عليه صالح الجبوري ، الملقبة بأم قصي ، المرأة التي تحملت وبصبر الضربات المؤلمة للزمن لسنوات عديدة وفي الأوقات العصيبة، دون ان تشكو للتاريخ التشرد والمعاناة، فهي من مواليد 1958 وتسكن في منطقة "العلم" بمحافظة صلاح الدين منذ ولادتها.
في سن السابعة ، فقدت العنصر الرئيسي الذي يوفر لها الامن والامان ، وهو أب طيب. تزوج في سن الثالثة عشرة وكانت نتيجة زواجه 10 أبناء.
تعتبر الحياة بكل آلامها عطية إلهية ، بل تقسم بها : "أقسم بالله وبحياتي ، رأيت آلامًا ومصائبًا في حياتي لم يرها أحد، أتمنى أن أتمكن من القراءة والكتابة في الحياة ؛ لكي أكتب قصتي، إذا أخبرتكم قصة حياتي ، سوف تمتلئ رؤوسكم شيبا ؛ "فلا تشيبون لها انتم فقط بل يشيب لها العراق ايضا"، تمسح بمنديلها برفق دموعها التي انهمرت من عيناها أمام كاميرا التلفزيون.
عندما سقطت الموصل وبيجي ، خرج زوجي وابني مع ابن أخي للاطمئنان على الوضع، "أخذوهم وقطعوا رؤوس الثلاثة"، هذا ما تقوله أم قصي.
بعد سيطرة داعش على الموصل في عام 2014 ، شرعت الجماعة الإرهابية في دخول محافظة صلاح الدين ، حيث ارتكبت واحدة من أكثر جرائمها مأساوية ؛ مأساة جرحها جديد الى يومنا هذا، وهي "سبايكر".
قبل وصف المأساة ، اسمحوا لي أن أتحدث عن سبايكر بذاتها ؛ سبايكر ليست القاعدة الجوية الوحيدة في الضواحي الشمالية لتكريت ، على بعد 12 كم من المدينة ؛ فهذا الاسم يعني "ميشيل سكوت سبايكر"، الطيار الأمريكي الذي شارك في الهجوم الأمريكي المعروف باسم عملية "عاصفة الصحراء" ، في 17 يناير 1991، جلس على مقعد طائرته المقاتلة ، على أمل الاقلاع من سطح حاملة الطائرات "ساراتوجا" في الخليج الفارسي لقصف العراق، ولكن في غرب محافظة الانبار، قطعت مقاتلة اخرى طريقه ودمرت طائرته، قُتل سبايكر وأطلق اسمه على القاعدة الجوية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، اطلقوا اسمه على القاعدة "سبايكر" ليذكرونا بالعدوان المشؤوم والمتكرر للأمريكيين وداعش، ولسنوات لن يزعج هذا الاسم مشاعر الشعب العراقي فحسب ، بل وأيضًا كان يجرح أي ضمير يسعى إلى الحرية في أي مكان في العالم ، لكي يبقى هذا الجرح يقطر دما.
في حزيران / يونيو 2014 ، 1700 جندي شاب ؛ ولكي اكون أكثر دقة، أكثر من ألف 732 شخصًا ؛ جميعهم دون سن 22 عامًا؛ معظمهم من الشيعة، غير مسلحين، أسرهم ايتام نظام صدام المقبور في مدينتي تكريت والعوجة قبل وصول عصابة داعش الارهابية، حيث تم نتقل الكثير منهم إلى صحراء تكريت، وتم رميهم من الشاحنات على شكل مجاميع ، أياديهم كانت مقيدة وأطلقوا النار عليهم في حفر كانت معدة مسبقًا ودفنوا، تم دفن البعض منهم أحياء قبل أن يصبح الرصاص الساخن ساري المفعول. ومع ذلك ، بعد سبع سنوات ، بين الحين والآخر ، يتم اكتشاف مقبرة جماعية وتخرج أرض تكريت الحارة سرا جديدا مفجعا ومؤلما من قلبها.
تمكن بعض الجنود العراقيين من الهروب من ذلك المسلخ التكفيري. وسلكوا طريق منطقة "العلم"، حيث لم يعلم أحد منهم أنه في البساتين المحيطة بنهر دجلة، كانت هناك امرأة تدعى "أم قصي" تنتظرهم، ووجد الهاربون من المذبحة أنفسهم على المياه الخضراء لنهر دجلة، لكن مع مطاردة داعش لهم وإطلاق النار عليهم كان لديهم بصيص أمل في النجاة.
صديق خالد ، ابن أم قصي ، كان من بين الهاربين من مجزرة سبايكر، اتصل به وأعطاه عنوان نقطة على الجانب الآخر من نهر دجلة، وكان 7 جنود قد فروا الى هناك، ناقش خالد الأمر مع والدته أم قصي، ولم تتردد أم قصي فقالت : خذ أختك معك، اركب السيارة وانقذ الجميع!.
تقول أم قصي: خالد قال لي، إني رجل وإذا امسكوا بي داعش أقول لهم اقتلوني .. قطعوني أشلاء ، لكن ماذا أفعل بأختي التي تبقى اسيرة في أيديهم؟ ماذا تقولين يا امي ؟!
والجواب كان .. أن داعش لا علاقة له بمن ترافقه امرأة ترتدي على وجهها خمارا، لا تقل شيئا يا خالد ، اذهب فقط!
