بقلم: أ. د. نجاح هادي كبة
يعرض الباحث أبرز مؤلفات المظفر التي ارتقت به إلى أن يكون أحد أعضاء المجمع العلمي العراقي العام 1963 ودوره في الإصلاح الاجتماعي والأكاديمي وتطويره للتعليم في كلية الفقه،
إذ شمل منهجها الدروس العصرية زيادة على الدروس الحوزوية فدَّرس فيها اللغة الإنكليزية والحساب والتربية وعلم النفس ومسك الدفاتر وغيرها من المواد الدراسية، وقد تخرّج في كلية الفقه خيرة الطلاب الذين رفدوا التعليم في العراق، إذ كان يدرّس فيها أساتذة من ذوي الكفاية سواء أكانوا من الحوزة العلمية في النجف الأشرف أو من جامعة بغداد مع إجازة خريجيها للحصول على درجة الاجتهاد من الحوزة العلمية
ويتناول البحث أيضاً تحليلاً لأفكار المظفر الاجتماعية والتربوية والنفسية وعلاقتها بالنظريات الحديثة،زيادة على جهود المظفر في توحيد كلمة المسلمين ودفاعه عن الإسلام وما تعرض له الوطن العربي والإسلامي من غبن فدافع عن حقوق الشعب الجزائري والفلسطيني ورفع صوته عالياً ضد الهجوم الثلاثي على مصر سنة 1956م.
وقد وثّق الباحث بحثه بالمصادر المعتمدة التي تناولت شخصية المظفر وجهوده التعليمية والسياسية والاجتماعية والثقافية والحق بها قائمة في خاتمة البحث.
العلاّمة محمد رضا المظفر ودوره الإصلاحي الحوزوي والاكاديمي
أولاً- السيرة الشخصية/التنشئة والتكوين لشخصية الشيخ المظفر (قدس سرّه)
ولد العلاّمة الشيخ محمد رضا المظفر سنة 1905م في النجف الأشرف نشأ يتيماً (فلم يقدّر الله تعالى أن يظفر الطفل الرضيع برؤية والده ولا الوالد برؤية ولده فكفله أخوه الأكبر الشيخ عبد النبي المتوفى سنة 1337هـ وأولاه من عنايته وعطفه ما أغناه عن عطف الأبوة)، وله ثلاثة أخوة أخرون من أمه وأبيه، والشيخ عبد النبي أخوهم من أبيهم (وكانت له وجاهة بين الناس ومكانة مرموقة فنشّأ أخوته تنشئة كانت مضرب المثل بين الناس لا من حيث طلب العلم والأدب فحسب،
وإنّما من حيث الخلق الرضي والصفاء والوفاء والإخلاص الذي كان يجمع بين الأخوة جميعاً جعل الناس يعنونهم حينما يسمونهم ” بآل مظفر “، وقد شقّ الأخ الأكبر ” عبد النبي ” في وسط ذلك الزحام من طلاب العلم حتى بلغ درجة الاجتهاد، وأصبح مرجعاً من أهم المراجع الدينية … كانوا نسيج وحدهم من حيث الدماثة وإشراقة الوجه،
أما الشيخ محمد حسين فقلّما عرفت النجف نظيره … ذلاقة وظرفاً في كلامه، وكان يحسن التعبير والتصوير اذا تولّى الكلام، ويحسن حبك النكتة وإشاعة البهجة في النفوس، وقد كانت لسرعة بداهته وحضور ذهنه ثم لتعليقاته الظريفة على الأحاديث والأمثلة، شهرة واسعة بين أقرانه لم تقل إن لم تفق شهرته العلمية والأدبية).
تلقى الشيخ محمد رضا المظفر دراسته على خطا عائلته العلمية في بيئة النجف الأشرف العلمية والأدبية (تحت إشراف أخويه المحققين الشيخ عبد النبي والشيخ محمد حسن).
