كان الإمام الخميني يريد إستباق المحاولات المفترضة من قبل الأميركيين للتسويف والمماطلة في الإقرار بهزيمة حليفها نظام الشاه، وبالتالي إعادة إنتاج هذا النظام من خلال منح الوقت لحكومة بختيار وإعتبارها مرحلة إنتقالية تسمح بتهيئة شخصية شبيهة بالشاه من ضمن دائرة النظام تحظى بقبول شعبي ما، لذلك عمد الأميركيون الى الطلب من الجيش الإيراني الوقوف الى جانب بختيار وحكومته. وهو الأمر الذي إستدركه الإمام في خطابه المفصلي الشهير هذا حين أضاف: " إن هذا الشخص الذي لا يعترف هو نفسه بنفسه ولا يقبله حتى أصحابه، ولا يقبله الشعب ولا الجيش ولا يدعمه أحد إلا أميركا التي أمر مبعوثها الجيش بالوقوف الى جانبه".
وكان واضحاً للإمام أن حسم خيار تشكيل حكومته هو سيمنع إستنساخ تجربة حكومة الدكتور محمد مصدق العام 1951، والتي تم الإنقلاب عليها بعد سنتين بتدبير مدروس من وكالة الإستخبارات المركزية الأميركية "سي أي أيه" وجهاز المخابرات البريطانية "أم آي6" بالتواطؤ مع الشاه الذي وقع قرار عزل مصدق قبيل مغادرته الى بغداد ومن ثم الى إيطاليا ليعود بعدها فاتحاً الى طهران.
لم يكن الإمام وقيادة الثورة بحاجة الى شرعية شعبية لأنها كانت كاسحة، إنما كانوا يحتاجون الى تحويل هذه الشرعية الشعبية الى منظومة حكم دستورية متكاملة تحمي الثورة وتضحياتها، وتؤسس لقيام نظام إسلامي من نوع لم يعهده العالم لجهة عدم إرتباطها ولا إرتهانها لأي من القوى العظمى التي كانت سائدة آنذاك. وعلى هذا الأساس تم رفع شعار "لا شرقية ولا غربية"، وهو خيار كان يدل منذ البداية على فرادة هذه الثورة من حيث إستقلالية قرارها وتوجهاتها الداخلية والخارجية.
المهم أن الإمام لم يتأخر في تسريع عجلة الإنتقال من الثورة الى إنشاء نظام حكم جديد بكامل مكوناته، بمعنى آخر تأسيس دولة تعمل على تلبية حاجات ومطالب الشعب الإيراني وتحاكي طموحاتهم المستقبلية في التقدم والإزدهار والتحرر من التبعية للخارج.
وهو مسعىً لم يكن سهلاً تحقيقه في المراحل الأولى من زمن ما بعد إنتصار الثورة، خصوصاً وأن الواقع السياسي آنذاك إستوجب العمل على إستيعاب قوى لا تميل الى إعتماد الإسلام كمرجعية عقائدية ودستورية للدولة المرجوة. لذلك مرت إيران حينها بمخاضٍ سياسي داخلي شهد محاولات لقيام إنقلابات ناعمة من داخل مشروع الدولة على خيارات الشعب الإيراني وأهداف ثورته، وقد ترافق ذلك مع الحرب العدوانية التي شنها الرئيس العراقي آنذاك، صدام حسين مدعوماً من العرب والغرب والشرق معاً، في محاولة لمنع قيام هذه الدولة وإفشال نموذج هذه الثورة الشعبية بعدما هزت إرتداداتها أنظمة حكم في المحيط العربي والإسلامي كما قلصت مساحة النفوذ الأميركي- البريطاني تحديداً في غرب آسيا.
اليوم وبعد 42 عاماً على إنتصار الثورة وقيام الدولة في آن، وعلى الرغم من الحصار والعقوبات والتهديدات التي رافقتها طوال هذه المدة الزمنية، إستطاعت إيران أن تخطو خطوات متقدمة على طريق تثبيت بنيان الدولة فيها وتحديث مقوماتها والإنتقال بها الى مصاف الدولة الحديثة من حيث التقدم العملي والثقافي والصناعي على الصعد كافة، بما يؤمن للشعب الإيراني قدراً عالياً من الإكتفاء الذاتي في مجالات عدة، إضافة الى إتساع مساحة حضورها السياسي الإقليمي والدولي وإمساكها بمفاصل الربط والحل في أكثر من ملف وقضية.
قد يبدو هذا التوصيف غير واقعي بالنسبة لجزء يسير من الرأي العام في المنطقة والعالم، وذلك بسبب الصورة النمطية المشوهة والمفبركة التي يتم تناقلها في وسائل الإعلام والتواصل عن حياة الإيرانيين ونظام حكمهم، غير أن مراكز القرار في أكثر من عاصمة على يقين ثابت أن السماح لإيران بشيء من التحرر من ذلك الحصار وتلك العقوبات سيجعل منها شريكاً دولياً متقدماً في صياغة أي نظام عالمي مرتجى.
إن تماهي مشروع الثورة مع ضرورة قيام الدولة أرسيا في إيران نظاماً سياسياً فريداً من نوعه، يحكمه التوازن بين متطلبات التطور والتحديث للدولة بهدف توفير حياة كريمة للشعب الإيراني وبين الإلتزام بالحفاظ على الثوابت الإستراتيجية للثورة التي تمنح إيران الموقع المتقدم في أي ساحة إقليمية ودولية.
ومن المؤكد أن هذا التماهي سيكون حاضراً هذه المرة بقوة في ما يعني مقاربة الجمهورية الإسلامية لملف الاتفاق النووي ومواقف الأطراف الأخرى الشريكة فيه.
*محمد عبيد - كاتب وباحث سياسي لبناني مدير وزارة الاعلام سابقا