إن إسلام معاوية بن أبي سفيان لا نعني به الإسلام العام، الذي يتسع حتى للمنافقين والأعراب، من التظاهر بالإسلام والنطق بالشهادتين اللتين بهما يعصم الإسلام الدم والمال، وإنما نعني ذلك الإسلام الذي يؤمن بنبوة النبي(ص)، والإيمان بنبوة النبي(ص) هي مفتاح الإسلام، لأنه من آمن بالنبي(ص) فإنه يؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والواجبات والمنهيات..الخ، بينما الإيمان بالله فقط أو باليوم الآخر لا يستلزم الإيمان بالنبي(ص) كأهل الكتاب مثلاً، ولي في هذا مبحث قد لا يكون مفيداً أن أستعرض كل الأحاديث والروايات، وقبل ذلك الآيات الكريمة التي تتحدث عن كفار قريش، إنما سأختصر هنا، وسأخصص هذا البحث في الآيات الكريمة أولاً التي تخبرنا بأن الذين كفروا لن يؤمنوا، ومن هم هؤلاء الذين كفروا الذين أخبر الله بأنهم لن يؤمنوا، وهذا يتعلق بمدى إيمان المؤمنين بأن الله يعلم الغيب.. وهذه عقيدة يجب تقديمها على مسألة أن النبي(ص) استكتب معاوية أو أن عمر استعمله أو أن أحمد بن حنبل أثنى عليه.. فالنبي(ص) يعامل الناس حسب ما يظهرون ولو كان يعلم أنهم منافقون، وأما عمر فليس معصوماً في تولية المريب، فقد استعمل النبي(ص) -وهو أفضل من عمر– الوليد بن عقبة على صدقات بني المصطلق فخان وغدر وفسق وكذب وأنزل الله فيه «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا...» وأما أحمد بن حنبل أو أبو الربيع الحلبي أو ابن تيمية فليست آراؤهم أولى بالأخذ من آراء علي وعمار وأبي ذر وعبادة بن الصامت وأبي ذر الغفاري وأمثالهم ممن يتهمون معاوية، بل عمار بن ياسر وحده أولى من جميع هؤلاء..
وسنتوسع في ما ورد على لسان علي وعمار بن ياسر ومحمد بن الحنفية وأمثالهم من السلف الصالح.. وسأترك تلك الروايات السلفية ( البدرية والرضوانية) في ذم معاوية، وأقتصر فقط على ما ورد عنهم من (أن معاوية لم يسلم أصلاً)، فلا يدخل في هذا موته على غير الإسلام مثلاً لأن الرجل قد يسلم ثم ينافق أو يرتد.. إنما سيكون البحث في حقيقة إسلامه، هل أسلم صادقاً أم أنه استسلم فقط حتى وجد على الحق أعواناً، وهذا الرأي الأخير هو رأي السلفية العتيقة، وهو غريب عند السلفية المحدثة بل مستنكر.. ولو تأكدت السلفية المحدثة من صحة هذه الأقوال فقد يبدّعون أهل بدر من أجل معاوية، وهم قد فعلوا أكثر من ذلك، فأحالوا ذم النبي(ص) لمعاوية إلى ذم للنبي وتبرئة لمعاوية! كما في تعليلهم لحديث (لا أشبع الله بطنه) فهم حكموا بأن معاوية غير مستحق وأن النبي(ص) قد أخطأ عندما ذم غير مستحق، وأن دعوة النبي(ص) عليه ستتحول إلى أجر لمعاوية لأنه غير مستحق ولأن النبي(ص) قال -كما في صحيح مسلم- (إنما أنا بشر، أرضى كما يرْضى البشر، وأغْضَبُ كما يغضب البشر، فأيُّما أحد دعوتُ عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن تجعلها له طهورا وزكاة، وقُربة تقرِّبه بها يوم القيامة) فالسلفية العتيقة كالصحابة والنسائي كانوا يذكرون هذا الحديث في ذم معاوية، لكن السلفية المحدثة حولته إلى فضائل معاوية وأنه غير مستحق وأنه مأجور، مثلما حكمت بأنه مأجور على قتال علي ولعنه له على المنابر.. يعني أنه اجتهد فأخطأ وله أجر وذنبه مغفور، وكلما زادت جرائمه ومظالمه زاد أجره عند الله لأن له بكل جريمة أجراً وفي كل مظلمة اجتهاداً.. وهذا أثر من آثار حب الظالمين، فحب الظالمين خطير جداً وقد يطبع الله به على القلوب والأبصار، فلا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً، ومن هنا ضرورة تنبيه الناس إلى البراءة من الظالمين ومنابذتهم.
