المثقف الإسلامي يكتشف الشبهات التي تسعى لحرفه، ويدفعها عنه بالأساليب البنّـاءة التي تعتمد نظرية المفكر والموقف الشرعي الذي يحدده الفقيه، ويحصن منظومته الفكرية والثقافية الأصيلة، ويساهم في تقوية النظام الاجتماعي الديني الذي يمثل هويته وهوية المجتمع الذي ينتمي إليه، عبر عمليات البحث التخصصي الدقيق والنقد البناء والتأصيل وإعادة المأسسة، بما ينسجم ومتطلبات الحاضر والمستقبل.
وقبل الحديث عن الدور المعرفي والاجتماعي والتغييري للمثقف الإسلامي، نستعرض أبرز أراء مدارس علم الاجتماع الغربية بشأن أدوار المثقف، والتي تلخصها ـــ عادة ـــ بثلاثة أدوار:
1- دور خدمة السلطة السياسية في المجالات النظرية والآيديولوجية والاجتماعية والثقافية، أي تسويغ واقع السلطة، وهو ما يسمى بــ "مثقف السلطة".
2- الدور المعرفي، البعيد عن الأطر الآيديولوجية، وهو ما يعبِّر عن خلفيته عالم الاجتماع السياسي "سيمور مارتن ليبست" بــمقولة «نهاية الآيديولوجيا»، حيث يرفض أية علاقة بين المعرفة العلمية المحايدة والانتماء الايديولوجي للمثقـف. ويطلق على هذا المثقف مصطلح "المثقف المعرفي" المستقل ايديولوجياً وسياسياً.
3- الدور الانتقادي، وهو الدور الذي تعبّر عنه "الطبقة المثقفة الانتقادية" (Intelligentsia)، والتي يقول عنها عالم الاجتماع الألماني "كارل مانهايم" «يجب عليها [أي طبقة المثقفين] أن تبقى انتقادية لنفسها ولكل الجماعات الأخرى»، بالصيغ التي يشير إليها "ريمون أرون"، حين يحصر الدور النقدي للمثقف بثلاثة أنواع: النقد المنهجي، والنقد الأخلاقي، والنقد الآيديولوجي والتاريخي. وهو ما يعرف بـ "المثقف الانتقادي".
هذه الآراء تشير الى أن المثقف ـــ من وجهة نظر علم الاجتماع الغربي ـــ محاصر بين خيارين: خيار الانتماء، ويعني الانتماء الى السلطة السياسية والسلطة الاجتماعية والسلطة الدينية والسلطة المالية، وكذلك الى الآيديولوجية التي تمثلها، وخيار اللاإنتماء، أي أن يكون المثقف معرفياً محايداً أو انتقادياً مجرداً. وهذان الخياران ينسجمان مع طبيعة الاجتماع الديني والسياسي والثقافي الذي أفرزته الايديولوجيا العلمانية بالتزامن مع عصر النهضة الأوربية، بل أنهما مفصلان على مقاسات المجتمعات الغربية العلمانية التي ولدت ولادة طبيعية في أعقاب قرون من الصراع المعرفي والسياسي والاجتماعي مع النظم الثيوقراطية التي تمثل تحالف الاستبداد الكنسي والحكومات المطلقة، وهو صراع لاتعرفه المجتمعات المسلمة، إلّا في حدود بعض الايديولوجيات والنظم التكفيرية المرفوضة عقدياً واجتماعياً بمستوى قريب من الإجماع الإسلامي.
ولاينسجم التصور المعرفي الاجتماعي الغربي في حصر خيارات المثقف، مع دور المثقف في الرؤية الإسلامية؛ لأن انتماء المثقف الإسلامي الى اجتماعه الديني لا يعني أنه يمارس دور خدمة السلطة السياسية ونخبها وجماعاتها، أو أنه منساق دون وعي وراء المؤسسة الدينية؛ بل لأنه من خلال انتمائه، يمارس دوره الذي يمليه عليه تكليفه الشرعي وواجباته الدينية والثقافية والإنسانية.
د. علي المؤمن
إقرأ يضا: المثقف الاسلامي ومهمته التغييرية (2).. المثقف التغريبي
سوف نتناول بأذن الله تعالى في القسم الثاني من (المثقف الاسلامي ومهمته التغييرية) المثقف االذي ينتمي الى جذور مسلمة وتلقى ثقافته من المستشرقين.