أخذ مفجر الثورة الاسلامية الإمام الخميني الراحل (قدس سره)، على عاتقه مسؤولية قيادة أعظم ثورة في التاريخ المعاصر، واطاح بأكبر القواعد الإستراتيجية الغربية في منطقة غرب آسيا رغم قوة أميركا في إيران ونفوذها الذي لا يُنكر، ورغم دعم وتأييد الدول القوية في العالم للنظام الحاكم فيها.
والامام الخميني (قدس سره) قاد ثورة عجز الساسة والمفكرون والعسكريون المرتبطون بأميركا، ممن كانوا يتحكمون بمقدرات البلاد عن الحفاظ على النظام الشاهنشاهي، الذي امتد عمره الى ألفين وخمسمئة عام، رغم الدعم الأميركي الواسع والمكثف وذهبت سدىً الإستثمارات الغربية المدروسة في إيران، ومحاولات إشاعة الفساد والفحشاء بين أوساط الشباب، وترسيخ ظاهرة التحلل الخلقي وروحية اللامبالاة بين طبقات المجتمع المختلفة، علماً أن أمثال هذه الإستثمارات كانت تتم عادة على ضوء آخر نتائج البحوث والدراسات العلمية وعجزت شبكات التجسس ومراكز جمع المعلومات، التي لا تتوانى عن الإستعانة بأفضل الخبرات والمتخصصين لتحقيق أهدافها، وتنفق الأموال الطائلة في توسيع دائرة عمل تشكيلاتها وعجزت عن الحؤول دون اندلاع الثورة الإسلامية.
مرحلة الطفولة
ولد الإمام الخميني (قدس سره) عام 1320 للهجرة (21/9/1902 م) بمدينة "خُمين" - 349 كلم جنوب غربي "طهران" - في بيت عُرف بالعلم والفضل والتقوى.. ولم تمض على ولادته ستة أشهر حتى استُشهد والده آية الله السيد مصطفى الموسوي على أيدي قطاع الطرق، المدعومين من قِبل الحكومة آنذاك، وكان استشهاده (رحمه الله) في الحادي عشر من ذي القعدة عام 1320 للهجرة. وهكذا، تجرع الإمام الخميني (قدس سره) منذ صباه مرارة اليتم، وتعرف على مفهوم الشهادة.
أمضى الإمام فترة طفولته وصباه تحت رعاية والدته المؤمنة السيدة "هاجر"، التي تنتسب لأسرة اشتُهرت بالعلم والتقوى، وكفالة عمته الفاضلة "صاحبة هانم"، التي عُرفت بشجاعتها وقول الحق. وفي سن الخامسة عشرة، حُرم الإمام من نعمة وجود هاتين العزيزتين.
مرحلة الدراسة والتدريس
درس سماحة الإمام (قدس سره) في مدينة "خُمين" حتى سن التاسعة عشر مقدمات العلوم، بما فيها اللغة العربية والمنطق والأصول والفقه، لدى أساتذة معروفين. وفي عام 1339 للهجرة (1921 م) إلتحق بالحوزة العلمية في مدينة "آراك"، وبعد أن مكث فيها عاماً، هاجر الى مدينة "قم" لمواصلة الدراسة في حوزتها. وهناك، وفضلاً عن مواصلة دراسته على يد فقهاء ومجتهدي عصره، إهتم بدراسة علم الرياضيات والهيئة والفلسفة. وفي الوقت الذي اهتم فيه بكسب العلوم، حرص على المشاركة في دروس الأخلاق والعرفان النظري والعملي في أعلى مستوياته لدى المرحوم آية الله الميرزا محمد علي شاه آبادي، على مدى ست سنوات.
وفي عام 1347 هـ (1929 م) بدأ الإمام الخميني الراحل (قدس سره) بمزاولة التدريس، أي منذ أن بلغ سن السابعة والعشرين من عمره، درس سماحته بحوث الفلسفة الإسلامية، والعرفان النظري والعملي، وأصول الفقه، والأخلاق الإسلامية.
الأسرة والأبناء
اقترن سماحة الإمام الخميني (قدس سره) عام 1929 م بكريمة المرحوم آية الله الحاج الميرزا محمد الثقفي الطهراني، وكانت ثمرة هذا الإقتران ثمانية أبناء هم: الشهيد آية الله السيد مصطفى الخميني، وابن اسمه "علي" توفي في سن الرابعة، والسيدة "صديقة مصطفوي" عقيلة المرحوم آية الله "إشراقي"، والسيدة "فريدة مصطفوي" عقيلة السيد "الأعرابي"، والسيدة "فهيمة - زهراء - مصطفوي" عقيلة الدكتور السيد "البروجردي"، وبنت اسمها "سعيدة" توفيت ولها من العمر سبعة شهور، والمرحوم حجة الإسلام والمسلمين السيد أحمد الخميني، وبنت اسمها "لطيفة" توفيت وهي طفلة.
ومع أن سماحة الإمام (قده) كان يعتمد طوال حياته السياسية وجهاده على الله، ويتوكل عليه فحسب، ويستمد العون منه وحده، ويواصل خطواته بوحي من ثقته بإيمانه، إلا أن الدور الفعال والمؤثر لولده السيد مصطفى - الى جواره - طوال مراحل النهضة الإسلامية، لم يكن خافياً على أحد. ونظراً لهذا الدور الذي كان يضطلع به السيد مصطفى في تنظيم طاقات الثورة، وجمع الأخبار والمعلومات اللازمة، وإيصال نداءات قائد الثورة السرية الى الآيات العظام والعلماء وزعماء الفصائل السياسية، وإيجاد قنوات الإتصال والتواصل مع العناصر الثورية، ألقت عناصر نظام الشاه القبض عليه وأُودع السجن، ثم تم نفيه بعد إطلاق سراحه، كوالده الكبير الى تركيا، ومن ثم الى العراق. ولا شك أن الذي مهد الطريق لاستشهاده عام 1978 لم يكن غير دوره الفاعل في النهضة الإسلامية ومواصلتها.
ومن تلك اللحظة التي استُشهد فيها، ألقت المشيئة الإلهية المسؤولية التي كانت ملقاة حتى ذلك التاريخ على عاتق السيد مصطفى الخميني، على كاهل شاب لا يقل عن أخيه حنكة وتدبيراً، ألا وهو السيد أحمد الخميني.
