سادت العنصرية والطبقية المجتمعات البشرية بشتى الأنواع والأساليب قبل الإسلام، وعانت منها الشعوب لفترات طويلة وخاصة الشرائح الكادحة من العرق الأسود، فانتُهكت كرامة الإنسان وسُلبت إرادته وكُبتت حريته، وبلغت ذروة العنجهية والطبقية واضطهاد الإنسان المستضعف في عصر الجاهلية، فصُّنفَ الإنسان إلى فئات ومسميات منها الشريف والوضيع والسيد والعبد والغني والفقير.
كان النبي (صلى الله عليه وآله) يخوض صراعاً عنيفاً مع المجتمع المكي لرفع الظلم عن المستضعفين تجلّى في كثير من مواقفه الإنسانية حتى قبل أن يبعث بالنبوة، ففي ذلك المجتمع المتسلط والمتغطرس والذي عُرف بظلم المرأة كان (صلى الله عليه وآله) رمزاً للتواضع والأخلاق العظيمة فقد كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته، ويساعد أهله في البيت في الطعام والشراب.
وكانت هذه معاملته حتى مع الخدم، يقول أنس بن مالك وقد خدم النبي لمدة تسع سنين: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وآله تسع سنين فما أعلمه قال لي قط: لم فعلت كذا وكذا ؟ ولا عاب عليّ شيئا قط) كما قال عن خادمته أم أيمن الحبشية: (إنها أمي بعد أمي التي ولدتني)
لقد تجلت الإنسانية في أروع صورها في كل مواقفه وسلوكياته وكان يكره أن يتعالى الإنسان على الإنسان فكان يقول: (خمس لا أدعهن حتى الممات: الأكل على الحضيض مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفاً، وحلبي العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان، لتكون سنة من بعدي). ويقول: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، فإنما أنا عبد).
ويدخل عليه رجل فيهابه ويرتعد فيقول له: (هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد).
وكانت هذه أخلاقه حتى مع المكذبين برسالته وكان يتألم على كفرهم وجحودهم بآيات الله فكان يردد: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، وصرح القرآن الكريم بتألمه عليهم وما سيؤول إليه مصيرهم من العذاب فقال عز وجل: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)
أي: (فكأنك ما تنبهت أن اشتغالهم بالدنيا وعدم إيمانهم بهذا الحديث عن تعلقهم بزينة الأرض ولذلك حزنت وكدت تقتل نفسك أسفا)
لقد كانت الرحمة تتجلى في كل حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله (صلى الله عليه وآله) حتى مدحه الله تعالى في كثير من الآيات الكريمة منها:
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)
(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْـمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)
لقد كان من صميم دعوته (صلى الله عليه وآله) هو تحرير الإنسان ونشر العدالة والمساواة بين البشر واجتثاث هذا الداء المقيت الذي أصاب البشرية على مدى تاريخها الطويل وهو التمايز العرقي فانطلق الصوت الإلهي في ذلك المجتمع المستبد ليزيل الفوارق الطبقية ويزيح العنصرية بين أبناء الجنس الواحد:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
إن الأمم التي عانت طويلا من هذه العنصرية البغيضة وتنوّعت أشكال استعباد الإنسان فيها لأخيه الإنسان واستلاب حقوقه حتى وصل الأمر في بعض مراحل التاريخ إلى معاملة العبد معاملة الحيوان بل والاعتقاد بأنه ليس من جنس البشر قد جلب عليها الويلات وبقيت تلك المراحل وصمة في تأريخها وبقيت بعض الأمم إلى فترات قريبة جداً تفصل العرق الآخر عن المجتمع وتسلبه حقوقه وتنتهك كرامته بل لا يزال إلى الآن من يحمل هذه الفكرة العدوانية والنزعة الدموية نحو الآخر في المجتمعات المتحضرة التي استطاعت بناء المدن والتقدم التكنولوجي والعمراني ولكنها لم تستطع بناء الإنسان وتوجيهه إلى حب أبناء جنسه من البشر ــ كما أراد الله ــ والتجرّد من الطائفية والعنصرية التي لا تزال مغروسة في نفوس الكثير منهم.
لقد بيَّن الإسلام موقفه من التمايز العنصري والطبقية بأن الاختلاف العرقي هو من سُنن الله في خلقه بقوله تعالى:
(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)
وصرح نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) بإزالة كل الفوارق العرقية وعدم التفاضل بين البشر إلا بالتقوى بقوله:
(لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى)
وقد وقف كبار علماء الغرب بإجلال وهم يقرأون هذا التاريخ المشرق لسيد البشرية جمعاء، يقول ول ديورانت: (إذا حكمنا على العظماء بما كان للعظيم من أثر في الناس، قلنا كان محمد أعظم العظماء).
ويقول برناردشو: (إن رجلاً مثل محمد لو تسلّم زمان الحكم المطلق اليوم في العالم كله لتم له النجاح في حكمه، وقاده إلى الخير، وحل مشكلاته بوجه يحقق للعالم السلام، والسعادة المنشودة).
بقلم:محمد طاهر الصفار