حياة دراسية
ابتدأ حياته الدراسية بما يتعارف عليه الطالب النجفي من حضور الدراسات الأدبية والفقهية والأصولية والعقلية، وتتلمذ على يد الشيخ محمد طه الحويزي في الأدب والأصول كما أتقن الشعر، وبرع في ذلك كله، وتتلمذ على غيره من أساتذة دروس مرحلة السطوح في ذلك الوقت، وبرز الشيخ الفقيه من ذلك كلّه،
وبعد أن انهى الدور الإعدادي (السطوح) تفرّغ للدراسات العالية في الفقه والأصول والفلسفة وحضر فيها على أخيه الشيخ محمد حسن مع أخيه الآخر الشيخ محمد حسين، كما حضر درس الشيخ أقا ضياء الدين العراقي في الأصول، ودرس الشيخ مرزا حسين النائيني في الفقه والأصول والفلسفة الإلهية العالية وانطبع الشيخ المظفر كثيراً بآراء أستاذه الشيخ الأصفهاني في الأصول والفقه والفلسفة وجرى على نهجه في البحث()،
ثم استقل بالاجتهاد والبحث بشهادة شيوخه (فقد بلغ الشيخ محمد رضا درجة الاجتهاد: فقد بدأ المؤتمون يأتمون في الصلاة به على هذا الأساس وأكثر، فقد شغل بعد أخويه الشيخ محمد حسن والشيخ محمد حسين مكانهما في الصلاة بالناس والتصدي للمراجعات الدينية، والمتتبع لتاريخ الشيخ محمد رضا مظفر يجد أن بين النصف الأول من عمره والنصف الثاني تبايناً كليَّاً في طريقة التفكير وفهم الحياة وأهداف الدين، فقد كانت المرجعية تتغلب عليه وتتملك كل تصرفاته في نصف عمره الأول،
ولكنه ما كاد يخطو إلى الثلاثين حتى ظهرت عليه بوادر التجديد والدعوة الصحيحة السليمة إلى الإصلاح الديني وتنزيهه من الشوائب التي علقت به الأمر الذي حدا به إلى البحث في إيجاد الحلقة المفقودة وتنظيم الدراسة الدينية، فهو (لم يقتصر في دراسته على العلوم الدينية بل انشغل أيضاً في غيرها من العلوم كالحساب والهندسة والجبر والهيأة وكتب في العروض كتاباً بأسلوب جديد وهو في الحادية والعشرين من عمره، وخطا في الثقافة العصرية خطوات مشابهة،
ففي تلك الفترة التي يندر فيها طرح الثقافة العصرية وكان يسعى في تعريف علماء الحوزة فيها فأسس جمعية منتدى النشر مستعيناً بأخيه محمد حسين المظفر وسائر مفكري عصره وبعد تحقق أهداف جمعية منتدى النشر أنشأ في سنة 1355هـ مدرسة عالية للعلوم الدينية هي كلية الفقه واعترفت بها وزارة الثقافة العراقية بوصفها جامعة رسمية بعد مرور سنة)، وشغل عمادتها مدة من الزمن، وأصبح عضواً في المجمع العلمي العراقي سنة 1963م، توفي رحمه الله سنة 1969م وأبّنه المجمع.
ثانياً- البعد الحوزوي والاكاديمي لشخصية الشيخ المظفر (قدس سرّه)
يتضح البعد الحوزوي والأكاديمي للشيخ المظفر من طريق مؤلفاته العديدة في الفقه والأصول والفلسفة والتاريخ والسير والعقائد والمنطق وغيرها من البحوث الحوزوية والأكاديمية التي تركت صدى في الحوزة الدينية والمجال الأكاديمي في النجف الأشرف وخارجه فله المنطق بثلاثة أجزاء أُعيد طبعه للمرة العاشرة سنة 1434هـ بقم، وله أصول الفقه بجزئين طبع في النجف في 1959-1962م، وأُعيد طبعه بقم سنة 1432هـ، وتذكرة الفقهاء للعلامة الحلي (تحقيق) طبع في النجف سنة 1949م، وجامع السعادات لمحمد مهدي (تحقيق) طبع في النجف سنة 1949، والسقيفة صدرت الطبعة الحادية عشرة في لبنان سنة 2014م،
وله مباحث (معجزة أمير المؤمنين في علمه) نشره في مجلة النجف سنة 1957م، تناول فيه موضوعات عديدة كالاستدلال على الله تعالى والقضاء والقدر وألقاه في مهرجان أُقيم في باكستان بمناسبة مولد الإمام علي (عليه السلام) نشر في مجلة النجف ومجلة الرضوان الباكستانية ومبحث آخر ألقي في المغرب سنة 1960م في مؤتمر شارك فيه الشيخ المظفر ونشر في مجلة النجف ومجلات أخرى،
وعن كتابه (عقائد الإمامية) الذي طبع سنة 1953م في النجف، قال الكاتب المصري أحمد الحنفي (ما كدت أتصفح هذا السفر حتى ملك إعجابي للذي جمعه فيه مؤلفه بين العرض الدقيق لعقائد الإمامية، فهو يعد مصدراً جامعاً مانعاً، ملمّاً بأطراف الموضوع من جميع نواحيه)، وما دفع الشيخ المظفر لتأليفه قوله (ساهم في الجناية على الإسلام ووحدته بعض الباحثين من قدماء ومحدثين عندما جانبوا الصواب والدقة في نسبة بعض تلك العقائد والأفكار إلى غير أهلها وتحميلها لهم دونما فحص أو تمحيص ودونما رجوع إلى المصادر الموثوقة في كل فرقة من الفرق التي أرخوا لها).