نبذة كاشفة عن معاوية وسيرته:
التفصيل في سيرة معاوية يطول ويخرج الكتاب عن الهدف المحدد من هذا الجزء المخصص في (المناقب والمثالب).. لكن كان لا بد من الاستعراض السريع دون كثير توثيق لأطوار حياته والبيئة المحيطة به لتلمس التكوينات والمؤثرات الأساسية في شخصيته التي قد نستطيع أن نفسر بها بعض القضايا التي استعصت على التفسير عند كثير من المؤلفين والباحثين في التاريخ... إذ أن البعض يصعب عليه أن يجمع بين أمرين يبدوان متناقضين في شخصية مثل شخصية معاوية.
ولد معاوية قبل البعثة بخمس سنين وقيل بسبع وقيل بثلاث عشرة وقيل غير ذلك... وكذلك اختلفوا في عمره، فقيل مات وهو ابن 82 سنة وقيل 78 وقيل 86 وقيل غير ذلك..
فإذا أخذنا المتوسط من هذا كله وقلنا أن عمره كان نحو 80 سنة، فيكون عمره يوم البعثة (7 سنوات + 23 للنبوة + 30 سنة للخلافة الراشدة + 20 سنة لسنوات ملكه) كان المجموع 80 سنة.
أما إن كان عمره يوم البعثة 5 سنوات فيكون عمره يوم توفي 78 سنة، وإن كان عمره 86 سنة فيكون عمره عام البعثة 13 عاماً، والمتوسط بين أكثر ما قيل له من عمر سنة البعثة 13 عاماً وأصغر ما قيل 5 سنوات، يكون عمره سنة البعثة نحو 9 سنوات أو عشر.
والخلاصة هنا:
يجب أن نعرف أنه نشأ في بيئة معادية للنبي(ص) وللرسالة.. سواء من ناحية أبيه أبي سفيان (قائد الأحزاب) أو أمه هند بنت عتبة (آكلة كبد حمزة) أو عمته أم جميل (حالة الحطب) أو من يكبره من أخوته كحنظلة وعمرو ( كانا أكبر من معاوية وماتا على الشرك) أو أخواله كالوليد (المقتول ببدر) أو جده من جهة أمه (عتبة بن ربيعة المقتول ببدر) أو أخو جده (شيبة بن ربيعة المقتول ببدر أيضاً)...
المقصود أنك حيث اتجهت تجد المحيطين بهذا الغلام اليافع هم من أشد قريش عداوة للرسالة وصاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام، هذا لا بد أن يكون له أثره على نفسية هذا الغلام، هذا الجو المشحون بالعداء للنبي(ص) والوحي والرسالة ثم بالعداء لقبيلة هذا النبي(ص). كان هذا الجو هو الذي نشأ فيه معاوية ولا بد أن يترك أثره البليغ فيه، ولا يتخلص من هذه الآثار إلا من امتلك قوة إيمانية كبرى لا نجدها في سيرة معاوية.
وقد ذكر أهل السير والتواريخ أن المشركين كانوا يسلطون الصبيان على النبي(ص) لأذيته، والصبيان يسهل الاعتذار عن أعمالهم أو عدم الالتفات إليها أصلاً لمجرد أنهم (صبيان أو أطفال)، بل من الطبيعي أن يندفع -تلقائياً- (الأطفال والغلمان) الذين يتربون في مثل هذه الأجواء المشحونة بالعداء ضد النبي(ص) من الطبيعي أن يندفعوا في إلحاق الأذى المعنوي أو المادي ضد الشخص الذي يسمعون من ذويهم بأنه (ساحر، كذاب، شاعر، كاهن، مجنون...الخ) فكيف إذا كان الكبار من كفار قريش يحرضون أبناءهم على هذا الأذى؟!
