وقَع ما كان محذوراً في القاهرة، إذ تخلّت الولايات المتحدة الأميركية كلّياً عن دعم المطالب المصرية في أزمة «سدّ النهضة». علّقت واشنطن تدخُّلها على طلب الدول الثلاث لا على طلبات فردية، في خطوة ستُحبط المخطّطات المصرية - السودانية لتشكيل لجنة رباعية لحضور المفاوضات، وحشد مراقبين على الاجتماعات التي تنتهي عادة من دون نتائج، بسبب الرغبة الإثيوبية في توقيع اتفاق لتقاسُم المياه، وتجنُّب أيّ اتفاق ملزم بشأن السدّ. ويأتي الموقف الجديد لإدارة جوزيف بايدن مخالِفاً لسلفه دونالد ترامب الذي رعى مفاوضات استمرّت أربعة أشهر، مارس فيها ضغوطاً على إثيوبيا بتعليق جزء من المساعدات المخصَّصة لها قبل مغادرته الرئاسة. والآن، تتّجه أديس أبابا إلى تجاهل المطالب المصرية والسودانية، مصرّةً على تعلية الجزء الأوسط من السدّ، بما يسمح بتخزين المياه خلال موسم الفيضان المقبل، من دون أن تنتظر انتهاء المفاوضات المُعلَّقة منذ أسابيع، على رغم محاولات الاتحاد الأفريقي إعادة إحيائها.
وفي ما عُدّ تصريحات استفزازية، قال وزير الريّ الإثيوبي، سيلشي بيكيلي، إن الملء الثاني لـ«النهضة» سيتمّ في موعده، وإنه ليس بإمكان أحد منع بلاده من استخدام حقها في مياه النيل، وذلك بعد ساعات من تصريحات وزير الخارجية، نائب رئيس الوزراء، ديميكي ميكونين، عن أن السدّ سيكون مصدراً للتنمية، وأنه لا يمكن لأحد أن يحرم بلاده حصّتها المائية البالغة 86% من النيل. وتثير هذه التصريحات حالة من القلق في الخرطوم والقاهرة، خاصة أنها تلغي جميع الاتفاقات التاريخية المُوقَّع عليها من البلدان الثلاثة، وتُشكّل تهديداً حقيقياً لحصة البلدين، ولا سيما أن بيكيلي رأى أن بناء السدّ واستكماله «حماية لسيادة الدولة وحفاظاً على حقوق الأجيال».
جاءت هذه التصريحات بعد رفض إثيوبيا الوساطة الرباعية التي اقترحها السودان ووافقت عليها مصر، وتفضيلها (أي أديس أبابا) استئناف المفاوضات الحالية في أيّ وقت برعاية الاتحاد الأفريقي. وكانت الخرطوم تقدّمت بطلب رسمي لتشكيل وساطة من رباعية دولية (الاتحاد الأوروبي، الأمم المتحدة، الولايات المتحدة، الاتحاد الأفريقي)، يكون الهدف منها التوصُّل إلى اتفاق إلزامي وتجنُّب أيّ موضوعات فرعية، كتقاسُم المياه الذي ترغب إثيوبيا في إثارته، فيما أبدى مسؤولون أوروبيون شعورهم بالقلق من ضيق الوقت وتعطُّل المفاوضات.
في المقابل، لا تعوّل مصر كثيراً على الوساطة الرباعية؛ فعلى رغم أنها قانونياً تُمثّل إحدى وسائل تخفيض حدّة الصراع، فإن طبيعتها الاختيارية، وشرط قبول جميع الأطراف بها، مع إتاحة حرية الانسحاب منها في أيّ وقت من دون التزامات، تجعل القاهرة تقلق من تحويل هذه الوساطة إلى مضيعة جديدة للوقت حتى موعد الملء المقبل. والآن، تخشى مصر والسودان من التعرُّض لأزمات كبرى نتيجة كميات المياه المتوقَّع تخزينها في بحيرة السدّ، والتي تصل إلى 13.5 مليار متر مكعب، وهو رقم أعلى بثلاثة أضعاف من الكمّيات التي خُزنت العام الماضي في الملء الأول المنفرد الذي لم توافقا عليه. مع ذلك، يتحرّك السودان أفريقياً لحشد الدعم من أجل إبراز التعنّت الإثيوبي، في وقت تتواصل فيه مصر بكثافة مع الكونغو الديموقراطية بصفتها الرئيس الحالي للاتحاد، علماً بأن الأخيرة أبدت ترحيباً بالمطلب المصري - السوداني المشترك بدلاً من التصعيد في مجلس الأمن. كذلك، تدرس مصر والسودان خيارات للتصعيد ضدّ إثيوبيا على نحو منظَّم ومتناغم، خاصة مع التوافق الأخير بين البلدين على خطورة السدّ، وضرورة عدول أديس أبابا عن موقفها المتعنّت الذي يجري تسويقه دولياً بصفته انتهاكاً وخرقاً لجميع الاتفاقات الدولية.
على خطّ موازٍ، تسود مخاوف من تصاعد التوتُّر العسكري على الحدود بين السودان وإثيوبيا، في ظلّ تجدُّد النزاع على منطقة الشفقة الحدودية التي تطالب الخرطوم أديس أبابا بالاعتراف بالسيادة السودانية عليها أوّلاً قبل الانخراط في مفاوضات. وفيما تتكرّر الاشتباكات منذ أسابيع بين الجيشَين السوداني والإثيوبي، تستمرّ تداعيات الأزمة في إقليم تيجراي على الحكومة المركزية في أديس أبابا.
المصدر: جريدة الأخبار