وتقول أم قصي: " بالطبع كان هذا تكتيك داعش في الأيام الأولى لكسب ثقة الناس، (هكذا خدعوا الناس)".
انطلق خالد وشقيقته للوصول إلى نقطة موازية ، مقابل مخبأ الجنود على الجانب الآخر من نهر دجلة، حيث كان هناك زورق تجديف سابقا متمركزا قبالة الساحل بالقرب من الجنود، على خالد أن يتخذ قراره، لا خيار أمامه سوى السباحة عبر نهر دجلة ، والأسوأ من ذلك ، أن يترك أخته في هذا الجانب من نهر دجلة بامان الله، يقفز خالد في الماء ، ويتجه سباحة باتجاه القارب على الجانب الآخر من النهر ، ويضع السبعة اشخاص في القارب.
يقول خالد: "اضطررت للسباحة عبر نهر دجلة مرة أخرى لجعل القارب أخف وزناً واسراع"، اضطررت إلى السباحة ودفع القارب إلى الأمام، وبينما كان أحد الجنود يجدف، وصلنا أخيرا إلى السيارة ؛ متعب لكنه راض وسعيد بما يرضي الله، أحضرتهم بسرعة إلى منزل أمي.
أم قصي كانت تعلم جيدا أنه من يأوي فارا من داعش وحتى اذا كان فردا واحدا، وليس ايوائه، بل حتى إطعامه او ارشاده الى العناوين .. فهذا سيكلفه ذبح عائلتة جميعا واسر بناته، لا تزال ام قصي تذكر أسماء كل واحد منهم مثل أبنائها وتضحك بشدة عندما تقول أسمائهم.
وإدراكا منها للخطر الذي ينتظر الجميع ، تحركت أم قصي، أولاً ، قامت بإنشاء هويات مزورة على الورق لجميع الجنود السبعة في منزلها، تثبت ان حامل الهوية هو طالب جامعي .. وأي جامعة افضل من هذه الجامعة، في مكتب أم قصي! وهي أقدمت على هذا الفعل لانقاذهم واخراجهم من مختلف عمليات التدقيق والتفتيش التي تقوم بها عصابات داعش على الطرق، ليتمكنوا من العبور من كركوك ثم الى بغداد.
وفي احدى السيطرات التابعة لداعش كان عناصر داعش يقومون باستجواب الركاب جميعا، يتظاهر احدهم بان حالته الصحية متدهورة جدا ومغمى عليه، لتصرخ عائلته، "السكر مرتفع لديه جدا ويجب ان يعالج فورا" تنجح الخدعة ، ويغادر الناجون من سبايكر كركوك إلى بغداد بفضل اللباقة والشجاعة التي تتمتع بها هذه المرأة.
وبهذه الطريقة تسد أم قصي عيون وآذان داعش وتعمي بصيرتهم، لترى بام عينها مصاداقية الآية الكريمة "وَجَعَلْنَا مِن بَیْنِ أَیْدِیهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَیْنَاهُمْ فَهُمْ لَا یُبْصِرُونَ".
هناك رويات وقصص متعددة للناجين من مجزرة سبايكر، البعض يقول إن أم قصي أنقذت 58 جندياً، وفي رواية أخرى قيل 25 شخصا، وأم قصي نفسها تركز على 7 جنود، 7 لايحملون أي اسلحة، 7 اشخاص، 7 من ذخائر العراق النفيسة، أم قصي واحدة من هؤلاء النساء اللواتي حين تنظر اليها تفهم وترى انها تحمل نعشها لسنوات عديدة، وهو سميك وثابت، متجذرة "على مستوى ركود التربة"، من هؤلاء اللبؤات اللواتي يضحكن ويمرحن ، ولكن إذا نظرت إلى تقاطع نظراتها في عيونها الثاقبة، تغلق امامك طريق العبور، انا أكتب عن أمرأة بهذه المواصفات، وأكثر.
أم قصي لم تتوقف عند هذا الحد لتشتري نقد حياتها. انضمت الى الحشد الشعبي لتثبت مرة أخرى أنها لا تخاف الموت، وهي من هؤلاء النساء اللواتي ترتعد منهن فرائص وأجساد أشباه الرجال من داعش، الشهيد ابو مهدي المهندس قائد الحشد الشعبي تهعد بأن تكون هذه المرأة في كنف وحماية قواته.
أم العراق سنية المذهب وحيدرية السلوك، تحمل في قلبها أمنية زيارة الامام الرضا (ع)، وهي تقول دائما انها لاتشعر بالغربة ابدا حين تكون بين اخواتها واخوتها الايرانيين، المرجع الديني الاعلى في العراق اية الله السيد السيستاني اطلق على ام قصي اسم "طوعه" (المرأة التي آوت مسلم بن عقيل "ع" في منزلها بالكوفة)، أم قصي قامت ببناء حسينية بجوار منزلها.
في مكان ما ، قال احد الشاب الذين هربوا من سبايكر "هربنا من أسر وقتل داعش دون أن نعلم أننا سنعتقل مرة أخرى في محطة ام قصي ويطلق سراحنا، وقد اصبحنا اسرى عطف وشجاعة هذه المرأة.
ان اردنا ان يصف الشجاعة بجبل مرتفع، فمن المؤكد ان أم قصي ستكون أكثر ارتفاعا من قمته، وتكون هامتها اعلى من الغيوم.