من الطبيعي جداً أن يكون معاوية من هؤلاء الصبية الذين كانوا -بتحريض من ذويهم- يقومون بمهمة (الأذى) كحمل القاذروات لإلقائها في طريق النبي(ص) أو عند بيته وربما لإلقائها على جسده الشريف وهو يصلي أو يدعو ربه... لأن بيت معاوية هو من أشد البيوت عداء للنبي(ص)... فهو إن حضر مجلس الرجال وجد فيه أباه أبا سفيان وجدّه عتبة وخاله الوليد بن عتبة... وإن ذهب لمجلس النساء كان فيهن هند بنت عتبة وأم جميل حمالة الحطب... وأمثال هؤلاء وهؤلاء.. وإن حضر مجلساً مشتركاً اجتمع هذا الشر والعداء كله..
إذن فمعاوية سواء من سن الخامسة أو السابعة أو نحوهما من عمره كان قد نشأ على معاداة النبي(ص) ورسالته .
ثم نعلم أن النبي(ص) قد لبث في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعو قريشاً إلى الإيمان بالله ومكارم الأخلاق واجتناب كبائر الذنوب من ظلم وكذب وغير ذلك (هذا وأمثاله موجود في السور المكية(.
وعلى هذا يكون قد مر على معاوية أحداث الفترة المكية من الدعوة الجهرية إلى تعذيب أصحاب النبي(ص) من المستضعفين إلى هجرة الحبشة إلى حصار الشعب إلى غير ذلك... وكانت قريش يومها من حيث العداوة ثلاث مستويات، فطرف مبالغ في الخصومة متطرف فيها، وآخر معتدل في الخصومة، وطرف ثالث كان -رغم بقائه على الشرك- إلا أنه كان ينافح عن النبي (ص)وأصحابه ..
وكان معاوية من الطرف المتشدد ضد النبوة تبعاً لأبيه وأمه وأعمامه... ولم يكن في الطرف المعتدل من قريش كمطعم بن عدي وأبي البختري ولا في الطرف المنافح كبني هاشم والمطلب...
وكون معاوية وأهل بيته كانوا طرفاً في الخصومة الشديدة طيلة العهد المكي والمدني لابد أن يترك هذا أثره على معاوية لا سيما وأنه لم يحسن إسلامه، فقد كان من المؤلفة قلوبهم ومن الطلقاء ومن المعتزلين يوم حنين ومن المتأخرين في إجابة النبي(ص) إذا طلبه في أمر، ثم كان بعد النبي(ص) وخاصة من عهد عثمان إلى وفاته -ممن تولى تنقص النبي(ص) وحرب أهل بيته وقتالهم ولعنهم على المنابر وتتبع أنصارهم وأنصار النبي(ص) بما أمكنه من قتل أو تشنيع أو سب أو أمر بالبراءة من الإمام علي أو قطع الفيء أو نحو ذلك من المظالم.. فمعاوية لم يحسن إسلامه كما هو حال بعض المتأخرين في الإسلام.. هذا إضافة إلى ما ارتكبه من أمور أخرى...
هناك 40 كبيرة على الأقل من أصل 70 كبيرة ارتكبها معاوية ومروية في كتب أهل السنة بأسانيد صحيحة.. التي لو ارتكبها غيره لكان الأمر في ذمه محل إجماع، لكن السلطة لها أثرها على الناس، فالأمر الذي أدى إلى تحسين صورته هو كونه حكم الدولة الإسلامية واستطاع بما أوتي من سلطة ودهاء ومال وأعوان أن يستخدم كل هذا في الدعاية لنفسه بأنه من خيار الصحابة ومن خيار الملوك وأنه المهدي وأنه من أقارب النبي(ص)... كما يفعل كثير من الحكام الظلمة عبر العصور ..
*حسن فرحان المالكي