ومن الصعب-ان لم يكن من المستحيل-ان يتوحد ويلتقي ملايين الناس ويتوافقون على قضية معينة، ولكن قضية الامام الحسين عليه السلام والملحمة الخالدة التي رسمها في ارض الطف قبل الف وثلاثمائة وواحد وثمانين عاما بدمه الطاهر والدماء الطاهرة لاهل بيته واصحابه مثلت استثناء عن هذه القاعدة.
ففي مثل هذه الايام من كل عام يجتمع الملايين من مختلف انحاء العالم في مدينة كربلاء المقدسة حول مرقدي الامام الحسين واخيه العباس عليهما السلام.
تلك الملايين التي تزداد عاما بعد عام، من الطبيعي ان تختلف في توجهاتها وارائها السياسية والثقافية، وتتنوع في انتماءاتها القومية والمناطقية، وتتعدد في مستوياتها وخلفياتها الاجتماعية.. بيد انها تجتمع تحت راية العز والاباء والتضحية والفداء الحسيني، وتتوحد وتذوب في بعضها البعض حول الحسين وقضيته الخالدة.
والملايين التي تجتمع في كربلاء الحسين لاتمثل سوى جزءا قليلا ونزرا يسيرا من اعداد لاحصر لها تحيي ذكرى الملحمة الحسينية الخالدة بأشكال وصور ومظاهر مختلفة في شمال الارض وجنوبها، وفي شرقها وغربها.
لا تبقى بقعة من بقاع العالم الاسلامي-وحتى غير الاسلامي- الا وتستحضر وتستذكر الحسين عليه السلام. بعبارة اخرى ان الثورة الحسينية تجاوزت الحدود الجغرافية وعناوين واسماء القارات والدول والمدن والاقاليم، وانها ذوبت القوميات وصهرتها في بوتقتها، وكذلك الاديان والمذاهب والطوائف والاعراق.
في العالم الاسلامي والعوالم الاخرى على السواء يصدح اسم الحسين عاليا.. ولدى العرب والاكراد والاتراك والفرس والهنود وغيرهم من ابناء القوميات الاخرى تهيمن اجواء الحزن والاسى والالم، وكذا الحال مع ابناء مختلف الاديان والمذاهب والطوائف والاعراق.. كيف لايصدح اسم الحسين وعاشوراء والطف وكل مايرمز اليها في كل زمان ومكان وهو الذي ضحى من اجل كرامة الانسان وعزته.. لم تطلق مقولة كل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء اعتباطا، بل اطلقت كتعبير صادق وحي عن واقع متجدد، يعكس انتصار المباديء الانسانية السامية والرفعية على مباديء التخلف والجاهلية والاستبداد والظلم والانحطاط.. يعكس انتصار الدم على السيف..وانتصار القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة.
كل دعاة الحرية والثائرين والمظلومين واصحاب الفكر الانساني النير عرفوا الامام الحسين عليه السلام عن كثب رغم انهم لم يعايشوه، ورغم ان الكثير منهم لم يعتنقوا الدين الذي اعتنقه.. عرفوه لانه دافع عن كل المظلومين والمضطهدين والمحرومين بوجه الطغاة والظالمين والمنحرفين.. عرفوه لانه قدم ارفع واسمى واقصى درجات التضحية والايثار ونكران الذات من اجل المباديء النبيلة.. عرفوه لان ثورته كانت ومازالت ستبقى عالمية بكل معنى الكلمة.
ماذا يعني كل ذلك؟.. يعني ان الحسين عليه السلام كان بتضحياته العظيمة مشروعا عالميا للوحدة، ومشروعا عالميا للحياة الحرة الكريمة.
... لماذا تعد الثورة الحسينية.. ملحمة الطف.. ملحمة عاشوراء.. ثورة العزة والاباء.. ثورة المظلوم على الظالم.. ثورة الاصلاح والتغيير.. ثورة التضحية والفداء، اكبر واعظم ثورة في التأريخ الانساني؟.. ولماذا تنوعت وتعددت الاوصاف والتوصيفات والعناوين لها؟.. ولماذا بدلا من ان تتعرض للنسيان والاهمال، وتضيع وتتلاشى في خضم حوادث ووقائع التأريخ المتعاقبة، نجد انها تزداد اشعاعا والقا وتأثيرا عاما بعد عام؟. ولماذا تجاوزت الانتماءات والعناوين الدينية والقومية والمذهبية والطائفية والجغرافية؟.
الاجابة واحدة على كل هذه التساؤلات وغيرها..
انها عدالة القضية وقدسيتها .. وعدالة القضية وقدسيتها تكمن في ان الثورة جاءت لمواجهة الفساد والانحراف والابتذال والظلم والطغيان، وتكمن في انها جاءت لترسخ وتثبت مبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي عبر عنه الامام الحسين عليه السلام اصدق تعبير بقوله (اني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولاظالما ولا مفسدا وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي رسول الله صلى الله عليه السلام).
انها شمولية القضية وعالميتها.. فالظلم والفساد والانحراف والطغيان موجود في كل زمان ومكان، والمظلومين في شتى بقاع الارض، وفي مختلف الحقب والعصور-وهم كثر-بحاجة الى قادة ورموز كبار وعظماء يصححون المسارات الخاطئة، ويرسخون قيم الحق والعدل والمساواة والخير والصلاح.
انها تعبير صادق وحي لنكران الذات واقصى وارفع واسمى درجات التضحية بكل شيء من اجل اعلاء كلمة الله.. واعلاء كلمة الله يستوعب ويحتوي كل الاهداف والغايات النبيلة والسامية.
وتضحية الحسين عليه السلام في عاشوراء بنفسه واهله وعياله واصحابه لاتضاهيها تضحية اخرى.. وهذا واحدا من ابرز اسرار بقاء وديمومة الثورة الحسينية.
عدالة القضية وقدسيتها .. وشموليتها وعالميتها.. وعمق وحجم التضحيات فيها جعل منها نموذجا فريدا من نوعه، وجعل قائدها قدوة لكل الاحرار والثائرين ودعاة الحق والعدل في الماضي والحاضر والمستقبل.
كل يوم عاشوراء .. وكل ارض كربلاء.. عبارة تختصر وتختزل الاف وملايين الكلمات والعبارات والمفاهيم..
بقلم/ عادل الجبوري