ورغم أن السيد أحمد كان يبدو قبل هذه الحادثة المؤلمة متفرغاً لدراسته الحوزوية، إلا أنه في الحقيقة كان يتحمل مسؤوليات أخيه ذاتها في الحوزة العلمية بمدينة "قم" وسائر نقاط إيران. ففي الوقت الذي تحول بيت سماحة الإمام بالنجف الأشرف الى منطلق لتصدير الثورة وقيادتها، فإن كُلاً من إدارة شؤون البيت، وتنظيم لقاءات قائد الثورة، وتسهيل قنوات اتصال المناضلين الضرورية مع النجف، وتقديم التقارير الواردة عن اتساع النشاطات الثورية في إيران، وإبلاغ أوامر الإمام الى المناضلين، وكذلك توفير قنوات الإتصال الواسعة مع الفصائل المناضلة في الداخل، كل ذلك، كان يتحمل مسؤوليته السيد أحمد الخميني.
كان السيد أحمد، سواء في المراحل الحساسة لنضال الشعب الإيراني المسلم، أم خلال هجرة قائد الثورة الى فرنسا، أو أثناء عودته الى أرض الوطن، ومن ثم مرحلة انتصار الثورة، كان المستشار الأمين، والمدبر الواعي، والسياسي المحنك ذا الأفق البعيد، والمجاهد الذي لا يكل أو يمل، والنصير المعتمد والمريد المخلص في خدمة والده، والذي قد كرس كل جهده وهمه لإحراز رضى شيخه على طريق نيل رضى الله.
إن الدور الفريد والنادر الذي لعبه السيد أحمد، الى جوار المشعل المتقد لوجود الإمام العزيز، كان منشأ بركات يمكن مشاهدة آثارها في كل مرحلة من مراحل تاريخ الثورة الإسلامية.
وبعد رحيل سماحة الإمام، كان المرحوم حجة الإسلام والمسلمين السيد أحمد الخميني حاضراً في العديد من المؤسسات السياسية والثقافية لخدمة الثورة ونظام الجمهورية الإسلامية، وكان لا يألو جهداً في إسداء النصح وأداء الواجب. وبوصفه أحد الوجوه البارزة للثورة، كان موضع ثقة واستشارة القيادة ومسؤولي النظام.
أخذ السيد أحمد على عاتقه مسؤولية الإشراف على مؤسسة "تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني (قدس سره)"، بدافع المحافظة على تراث قائد الثورة الإسلامية الكبير، ونشر أفكاره وآرائه، ولم يألُ جهداً في استبدال المرقد الطاهر لسماحة الإمام الى مركز إشعاع للثورة الإسلامية.
وحينما ودع السيد أحمد الدنيا الفانية، بسبب عارض قلبي ألم به في 17/3/1994 م، كانت مؤسسة "تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني (قدس سره)" ومجمع الحرم المطهر لسماحة الإمام (قده)، قد حققا المكانة والمنزلة التي تليق بهما.
وبناءاً على الوصية التي تركها الفقيد السيد أحمد الخميني، أُوكلت سدانة الحرم المطهر لسماحة الإمام، ومهمة الإشراف على مؤسسة "تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني (قدس سره)" الى ولده البكر سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد حسن الخميني، لكي يبقى طريق الإمام مشعاً دائماً، وتبقى ذكرى هذا العزيز خالدة أبداً.
إن أسلوب حياة الإمام الخميني (قدس سره)، وبساطة عيشه، ولكونها نابعة من معتقداته الدينية، بقيت ثابتةً لم تتغير في مختلف مراحل حياته، وطوال مسيرة جهاده السياسي الحافلة بالأحداث.
لقد دُهِش الصحفيون الأجانب ومراسلو وكالات الأنباء العالمية، الذين سُمح لهم بعد رحيل الإمام بزيارة محل إقامة سماحته، دُهِشوا لمشاهدتهم البيت المتواضع، ووسائل المعيشة البسيطة لقائد الثورة الإسلامية الكبير. وإن ما رأَوه لا يمكن مقارنته بأي وجه مع نمط حياة رؤساء البلدان والزعماء السياسيين والدينيين في عالم اليوم.. إن أسلوب حياته وبساطة معيشته يعيدان الى الأذهان الصورة التي كانت عليها حياة الأنبياء والأولياء والصالحين.
مرحلة الجهاد والثورة
إبتدأ الإمام الخميني (قدس سره) جهاده في عنفوان شبابه، وواصله طوال فترة الدراسة بأساليب مختلفة، بما فيهما مقارعته للمفاسد الإجتماعية والإنحرافات الفكرية والأخلاقية. ففي عام 1943 م، ومن خلال تأليفه ونشره لكتاب "كشف الأسرار" قام سماحته بفضح جرائم فترة العشرين عاماً من حكم رضا شاه - والد الشاه المخلوع - وتولى الرد على شبهات المنحرفين دفاعاً عن الإسلام وعلماء الدين. كما أثار في كتابه هذا فكرة الحكومة الإسلامية، وضرورة النهوض لإقامتها.
وانطلق الإمام الخميني (قدس سره) في نضاله العلني ضد الشاه عام 1962 م، وذلك حينما وقف بقوة ضد لائحة "مجالس الأقاليم والمدن"، والتي كان محورها محاربة الإسلام، فالمصادقة على هذه اللائحة من قِبل الحكومة آنذاك كانت تعني حذف الإسلام كشرط في المرشحين والناخبين، وكذلك القبول باستبدال اليمين الدستورية بالكتاب السماوي بدلاً من "القرآن المجيد".
بيد أن سماحته هب لمعارضة هذه اللائحة، ودعا مراجع الحوزات العلمية وأبناء الشعب للإنتفاض والثورة. وعلى أثر برقيات التهديد التي بعث بها الإمام الى رئيس الوزراء وقتئذ، وخطابات سماحته التي فضحت الحكومة، وبياناته القاصمة، وتأييد المراجع لمواقفه، إنطلقت المسيرات الشعبية الحاشدة في كلٍ من مدينة "قم" و"طهران" وسائر المدن الأخرى، مما اضطُر نظام الشاه الى إلغاء اللائحة والتراجع عن مواقفه.
