلّ إنسان مكلّف، أمّا طلب الدنيا للآخرة فهو من الآخرة، وقد ميّز المُحبّون بين الإثنين.
يدخل الإمام علي (ع) على صاحبه (عاصم بن زياد) فيرى سعة داره، فيقول له: ما تفعل بهذه الدّار وأنتَ إلى سعتها في الآخرة أحوج؟ ثمّ يستدرك (ع) فيقول: ونعم، إذا قريتَ بها الضّيف، ووصلتَ بها الرحم، وأخرجتَ منها الحقوق، فقد طلبتَ بها الآخرة.
وجاء رجل إلى الإمام الصادق (ع) وقال له بأنّه يحبّ الدّنيا، فقال له: كيف؟ فقال: أحبّ أن يوسِّع الله عليَّ فأحجّ وأتصدّق وأصل إخواني وأرحامي، فقال له، هذا ليس طلباً للدنيا بل هو طلب للآخرة.
فالتناقض بين حبّ الله وحبّ الدنيا هو الناتج عن الحبّ الدنيوي الذي يجرّ إلى الأخطاء والخطايا والاستكبار والاغترار والتعالي والتفاخر، وإلا فالمُحبّون لله يرفعون قوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص/ 77)، شعاراً للتوازن في حياتهم.
3- تحبيب الله تعالى إلى خلقه
أوحى الله تعالى إلى نبيِّه موسى (ع): "أحببني وحبِّبني إلى خلقي. فقال موسى: يا ربِّ! إنّكَ لتعلم أنّه ليس أحد أحبّ إليَّ منكَ، فكيفَ لي بقلوبِ العباد؟ فأوحى الله تعالى إليه: ذَكِّرهُم نَعمَتي وآلائي، فإنّهم لا يذكرون مني إلا الخير"!
وأوحى سبحانه إلى نبيِّه داود (ع): "أحبِّني وحبِّبني إلى خَلْقي. قال: يا ربّ! نعم، أنا أحبّك، فكيفَ أحبِّبك إلى خلقك؟ قال: اذكر أياديَّ ونعمتي عندهم، فإنّك إذا ذكرتَ لهم ذلك أحبّوني". وأيادي الله: جوده وكرمه وإحسانه وتفضّله وعفوه وصفحه.
إنّ مهمّة المُحبّ مشتركة: (حبّ) + (تحبيب)، لأنّه يحبّ لغيره ما يحبّ لنفسه، فهو يريد للآخرين أن يتذوّقوا حلاوة حبّ الله، كما تذوّقه هو، أمّا مساحة الجنّة – التي عرضها السماوات والأرض – فتسعهما بل تسع كلّ المُحبِّين، ولو أنّ أهل الأرض كلّهم جميعاً كانوا من المُحبِّين المُطيعين له، لما كانت هناك أزمة سكن في الجنّة.
4- حبّ ذكر الله تعالى على كلِّ حال
في الخبر عن رسول الله (ص): "علامة حبّ الله تعالى حبّ ذكر الله" لساناً وقلباً وعملاً وفي المواطن والمواقف كلّها: رخائها وشدّتها، ذلك أن من طبيعة المُحبّ أنّه يحلو له أن يتغنّى باسم محبوبه، وأن يذكره ويتذكّره في كلِّ حين، حتّى ليشغل المحبوب أحياناً محبّه فلا يرى الحسن والمحاسن إلّا فيه.. وهذا في حُبِّ الإنسان للإنسان، والذين آمنوا أشدُّ حُبّاً لله.
5- قيام اللّيل
فيما أوحى الله تعالى لموسى (ع): "كذبَ مَن زعمَ أنّه يحبّني، فإذا جنّه الليل نامَ عنِّي، أليس كلّ مُحبّ يحبّ خلوة حبيبه؟! ها أنا ذا يا ابن عمران مُطّلع على أحبّائي إذا جنّهم اللّيل حوّلتُ أبصارهم من قلوبهم، ومثلتُ عقوبتي بين أعينهم، يُخاطبونني عن المشاهدة، ويُكلِّموني عن الحضور".
اللّيالي لخلوات المُحبِّين، واللّيل عند مَن أحبّ الله وأحبّه الله، أطيبُ وأخصبُ أوقات اللِّقاء، لأنّه أطرَد للرِّياء، وأبعد عن صخب النهار، وأفتح لأسارير القلب، وأرقى في الدرجة.
يقول تعالى مخاطباً حبّيبه النبي (ص): (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا) (المزمل/ 6-7).
ليلُ المُحبِّين – ولعلّك جرّبتَ ذلك في ليالي شهر رمضان وليالي القدر – حافل بفرحة اللِّقاء بالله ومناجاته واحتضانه لمحبوبه في كل آلامه وآماله.
6- حبّ النبي (ص) وآله (ع)
الحبّ – كما سبقت الإشارة – بعضه من بعض، وهو واحد لا يتجزأ حتى وإن بدى حبّاً متفرِّعاً أو متعدِّداً، يقول خير مَن عرفَ الله وأحبّه، النبي (ص): "أحِبُّوا اللهَ لما يغذوكُم به من نِعَمِه، وأحِبُّوني لِحُبِّ اللهِ، وأحبُّوا أهل بيتي لحُبِّي".
المصدر: البلاغ