وللشيخ المظفر كذلك كتاب في الفلسفة الإسلامية جمع فيه محاضراته التي ألقاها على طلابه في كلية الفقه طبع بقم 1992م، وهو من إعداد تلميذه السيد محمد تقي الطباطبائي التبريزي كما تصدّى الشيخ لدراسة بعض المؤلفات النجفية كبحثه المعنون على هامش (ماضي النجف وحاضرها لجعفر محبوبة وكتاب (اليوميات) لجعفر الخليلي،
وكتاب تحفة الحليم للشيخ محمد حسين الأصفهاني)، فالعلامة الشيخ المظفر جمع إلى جانب الاهتمام بالتراث في بحوثه المعاصرة وهو ينحو إلى (جدة البحث والتفكير التي تطبع كتاباته جميعاً ويجد الباحث ملامح هذه الجدة في كتابه (المنطق) عندما يستعمل العلامات المستعملة في الرياضيات للنسب الأربع أو عندما يعرض للقارئ بحث القسمة، أو في غير ذلك مما يزدحم به هذا السفر القيم من تجديد البحث وجمال العرض وترابط الفكرة).
نظرة شمولية
الشيخ في بحوثه ذو نظرة شمولية يستند – كما هو معلوم – إلى الكتاب والسنة والحديث النبوي الشريف وأحاديث أهل البيت لكنه يأخذ بالحسبان البداية التاريخية والأساس لنشأة المسألة والحالة النفسية والاجتماعية وما يعطيه مرور الزمن من علاقة بالآراء أو العادات وتحليل نفسية الفرد وموقفه من آراء مشهورة بين البارزين من أهل الاختصاص لتميزه في العرض والمناقشة والاستدلال والرأي فهو يرى مثلاً إن الإشكال على الاستدلال ببناء العقلاء على الاستصحاب بأن بناء العقلاء بنفسه ليس حجة فيحتاج إلى إمضاء من الشارع إذا لم يثبت ردعه عنه، فلا نحتاج إلى دليل في الإمضاء غير ذلك()،
فالمظفر (كان يعيب… على بعض المشايخ الذين غالوا في الذهاب صوب الحداثة وتجاوزوا الحدود الحمراء التي تبانى عليها العرف العام بما في ذلك الإصلاحيون المحافظون بحسب ما يمكن الاصطلاح عليه . وقد كانت الإصلاحية المحافظة بالنسبة للمظفر خياراً يعكس… سمات أساسية توفر عليها الرجل)،
وبناء على ذلك حاول المظفر تحسين طرائق التدريس وأساليبه في الحوزة العلمية في النجف الأشرف التي تسير على منهاجها التقليدي على الرغم من صراعها مع أفكار بداية العصر الحديث (القرن التاسع عشر وما بعده) الحاوية على معاني التجديد والتحديث، إلاّ أنها استمرت بمنوالها التقليدي… حتى انتقدها المؤيد لسياسة التيار الإصلاحي التعليمية محمد رضا المظفر ووصف سلبيات هذه الدراسة،
بناء على مواهبه وقابلياته الفكرية والدينية (فلمع… كطالب علم وكأستاذ يتحلق حوله عدد من الطلاب وقد بدأت حلقة طلابه تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم، وتدريس العلم في النجف مجاني لذلك كثيراً ما يضيق النابهون الأساتذة بعدد طلابهم وكان الشيخ محمد رضا من أكثر ما كان يضيق بالوسطاء لقبول من يتوسطون له في حلقته، ولكنه كان يتلقى كل شيء من هذا بل أنه يتلقى همّ وغمّ بتلك الصورة التي تفيض بالبشر وتشيع في النفوس البهجة)
بناءً على ما تقدم يتضح ثقل الشيخ المظفر في المجالين الحوزوي والأكاديمي من طريق مؤلفاته – المذكورة سابقاً- زيادة على دوره في تأسيس جمعية منتدى النشر التي انبثقت عنها كلية منتدى النشر وكلية الفقه وهو مشروع حاول فيه المظفر المقاربة بين التعليم الحوزوي والتعليم الاكاديمي إلى جنب زملائه من العلماء الأعلام ولاسيما ان بعض مؤلفاته المظفر قد قرر للدراسة فيها ككتاب المنطق وكتاب العقائد لأن الشيخ أدرك ما أدركه متخصصو العلوم التربوية والنفسية المعاصرون من ضرورة تحسين طرائق التدريس وأساليبه وتطويرهما لتسهيل عملية توصيل المواد الدراسية لطالبي العلم.