ودفعت مواصلة النضال الشاه لارتكاب إحدى حماقاته التي تمثلت في مهاجمة المدرسة "الفيضية" بمدينة "قم" في الحادي والعشرين من آذار عام 1963 م، وما هي إلا فترة وجيزة حتى انتشر خطاب سماحة الإمام وبياناته حول هذه الفاجعة في مختلف أنحاء إيران. وفي عصر العاشر من محرم الحرام عام 1383 للهجرة (3/6/1993 م) فضح الإمام الخميني (قدس سره) عبر خطاب حماسي غاضب، العلاقات السرية القائمة بين الشاه و"إسرائيل" ومصالحهما المشتركة.
وفي الساعة الثالثة من بعد منتصف ليل اليوم التالي، حاصرت القوات الحكومية الخاصة بيت الإمام (قده)، وتم اعتقاله وإرساله مكبلاً الى "طهران".
إنتشر خبر الإعتقال بسرعة خاطفة في مختلف أنحاء إيران. وبمجرد أن سمعت الجماهير نبأ اعتقال الإمام (قده) نزلت الى الشوارع منذ الساعات الأولى لفجر الخامس من حزيران 1963، وراحت تعبر عن استنكارها لعمل الحكومة في تظاهرات حاشدة، أعظمها تظاهرة "قم" المقدسة، التي شهدت أكبر هذه الإستنكارات، والتي هاجمتها قوات النظام بالأسلحة الثقيلة، وكان نتيجتها سقوط العديد من المتظاهرين مضرجين بدمائهم.
ومع إعلان نظام الشاه الأحكام العرفية في "طهران"، إشتد قمع تظاهرات أبناء الشعب في تلك الأيام، حيث قتلت وجرحت قوات الحكومة العسكرية الآلاف من أبناء الشعب الأبرياء. وكانت مذبحة الخامس من حزيران 1963 م بدرجة من القسوة والوحشية. وأخذت تتناقل أخبارها وسائل الإعلام العالمية والمحلية.
وأخيراً، ونتيجة لضغط الرأي العام واعتراضات العلماء وأبناء الشعب في داخل البلاد وخارجها، إضطر الى إطلاق سراح الإمام بعد عشرة أشهر تقريباً من المحاصرة والإعتقال.
واصل الإمام جهاده عبر خطاباته الفاضحة للنظام، وبياناته المثيرة للوعي. وفي هذه الأثناء، تأتي مصادقة الحكومة على لائحة "الحصانة القضائية" التي تنص على منح المستشارين العسكريين والسياسيين الأميركيين الحصانة القضائية، لتثير غضب قائد الثورة وسخطه. فما أن يطلع الإمام الخميني (قدس سره) على هذه الخيانة حتى يبدأ تحركاته الواسعة، ويقوم بإرسال مبعوثيه الى مختلف أنحاء إيران، ويعلن لأبناء الشعب عن عزمه بإلقاء خطاب في العشرين من جمادى الآخرة عام 1383 هـ.
ألقى سماحة الإمام خطابه الشهير في اليوم المعلن، دون أن يعبأ بتهديد النظام ووعيده. فانتقد لائحة الحصانة القضائية، وحمل بشدة على الرئيس الأميركي وقتئذ.
أما نظام الشاه، فقد رأى أن الحل الأمثل يكمن في نفي الإمام الى خارج إيران. ومرة أخرى حاصرت المئات من القوات الخاصة والمظليين بيت الإمام، وذلك في سَحَر يوم الثالث من تشرين الثاني عام 1964 م.
وبعد اعتقال سماحته، اقتيد مباشرة الى مطار "مهر آباد" بطهران، ومن هناك، وطبقاً للإتفاق المسبق، تم نفيه أولاً الى مدينة "أنقرة" (تركيا)، ومن ثم الى مدينة "بورساي" التركية. وقامت قوات الأمن الإيراني والتركي المكلفة بمراقبة سماحة الإمام، بمنعه من ممارسة أي نشاط سياسي أو اجتماعي.
مرحلة الإبعاد والنفي
إستغرقت إقامة الإمام بتركيا أحد عشر شهراً. وخلال هذه الفترة، عمل نظام الشاه بقسوة لم يسبق لها مثيل على تصفية بقايا المقاومة في إيران.
مثلت الإقامة الجبرية في تركيا فرصة اغتنمها الإمام في تدوين كتابه المهم "تحرير الوسيله"، حيث تطرق لأول مرة آنذاك في كتابه هذا - الذي يمثل الرسالة العملية لسماحته - الى الأحكام المتعلقة بالجهاد، والدفاع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسائل المعاصرة.
في يوم 5/10/1965 م يُنقَل سماحة الإمام برفقة ابنه السيد مصطفى، من تركيا الى منفاه الثاني بالعراق، ليقيم في مدينة "النجف الأشرف". ومن منفاه في "النجف" كان سماحة الإمام، فضلاً عن انشغاله بتدريس الفقه لمرحلة "البحث الخارج" وعرضه للأسس النظرية لمبدأ الحكومة الإسلامية، التي حملت عنوان "ولاية الفقيه"، كان يتابع بدقة الأحداث السياسية التي تشهدها إيران والعالم الإسلامي، رغم كل الصعوبات الموجودة، وكان حريصاً على إيجاد قنوات الإتصال مع الثوريين في إيران، ومع عوائل شهداء انتفاضة الخامس من حزيران، والسجناء السياسيين بشتى السبل.
وقد وفر وجود الإمام في العراق الفرصة لأن يكون على اتصال مباشر بالمؤمنين والطلبة المسلمين الموجودين خارج البلاد بنحو أفضل من السابق. وكان لذلك دور كبير في نشر أفكاره وأهداف النهضة على المستوى العالمي. فأثناء اعتداءات الكيان الصهيوني والحروب العربية الإسرائيلية، بذل الإمام الخميني (قدس سره) جهوداً كبيرة في الدفاع عن نهضة المسلمين الفلسطينيين ودول خط المواجهة، من خلال اللقاءات المتعددة التي كان يجريها مع زعماء الفصائل الفلسطينية المناضلة، وقيامه بإرسال المبعوثين الى لبنان، وإصدار فتواه التاريخية المهمة التي اعتبرت تقديم الدعم العسكري والإقتصادي لثورة الشعب الفلسطيني والبلدان التي تتعرض للإعتداءات الصهيونية، واجباً شرعياً. وكان ذلك من جملة النشاطات التي تصدر لأول مرة من أحد مراجع الشيعة الكبار.
