قيل في شرح الحديث: معناه لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساوئهم ويقول فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم أي أسوأ حالاً منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم وربّما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنّه خير منهم.
وثمة طريقتان أساسيتان لا ثالث لهما للنظر إلى العالم، فبوسعك التحلي بنظرة للعالم تتميز بالإيجابية فتصير شخصاً إيجابياً وترى العالم في إطار الخير والإحسان والتعايش، وتصير أكثر تفاؤلاً حيال ذاتنا وأكثر سعادة وفاعلية، أو التقوقع بنظرة تتسم بالسلبية والخبث تجاه العالم ومَن يحيط حولنا، فلن نرى سوى المشكلات والظلم في كلّ مكان، ونرى القيود وعدم الإنصاف بدلاً من رؤية الفرص والأمل، وهكذا نقع فريسة للتطرُّف والانعزالية والقطيعة مع كلّ شرائح المجتمع أو جلّها.
وحين تترسّخ النظرة لدى المفكِّر الإيجابي، فإنّه بلا شك سيقبل على مجتمعه يخالطه، ويناصحه، ويعايشه في كلّ الظروف، ويصبر على ما قد يترتّب على ذلك من أذى.
ويُرسِّخ النبيّ (ص) هذا المعنى الإيجابي بذكره لقصّة نبيّ من الأنبياء ليعلّم أُمّته كيف تكون علاقتهم الإيجابية مع المجتمع حتى لو حصلت لهم الأذية في سبيل الخير والفلاح الذي يحملونه لمجتمعهم.
فعن عبدالله بن مسعود، قال: كأنّي أنظر إلى النبيّ (ص) يحكي نبيّاً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، فهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: "ربّ اغفر لقومي، فإنّهم لا يعلمون".
لذا يجب علينا أن نسأل أنفسنا عن حقيقة مشاعرنا تجاه الآخرين، هل هي مشاعر إيجابية؟ أم مشاعر سلبية؟ حتى ننجح في إدارتها للوصول إلى أعماق الناس بأقل مجهود وأقصر الطرق نجاحاً لفتح مغاليق القلوب، إذن المشاعر السلبية = لا تعايش، والمشاعر الودّية = التعايش والمحبّة والتقدُّم إلى الأمام.
يعتمد النجاح الاجتماعي دوماً على العلاقات الإنسانية، وإنّ بناء علاقات إنسانية ناجحة يبدأ بمحبّة الناس ابتداءً، فمحبّة الناس لنا هي أصلاً انعكاس لهم، فيفتح الناس لنا قلوبهم كما تفتح الزهور لأشعة الشمس.
ولذلك ربط النبيّ (ص) هذا الحبّ بالإيمان لأنّه أوثق العُرى، وأقوى رابطة اجتماعية، فجعل مما ينجي العبد بعد الإيمان بالله، هو محبّة الآخرين وجعل ذلك من السبعة الذين يظلّهم في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه، وقال (ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".. فحين نحبّ الآخرين بصدق، فإنّنا نساعدهم على الإحساس بالأمن والطمأنينة، ونؤكِّد قيمتهم الأساسية، ونُسهِّل لهم أن يعيشوا قوانين الحياة من التعاون والمشاركة، والانضباط، والاستقامة.
ويتجلى الحبّ الحقيقي للآخرين في صور عملية شتّى، ومنها:
(محبّة الخير لهم)، و(التعايش معهم)، و(إيثارهم أحياناً) وهذه تؤدّي بالمآل إلى السلوك الإيجابي الواثق مع الآخرين ونضع رغباتنا ومتطلباتنا وحقوقنا بالتساوي مع رغبات ومتطلبات وحقوق الآخرين، مما يؤدّي إلى التساوي والتكافؤ في النتائج ويجعلهم يتقبّلون التفاعل والتعاون بدون التعرُّض والتعايش لردود الفعل أو الانتقام، بل يُشجِّع على إقامة علاقات نزيهة وصريحة وواضحة.
الکاتب : ناصر حسين الأسدي
المصدر: كتاب ثقافة التعايش