محمد رضا المظفر مجدداً
تأسيس جمعية منتدى النشر
أولاً- تمهيد
قبل الحديث عن تأسيس جمعية منتدى النشر، لابد من الإشارة إلى أنّ عوامل مشتركة سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية حرّكت عقول النخبة الدينية في النجف الأشرف ودعتهم إلى مواجهة التيارات الوافدة والتبصر بواقعهم ومحاولة تحديثه لأن الإسلام دين التحديث والتجديد، فبعد انقشاع غيوم الفترة المظلمة التي حلّت بالعراق بعد سقوط بغداد على يد هولاكو (656هـ-1258م) دخل العراق في القرن التاسع عشر ” العصر الحديث ” فحدثت تغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية عكسها رجال الفكر والأدباء والشعراء، ولاسيما ان الدولة العثمانية شعرت في أواخر عهدها بالتقدم الأوربي فحاولت إصلاح ما يمكن إصلاحه في ولاياتها، ولاسيما في العراق فأنشأت المدارس الرشدية والمستشفيات وخطوط النقل وغيرها،
ثم جاء الاحتلال الإنكليزي للعراق فالانتداب والاستقلال العام 1932م وما رافق ذلك من تطور الصحافة وظهور الأحزاب السياسية واتفاق الرأي أو اختلافه، فانعكست هذه التطورات على الشخصية العراقية، والنجف مدينة مهمة من المدن العراقية التي استوعبت هذا التطور، ولاسيما أنها تستند إلى خلفية دينية وثقافية متينة وكانت الأوضاع السياسية من نشوء الجمعيات العربية القومية وبثّ الروح الإسلامية من النخبة الدينية فظهور الصراع بين المشروطية والمستبدة انعكس كل هذا على النجف الأشرف بوصفها حاضرة للحوزة الدينية العلمية بالعراق يؤمها العديد من المسلمين من أبناء القوميات الأخرى.
مرحلة فكرية
فقد شهد تاريخ النجف ” 1900-1920م ” مرحلة فكرية سياسية متميزة كانت تنضج في تنامي الوعي السياسي، والتطلع إلى الحرية، وتقييد الاستبداد واستيقاظ الشعور الوطني في النفوس. والدعوة إلى التعلم ومناداة الإصلاح وزيادة على ما تقدم كان لذلك أسباب عديدة ومتنوعة أهمها قيام الحركات الدستورية في كل من الدولة العثمانية وبلاد فارس، وتأثير المصلحين الإسلاميين والقوميين العرب والصحافة الصادرة من النجف والواردة إليها، فضلاً عن الخوف من تزايد التغلغل الاستعماري الغربي في الوطن العربي والعالم الإسلامي.
كان للصحافة وتأسيس المطابع والمدارس دور مهم في تطوير الفكر الإصلاحي في النجف . فقد دخلت النجف المعترك الصحفي وشاركت العراق في الدعوة إلى الثقافة العامة بمناحيها المختلفة، وقد ظهرت بين عامي ” 1910-1912م ” اربع صحف هي العلم، والغري، ودرة النجف، ونجف ” أشرف ” وظهرت في العشرينيات بعض الصحف كانت تغذي الثورة التي اندلعت في العام 1920م ضد الاحتلال الإنكليزي، وأهم الصحف التي وصفت المعارك والانتصارات وان لم تدم طويلاً : الفرات والاستقلال، أما في الثلاثينيات والأربعينيات فقد شهدت النجف ولادة عدد كبير من الصحف ذات الوزن العالي من جرائد ومجلات.
وقد ظهرت المواهب الصحفية الأولى بأحلى مظاهرها وعقليتها وحسن إخراجها، ثم أخذت الصحافة بالتطور بعد ذلك في العهد الجمهوري، زيادة على وجود مكتبات خاصة لأسر علمية أو عامة كمكتبة الرابطة الأدبية، إذ تبلغ الكتب في المكتبات الخاصة عشرة آلاف كتاب – بحسب علمي.