لقد حافظت بيانات سماحة الإمام، الباعثة للوعي ونداءاته، للعزائم والهمم، التي تناولت الأحداث الداخلية لإيران، على إبقاء مشعل النضال متقداً دائماً، في الوقت الذي كان الشاه يعيش ذروة جبروته، وكان يحضر للإحتفال بمرور ألفين وخمسمئة عام على تأسيس الإمبراطورية الشاهنشاهية، وكان منهمكاً في إيجاد نظام الحزب الواحد في البلاد، حزب "رستاخيز" (البعث).
كانت خطابات الإمام ونداءاته تشحذ الهمم وتبعث الأمل في مثل هذه الظروف، وتزيد من عزم المناضلين ومقاومتهم، الذين كانوا يتعرضون في غياهب السجون الى أشد أنواع التعذيب الوحشي على أيدي أفراد "السافاك"، وهم يمضون فترات أحكامهم الطويلة.
ذروة الأحداث وانتصار الثورة الإسلامية
مثلت شهادة آية الله السيد مصطفى الخميني (رضوان الله عليه) - الإبن الأكبر للإمام (قده) - في 23/10/1977 م، ومراسم العزاء التي أقيمت في إيران، نقطة الإنطلاق لانتفاضة الحوزات العلمية ثانية، وانتفاض المجتمع الإيراني المؤمن. ومما يثير الحيرة والدهشة أن الإمام الخميني (قدس سره) وصف هذا الحادث المؤلم بأنه من الألطاف الإلهية الخفية.
وفي غضون ذلك، بادر نظام الشاه الى الإنتقام من الإمام والشعب، بنشره مقالاً في إحدى الصحف اليومية الرسمية للبلاد، يسيء الى الإمام الخميني (قدس سره)، فأثار المقال استنكاراً واسعاً بين صفوف أبناء الشعب، وقاد الى اندلاع انتفاضة التاسع عشر من "دي" (19/1/1978 م) في مدينة "قم"، والتي قُتل فيها العديد من طلبة العلوم الدينية.
ومرة أخرى تندلع الثورة من مدينة "قم" وتعم مختلف أنحاء البلاد في فترة قياسية. وقد ساعدت مراسم إقامة مجالس التأبين في اليوم الثالث والسابع والأربعين من رحيلهم إحياءاً لذكرى شهداء الإنتفاضة الأخيرة، في كلٍ من مدينة "تبريز" و"يزد" و"جهرم" و"شيراز" و"أصفهان" و"طهران"، ساعدت في بروز انتفاضات متتابعة أخرى.
وطوال هذه الفترة، كانت نداءات الإمام الخميني (قدس سره) المتتالية، وأشرطة التسجيل المتضمنة لخطابات سماحته، التي كان يدعو الناس فيها الى الثبات والإستقامة ومواصلة النضال والثورة حتى تداعي أركان السلطة وتشكيل الحكومة الإسلامية، كانت تسجَل وتوزَع على مساحة واسعة من إيران من قِبل أنصار الإمام وأتباعه.
عجز الشاه، رغم لجوئه الى ارتكاب المجازر الجماعية، عن إخماد شرارة الثورة التي اندلعت. ولم يتمكن الشاه رغم إعلانه الأحكام العرفية في إحدى عشرة مدينة، واستبدال رئيس الوزراء ومسؤولي المناصب العليا، أن يترك أي تأثير للحيلولة دون اتساع رقعة الثورة، إذ كانت البيانات الفاضحة للنظام والأوامر الجهادية التي كان يصدرها الإمام الخميني (قدس سره) تُحبط كافة المناورات والدسائس السياسية والعسكرية التي كان يلجأ إليها الشاه.
وفي اللقاء الذي جمع وزيرَي خارجية إيران والعراق في نيويورك، قرر الطرفان إخراج الإمام الخميني (قدس سره) من العراق. وفي 24/9/1978 م حاصرت القوات البعثية منزل الإمام في "النجف الأشرف"، وأبلغت الإمام بأن مواصلة إقامته في العراق منوطة بإيقاف نشاطاته السياسية، والتخلي عن النضال.
وأصر الإمام على مواصلة نضاله، ولم يركن للضغوطات البعثية، مما دفعه الى ترك "النجف الأشرف" في 24/10/1978 م، بعد ثلاثة عشر عاماً من النفي، متوجهاً الى الكويت. إلا أن الحكومة الكويتية، وبطلب من نظام الشاه، منعت الإمام الخميني (قدس سره) من دخول أراضيها. وبعد أن تشاور الإمام مع ابنه المرحوم حجة الإسلام والمسلمين السيد أحمد الخميني (رضوان الله عليه) قرر الهجرة الى باريس.
وصل سماحته باريس في 6/10/1978 م، وفي اليوم التالي انتقل للإقامة في منزل أحد الإيرانيين بـ"نوفل لوشاتو" (ضواحي باريس). وفي غضون ذلك، قام مبعوث قصر "الإليزيه" بإبلاغ الإمام طلب الرئيس الفرنسي "جيسكار ديستان"، بضرورة اجتناب أي نوع من النشاط السياسي، فكان رد الإمام حازماً، إذ صرح بأن هذا النوع من المضايقات يتعارض مع ادعاءات الديمقراطية، وأنه لن يتخلى عن أهدافه حتى ولو اضطره ذلك الى التنقل من مطار الى آخر ومن بلد الى آخر.
إن فترة الأربعة أشهر من إقامة الإمام في باريس، جعلت من "نوفل لوشاتو" أهم منبع خبري عالم، فقد أضحت حوارات الإمام ولقاءاته المختلفة مع حشود الزوار الذين كانوا يتدفقون على "نوفل لوشاتو" من مختلف أنحاء العالم، سبباً في أن يتعرف العالم أكثر فأكثر على أفكار الإمام وآرائه بشأن الحكومة الإسلامية والأهداف القادمة للثورة.
أما الشعب الإيراني، فقد صعد من حدة تظاهراته، مستلهماً توجيهات سماحة الإمام (قده) وإرشاداته. ونتيجة لاتساع رقعة الإضطرابات، شُلت حركة المراكز والمؤسسات الحكومية؛ ولم تجدِ نفعاً كل محاولات الشاه في تغيير رئاسة الوزراء، وإعلان تأسفه عن أعماله السابقة، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، الى غير ذلك..، لم تجدِ نفعاً في إخماد جذوة الثورة والحيلولة دون تنامي أحداثها.
في هذه الأثناء، أعلن قائد الثورة الإسلامية للشعب عن تشكيل مجلس قيادة الثورة وتعيين أعضائه. وقرر الشاه بدوره الخروج من البلاد في 16/1/1979 م، تحت ذريعة المرض والحاجة الى الراحة.
أثار خبر فرار الشاه من البلاد موجة من البهجة والسرور بين صفوف أبناء الشعب، وزاد من عزيمتهم على مواصلة النضال حتى إسقاط النظام.
كما أوجد قرار الإمام في العودة الى البلاد موجةً من الفرح والأمل في قلوب أبناء الشعب، مما قاد أعداء الثورة الى ارتكاب حماقات ذليلة، حيث قام نظام الشاه - بعد التشاور والتنسيق مع الحكومة الأميركية - بإغلاق مطارات البلاد بوجه الرحلات الخارجية.
تدفقت حشود أبناء الشعب الى "طهران" من شتى أنحاء البلاد، لتلتحق بالتظاهرات المليونية التي قام بها أبناء مدينة "طهران"، والتي كانت تطالب بفتح المطارات.
وانصاع نظام الشاه لمطالب الشعب، وفتح مطار "مهر آباد" بطهران، ووصل قائد الثورة الإسلامية الى أرض الوطن في الأول من شباط عام 1979 م، بعد أربعة عشر عاماً من النفي.
كان استقبال الشعب الإيراني المنقطع النظير للإمام الخميني (قدس سره) بدرجة من العظمة أجبر وكالات الأنباء الغربية على الإعتراف به، حتى أن بعضها قدر عدد المستقبلين ما بين أربعة ملايين الى ستة ملايين شخص.
وأعلن قائد الثورة عن تشكيل الحكومة المؤقتة، رغم وجود حكومة الشاه، والتي ما زالت تمارس مهامها. وفي 5/2/1979 م، وبتعيين رئيس الوزراء، كُلفت الحكومة المؤقتة بالتحضير لإجراء الإستفتاء العام وإقامة الإنتخابات.
وفي الثامن من شباط 1979 م، بايع منتسبو القوة الجوية الإمام الخميني (قدس سره) في محل إقامته بالمدرسة العلوية بطهران. وفي التاسع من شباط، وحيث توجهت قوات الحرس الشاهنشاهي الخاص الى قمع انتفاضة منتسبي أهم قاعدة جوية بطهران، أخذ أبناء الشعب ينزلون الى الشوارع لحماية القوات الثورية. وفي العاشر من شباط عام 1979 م، راحت مراكز الشرطة والمؤسسات الحكومية تسقط الواحدة تلو الأخرى بأيدي أبناء الشعب.
ولكي يتسنى لحكومة الشاه تنفيذ الإنقلاب العسكري الذي تم التخطيط له بمساعدة المستشارين الأميركيين المقيمين بطهران، أصدر الحاكم العسكري لطهران بياناً أعلن فيه عن زيادة عدد ساعات منع التجوال حتى الساعة الرابعة عصراً.
في غضون ذلك، دعا الإمام الخميني (قدس سره) أبناء مدينة "طهران"، خلال بيان أصدره، للنزول الى الشوارع وإحباط المؤامرة الوشيكة الوقوع، وإلغاء الأحكام العرفية عملياً.
ونزلت الجموع، من النساء والرجال الصغار والكبار، الى الشوارع وراحت تقيم الخنادق، وما أن أخذت تتحرك أُولى دبابات الشاه وحاملات الجنود من معسكراتها، حتى بادر أبناء الشعب الى إيقافها وتعطيل عملها. وبذلك تم القضاء على آخر جيوب القوات التابعة لنظام الشاه.
وفي فجر الحادي عشر من شباط 1979 م، أشرقت شمس انتصار الثورة الإسلامية.
تشكيل الحكومة الإسلامية ومكتسباتها
لم يكن تحقق وعود الإمام الخميني (قدس سره) وانتصار الثورة الإسلامية في إيران، مجرد حادثة داخلية قادت الى تغيير النظام السياسي، بل كانت الثورة الإسلامية زلزالاً مدمراً للعالم الغربي، كما وصفها كثير من المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين والأوروبيين في مذكراتهم التي نُشرت فيما بعد. وهكذا، ومنذ صبيحة الحادي عشر من شباط (فبراير) 1979 م، بدأ عداؤهم للنظام الإسلامي الفتي، بشكل سافر وواسع وشامل. كانت أميركا تقود جبهة الأعداء، التي ساهم فيها بشكل فاعل كلٌ من الحكومة الإنكليزية والعديد من الدول الأوروبية الأخرى، جنباً الى جنب مع كافة الأنظمة العميلة للغرب.
كما انضم الإتحاد السوفياتي السابق والبلدان الدائرة في فلكه - بسبب امتعاضهم من سيادة الدين في إيران - الى الأميركيين، وناصروهم في الكثير من مواقفهم العدائية ضد إيران.
وكان الإمام الخميني (قدس سره) يطمح، من خلال إعلان التعبئة العامة للشعب الإيراني لإعمار البلاد، الى تجسيد مثال المجتمع الديني السليم والمتطور. وبوحي من ذلك، أعلن عن تشكيل مؤسسة "جهاد البناء" التي هيأت الأرضية لحضور الكوادر المتخصصة والطاقات الثورية في المناطق المحرومة والقرى والأرياف، لتبدأ خلال فترة وجيزة عمليات شق الطرق، وإنشاء المراكز الصحية والعلاجية، وتأسيس شبكات المياه والكهرباء على نطاق واسع.
ولم يمضِ سوى شهرين على انتصار الثورة، حتى أعلن الشعب الإيراني، في واحدة من أكثر الإنتخابات حريةً في تاريخ إيران، عن تأييده بنسبة 98.2 بالمئة لإقامة نظام الجمهورية الإسلامية في إيران. وتلت ذلك الإنتخابات السياسية لتدوين الدستور والمصادقة عليه، وإقامة انتخابات الدورة الأولى لمجلس الشورى الإسلامي.
في هذا الظرف بالذات إشتد تصعيد أمواج الفتن ووتيرة الضغوط الخارجية. وكانت أميركا تسعى عن طريق طابورها الخامس، الى إنهاء النظام الإسلامي بمشكلاته الداخلية، والتمهيد لإسقاط النظام عبر إثارتها للفتن والإختلافات.
ومن أُولى الحروب التي لجأ إليها أعداء الثورة لإضعاف نظام الجمهورية الإسلامية: إغتيال وجوه الثورة وشخصياتها المهمة. وخلال فترة وجيزة غُيِبت وجوه بارزة، في طليعتها العلامة الشهيد آية الله مرتضى المطهري (عضو مجلس قيادة الثورة)، والدكتور محمد مفتح، والفريق قرني (رئيس هيئة الأركان)، والحاج مهدي عراقي وآية الله قاضي الطباطبائي.
إن أميركا ليست فقط لم تستجب لمطالب الشعب الإيراني المشروعة، الداعية الى تسليم الشاه، وإعادة الأموال والودائع الإيرانية المجمدة في أميركا، والتي بلغت اثنتين وعشرين مليار دولار، بل وضعت إمكانات واسعة تحت تصرف مسؤولي نظام الشاه الفارين، لتمكينهم من تنظيم تشكيلاتهم في الخارج، وإشهار عدائهم للنظام الإسلامي.
ونتيجة للعداء الأميركي الصارخ دفع غضب الشعب الإيراني مجموعة من الطلبة المسلمين الإيرانيين الى اقتحام السفارة الأميركية في طهران، واعتقال الجواسيس الأميركان بعد القضاء على مقاومة حراس السفارة من الأميركيين.
أيد الإمام الخميني (قدس سره) الخطوة الثورية للطلبة، ووصفها بأنها ثورة أعظم من الثورة الأولى. وقام الطلبة السائرون على نهج الإمام بنشر الوثائق التي عثروا عليها في السفارة بالتدريج في أكثر من سبعين كتاباً حملت عنوان "وثائق وكر التجسس الأميركي في إيران".
وقد كشفت هذه الوثائق، المسلَم بصحتها، النقاب عن أسرار التجسس والتدخل الأميركي الذي لا حدود له في كلٍ من إيران وبلدان العالم، وأظهرت للعيان الكثير من عملاء أميركا وأدواتها وجواسيسها، وأساليب التجسس والتحركات السياسية الأميركية في مناطق العالم المختلفة.
مثل احتلال السفارة الأميركية، التي عُرفت في ثقافة الثورة الإسلامية بـ"وكر التجسس"، فضيحة كبرى للحكومة الأميركية، وحقق للشعب الإيراني مكاسب عديدة لعل أبرزها - فضلاً عن ضمان استمرار الثورة - تحطيم الغرور الأميركي، وبث الأمل في نفوس شعوب العالم الثالث بإمكانية مواجهة القوى الكبرى وإلحاق الهزيمة بها.
إن هزيمة المخططات الأميركية التي استهدفت الإطاحة بنظام الجمهورية الإسلامية، بدءاً بالحظر الإقتصادي والعزلة السياسية التي فُرضت على إيران، ومروراً بعملية صحراء "طبس"، وانتهاءاً بمحاولات تجزئة البلاد عن طريق دعمها للتنظيمات المعادية للثورة؛ كل ذلك دفع الحكومة الأميركية للتفكير في اختيار الخيار العسكري.
وهكذا، بدأ الجيش العراقي في 22/9/1980 م، بإيحاء من الحكومة الأميركية ودعم القوى الكبرى، عدوانه العسكري الواسع على امتداد 1289 كم من الحدود المشتركة مع إيران. وتزامناً مع تقدم هذه القوات، قامت الطائرات العراقية، في الساعة الثانية من عصر ذلك اليوم، بقصف مطار "طهران" والعديد من المدن الأخرى.
قوبل خبر شن العراق للحرب ضد إيران، رغم أهميته القصوى، بصمت مطبق من قِبل المحافل الدولية والقوى العالمية كافة. بيد أن ما يثير الإعجاب ويبعث على التأمل الى حد كبير، ردود الفعل الأولية التي صدرت عن الإمام الخميني (قدس سره)، التي عكستها بياناته وخطاباته التي تطرقت الى اعتداء الجيش العراقي من أبعاد مختلفة. إلا أنه لا يتسع - للأسف - المجال هنا للحديث عن دقائقها وخصوصياتها.
أصدر الإمام على الفور أمر المقاومة. وفي أول تحليل له خلال خطاب ألقاه، إعتبر أميركا المسبب الأساس لهذه الحرب والمحرك لصدام (الرئيس العراقي) والداعم له، وطمأن الشعب الإيراني بصريح العبارة بأنه إذا ما هب لرد العدوان من أجل رضى الله، بوصفه واجباً شرعياً، ستكون هزيمة العدو حتمية، رغم كل العوامل الظاهرية التي كانت تشير الى عكس ذلك.
حدد الإمام الخميني (قدس سره) في اليوم التالي من بدء الهجوم العراقي، عبر بيان وجهه للشعب الإيراني ضم سبعة بنود مقتضبة إلا أنها دقيقة وشاملة، حدد الخطوط العامة للطريقة التي ستدار بها الحرب وشؤون البلاد في ظروف الحرب. وفي الوقت ذاته، أتم الحجة على الشعب العراقي وجيشه، عبر بيانات عديدة أصدرها. ومن يومها مارس إشرافه وقيادته لدفاع الشعب الطويل الشاق على مدى ثماني سنوات، بحكمة نادرة.
إستقبل الشباب الإيراني الثوري أمر الإمام الداعي الى التعبئة العامة، وتشكيل جيش العشرين مليوناً، بحفاوة بالغة. ويومها أوجدت صور تدريب قوات التعبئة وإرسالهم الى جبهات القتال في إيران أجواء مفعمة بالمعنويات. كما أن الإنتصارات المتلاحقة التي حققها مقاتلو القوات الإسلامية قد أظهرت للعيان الضعف والإرباك الذي دب في صفوف العدو.
وشيئاً فشيئاً أسفرت أميركا وحلفاؤها الأوروبيون عن وجوههم المتسترة وراء الحرب، وبدأت أنواع الأسلحة المتطورة - التي كانت عملية الحصول عليها، حتى في ظروف السلم، شاقةً للغاية وتستغرق وقتاً طويلاً من المباحثات والتنازلات - بدأت تنهال على العراق بسرعة مدهشة وتوضع تحت تصرف صدام. ونتيجة لذلك، لم يتوانَ العراق عن ارتكاب أفظع الجرائم الوحشية، من قبيل القصف الجوي المكثف للمدن والقرى، وتدمير المراكز الإقتصادية، وإطلاق الصواريخ المدمرة بعيدة المدى على المناطق السكنية، التي كانت تخلف وراءها مئات الضحايا من النساء والأطفال. وكل ذلك يتم على مرأى ومسمع من المنظمات الدولية التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان، دون أن تنبس ببنت شفة.
ولم تتمكن المساعدات الواسعة والشاملة التي كانت تقدم لصدام، من تغيير مجرى الحرب والموقف في جبهات القتال لصالحه، بل كان الموقف في جبهات القتال لصالحه، بل كان الموقف يسير بوتيرة متسارعة لصالح القوات الإسلامية.
وتزامناً مع تصعيد وتيرة قصف المناطق السكنية وإطلاق الصواريخ البعيدة المدى، لجأت أميركا الى التدخل المباشر في الحرب، إذ توجهت حاملات الطائرات الأميركية والإنجليزية والروسية باتجاه الخليج الفارسي للتواجد على مقربة من مسرح العمليات.
وكانت أميركا تعتقد بأن الخيار الوحيد المتبقي هو تدويل الحرب ودفع البلدان الأخرى للتدخل المباشر. ولهذا لجأت الى ما عُرف فيما بعد بحرب الناقلات، وكانت مهمة القوات الأجنبية الموجودة في مياه الخليج الفارسي، تتلخص في منع تصدير النفط الإيراني وتوقيف السفن التجارية وتفتيشها، ومن ثم الحؤول دون وصول السلع الأساسية الى الجمهورية الإسلامية. وخلال هذه الأحداث، تعرضت العديد من السفن التجارية وحاملات النفط الإيراني الى القصف الصاروخي والحملات الجوية الأميركية. كما أضرمت القوات الأميركية النيران في العديد من آبار النفط الإيرانية ومنصاتها في مياه الخليج الفارسي. وفي آخر ممارساتها العدوانية أقدمت الحكومة الأميركية على ارتكاب جريمة يندى لها جبين الإنسانية، إذ قامت حاملة الطائرات الأميركية "وينسن" في تموز عام 1988 م بإطلاق صاروخين باتجاه طائرة مدنية إيرانية كانت تحمل على متنها 290 راكباً من النساء والأطفال والرجال، وإسقاطها في مياه الخليج الفارسي وقتل جميع ركابها.
ومن الحوادث المؤلمة التي شهدتها هذه المرحلة، المذبحة التي ارتكبها أفراد النظام السعودي بحق الإيرانيين من حجاج بيت الله الحرام. ففي يوم الجمعة، السادس من ذي الحجة 1407 للهجرة (2/8/1987 م)، وفيما كان أكثر من مئة وخمسين ألف حاج يسيرون في شوارع مكة للمشاركة في مراسم البراءة من المشركين، هجم عليهم فجأة من كل حدب وصوب أفراد الشرطة السعودية بلباسهم العسكري والمدني، بعد أن تم إغلاق جميع المنافذ، هجموا عليهم بمختلف أنواع الأسلحة، وأمعنوا في قتلهم وجرحهم وضربهم والإنتقام منهم، وقد استُشهد في هذه الواقعة ما يقارب 400 حاج من الحجاج الإيرانيين واللبنانيين والفلسطينيين والباكستانيين والعراقيين وحجاج بقية البلدان، والذي قدر بأكثر من خمسة آلاف حاج، كما أُلقي القبض على العديد من الأبرياء.
إن حشود القوات الغربية في الخليج الفارسي، وما شهدته الشهور الأخيرة من حرب الثماني سنوات، لم يأتِ اعتباطاً، إنما جاء في وقت أظهرت القوات الإسلامية تفوقها التام، مما أجبر العدو على الإنسحاب الى ما وراء الحدود في معظم المناطق التي كان يحتلهما من قبل، وبعد أن شارفت الحرب على اجتثاث جذور الفتنة من المنطقة. وكاد سقوط صدام على أيدي القوات الإسلامية أن يعلن للعالم هزيمة قوى عالمية عديدة في مواجهتها للثورة الإسلامية. ولهذا تركزت مساعي أميركا ومجلس الأمن - خلافاً لما كان عليه موقفهما في السابق - في سد الطريق أمام تقدم المقاتلين الإيرانيين، والحؤول دون سقوط صدام.
وجاء بيان الإمام الخميني (قدس سره)، الذي عُرف ببيان قبول القرار 598 (20 تموز 1988 م) ليجسد حكمة الإمام وقيادته الفذة بأبهى صورة. إذ تطرق الى نتائج الحرب المفروضة وأبعادها بصراحة ووضوح، وحدد الخطوط العامة لمستقبل النظام والثورة الإسلامية في مختلف المجالات، بما فيها المواجهة مع القوى الكبرى والتمسك بأهداف الثورة وتطلعاتها.
وهكذا تنتهي حرب الثماني سنوات دون أن يظفر مشعلو فتيلها في تحقيق أي واحد من أهدافهم. ومرة أخرى يبرهن الشعب الإيراني النبيل في ظل قيادة الإمام الحكيمة، على حقانيته وسلامة مسيرته، وأن يجعل أمنية تجزئة إيران الإسلامية وهزيمتها حسرة في قلوب أعدائها.
إن أخطر جرائم صدام وأعظم خياناته مع البلدان التي تتستر برداء العروبة والإسلام، التي شجعته على العدوان وقدمت له مختلف أنواع الدعم والمساعدة، فضلاً عن هدر الطاقات العظيمة الإنسانية والإقتصادية لكلا البلدين، هو أنه بشنه لهذه الحرب المقيتة تنفيذاً لأوامر أسياده، قد قضى على الجهود التي بُذلت على طريق توحيد الأمة الإسلامية، وتحقق ثورة الإسلام العالمية، إذ كانت الظروف قد تهيأت تماماً لتحقيقها بعد سقوط الشاه.
وما أن استتب السلام نسبياً، أصدر الإمام الخميني (قدس سره) بياناً في 3/10/1988 م من تسعة بنود، حدد فيها لمسؤولي الجمهورية الإسلامية النهج الذي ينبغي اتباعه في مسيرة إعادة بناء البلاد وإعمارها. وتكفي القراءة المتأنية لهذه البنود لاستشفاف عمق نظر الإمام وأصالة القيم التي يؤمن بها.
ومن المواقف المهمة الأخرى التي صدرت عن الإمام الخميني (قدس سره) في الأشهر الأخيرة من عمره المبارك، والتي تستحق التأمل، الرسالة التي بعث بها سماحته الى "غورباتشوف"، آخر رؤساء الإتحاد السوفياتي السابق. ففي هذه الرسالة التي بعث بها في 1/1/1989 م أشار الإمام، ضمن تحليله للتحولات التي شهدها الإتحاد السوفياتي، الى عجز النظام الماركسي الإلحادي عن إدارة المجتمع، وأعلن بأن مشكلة الإتحاد السوفياتي الأساسية تكمن في عدم إيمان قادته بالله؛ وحذرهم من الإنقياد الى النظام الرأسمالي الغربي، وأن لا تخدعهم أميركا.
وفي جانب آخر من الرسالة، وضمن تطرقه الى المسائل الفلسفية والعرفانية العميقة، وإشارته الى فشل الشيوعيين في سياساتهم المعادية للدين، طلب الإمام الخميني (قدس سره) من السيد "غورباتشوف" أن يؤمن بالله وبالدين بدلاً من عقد الآمال على التوجهات المادية للغرب.
ومن الحوادث المهمة والمؤلمة التي شهدتها الشهور الأخيرة من عمر الإمام، طباعة ونشر كتاب "الآيات الشيطانية" من قِبل إحدى دُور النشر الغربية. وإذا ما نظرنا الى حقيقة التأييد الغربي الرسمي لمؤلف هذا الكتاب - سلمان رشدي - ندرك أن هذا الدعم مثل بداية فصل جديد من الهجوم الثقافي الغربي ضد القيم والمقدسات الإسلامية، إذ إن الكتاب استهدف الطعن بالأصول الإسلامية، والإساءة الى المقدسات، التي كان التحمس للذود عنها سبباً في توحد نهج الحركات الإسلامية التي ظهرت في العقود الأخيرة وانسجام أهدافها وتطلعاتها.
أصدر الإمام الخميني (قدس سره) بتاريخ 14/2/1989 م بياناً، إنطلاقاً من الحقائق المسلمة بها، وعلى ضوء المعتقدات الإسلامية التي تحظى بتأييد مذاهب المسلمين، واستلهاماً من فتاوى علماء الإسلام الكبار التي تحتفظ بها الكتب الفقهية للفرق الإسلامية، أكد فيه ارتداد سلمان رشدي والحكم عليه، وعلى ناشري الكتاب المطلعين على محتواه، بالقتل.
ومع صدور حكم الإمام، وقف المسلمون، بشتى مذاهبهم ولغاتهم وقومياتهم، بصفوف مرصوصة في مواجهة الهجوم الغربي، الذي أعد له مسبقاً.
وقد أظهرت هذه الحادثة للعيان، تماسك المجتمع الإسلامي ووحدة الأمة الإسلامية تجاه الأخطار التي تهددها، وأوضحت بأن المسلمين - رغم اختلافاتهم الداخلية - متى ما توفرت لهم القيادة الحقيقية بإمكانهم - بوصفهم طليعة حركة الإحياء الديني - أن يضطلعوا بدور مصيري في رسم مستقبل العالم.
كما استطاع الإمام الخميني (قدس سره) في السنوات التي أعقبت انتصار الثورة الإسلامية، رغم المؤامرات المتلاحقة لأعداء الإسلام، وفي مقدمتهم أميركا، التي استهدفت إسقاط الحكومة الإسلامية في إيران، وفرضت حرب الثماني سنوات على الشعب الإيراني المسلم، إستطاع الإمام، عبر توجيهاته وقراراته، بتشكيل المؤسسات الثورية والمراكز الحيوية، وإعادة تنظيم التشكيلات الموروثة عن النظام السابق، أن يمهد الأرضية لخدمات واسعة وقيمة للشعب الإيراني.
إن تشكيل مؤسسات من قبيل مؤسسة "جهاد البناء" و"لجنة الإمام الخميني للإغاثة" و"مؤسسة 15 خرداد" و"مؤسسة الإسكان" و"مؤسسة شهداء الثورة الإسلامية" و"مؤسسة المستضعفين" و"نهضة محو الأمية" و.. التي شملت بخدماتها أقصى نقاط إيران وأكثر القرى والأرياف المحرومة، هي من جملة الإنجازات التي تحققت في حياة الإمام الخميني (قدس سره).
كما أن تشكيل كلٍ من "لجان الثورة الإسلامية" و"قوات حرس الثورة الإسلامية"، وإعادة تنظيم "جيش الجمهورية الإسلامية في إيران"، ودور هذه الكيانات في المحافظة على الأمن، ورد عدوان النظام البعثي، وإحباط مؤامرات الأعداء، تعد من الإنجازات المثيرة والباهرة للثورة الإسلامية.
ومن جملة الأمور التي تحققت بتأكيد سماحة الإمام ومتابعته لها شخصياً، التحول الذي شهدته الحوزات العلمية، وإعادة النظر في مناهج المدارس والجامعات، وإقامة دورات جامعية جديدة بمستويات مختلفة، وإنشاء الجامعات ومراكز التعليم العالي في المناطق المحرومة، وتوسيع مدى بث مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الى أقصى نقطة في البلاد، وتقديم خدمات الإتصالات الى أبناء هذه المناطق.. علماً أن تشكيل المجلس الأعلى للثورة الثقافية وتوليه مسؤولية الإشراف على برامج الدورات الجامعية وتدوين المناهج الدراسية للجامعات، وإعداد الأساتذة الجامعيين، وتنظيم القبول في الجامعات، هي من جملة الخطوات التي تمت المباشرة بها منذ أوائل انتصار الثورة الإسلامية.
فصل الوداع ولقاء الله
أدخل الإمام الخميني(رحمه الله) مستشفى "جماران" بتاريخ 23 مايو عام 1989م. ولم تمنعه العمليات الجراحية العديدة الصعبة والطويلة التي أجريت له، ولا أنابيب الماء المغذي التي وصلت بيديه المباركتين، من إقامته نوافل الليل وتلاوة القرآن، حتى لبت روحه الطاهرة نداء ربها وذلك في الساعة 10:23 من مساء اليوم الثالث من يونيو من نفس العام.
لقد أجج رحيله ناراً مستعرة في القلوب، ويعتبر مشهد التشييع المهيب الذي حضره ملايين المشيعين من أبناء الشعب حدثاً تاريخياً قل نظيره. والحق أن رحيل الإمام الخميني (قدس سره) كما حياته، جسد صحوة جديدة وثورة أخرى، تشهد بخلود مبادئه وذكراه.