فقد تجد مجتهداً (نحريراً ) في الفقه أو الأصول أو البحث الخارج كما يصطلح على دروس البحث الخارج التي يلقيها كبار الأساتذة في الحوزات العلمية، لكنه منشغل بعلمه وفقهه عن الباطن والرياضات والمجاهدات الفكرية والقلبية.
وقد تجد عالماً من كبار علماء أهل الباطن من العرفاء أو السالكين المنقطعين عن الدنيا، وتراه منشغلاً بطريق الباطن ويكتب في هذا العلم والافاضات الربانية مما يصل اليه من مجاهدات روحية ورياضات فكرية، لكنه لا علاقة له بالظاهر والاحكام الفقهية، والمواقف العملية، كما أحياناً تجد عالماً ثائراً على الظلم والطغيان، شاهراً سيفه موطناً نفسه على الشهادةِ والموت في سبيل دفع الظلم ونشر العدل والانصاف بين الناس، لكنه لا معرفة له بغير ذلك.
والسيد الامام الخميني ( قدس) هو أحد القلائل الذين اتصفوا بتلك الصفات مجتمعة به، واتخذها سبيلاً لتحقيق أهدافه، بل هو الوحيد الذي خاض غمار الجهاد والعرفان والاجتهاد والاستنباط، وجمع بين العلم الظاهري والفيوضات الباطنية، وبين خشونة العيش وزهد الحياة ومجاهدة النفس وترويضها من جهة، وجهاد الطغاة ومقارعتهم، وديمومة البحث والاستنباط في المسائل الفقهية والاجتهادية من جانب آخر.
ونقصد بفرادة السيد الامام ( رض) بهذا الطريق كونه الوحيد الذي ترجم الاستنباطات والمعارف الظاهرية مع الإفاضات الباطنية التي استحصلها من المجاهدات الروحية، ترجمها الى سلوك ومنهج ثوري ميداني ليطبقها رسالة الهية ودين اسلامي محمدي اصيل على شكل مشروع لنصرة المستضعفين، ففي نصرة المستضعفين تتجلى الروح الباطنية، مع الشعور بالمسؤولية بوصفه نائباً للأمام المعصومِ وكراعٍ لمصالح الامة(كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)، هذا الشعور بالمسؤولية جعل الامام الخميني(رض) يتحرك ونصب عينيه احقاق الحق وازهاق الباطل، مهما كانت النتائج المتوخاة من هذا الطريق.
ولهذا من يتابع خطابات وكلمات السيد الامام الخميني(رض) قبل وأثناء وبعد انتصار الثورة الاسلامية الايرانية لم يعبأ بكثرة الناس حوله الا بمقدار ما تؤكده هذه الكثرة من انتشار الدين وترعرعه في قلوب الناس، وليس كثرة الناس تدل على حقانية الهدف أو الرسالة التي يحملها الامام، فالإمام واثق من مشروعه الالهي بمقدار ثقته بالله تعالى، وأي ثقة بالله اكثر من ثقة مرجع كبير وعارف متبحر وثائر واثق بالنصر كثقة السيد الامام بربه ومشروعه الرباني؟
ويقول السيد الامام عن اسباب انتصار الثورة والتحول( الباطني) الذي حصل عليه الشعب الايراني والذي يعد في نظر السيد الامام أهم من التحول الظاهري الذي حصل في ايران باسقاط نظام الشاه فيقول (ان التحول الذي طرأ على شبابنا ، وابناء شعبنا الملتزمين أهم من التحول الذي حصل في بلادنا ، فالتحول الذي حصل في بلادنا هو تحطيم الحاجز الشيطاني من قبل الشباب، وجميع الفئات، نساءا ورجالا كبارا وصغارا، حطمتم الحاجز وأخرجتم الشيطان من حريم الاسلام، وهذا التحول وان استبدل النظام الطاغوتي بنظام اسلامي بجهود الجميع لا يرقى الى الشيء الاهم، وهو الذي ركَّز عليه الأجانب ويركّزون، وهو التحول في الانسان ، فقد أنفقوا وقتاً طويلاً في السعي المرير الذي اشتد في السنوات الاخيرة الى تحويل الانسان من طبعه وفطرته الاسلامية الى حال اخر... كرّسوا مراكز الفحشاء ، وبلّغوا لها في الصحف والمجلات والراديو والتلفزيون).
ثم يسترسل الامام بالقول (ان التحول الذي حصل إذ يهتف الشباب بأننا مستعدون للشهاد ، ويلبسون الأكفان هو امر ليس من صنع البشر، انه لطف من الله).
ويقول السيد الامام عن الانتصار الروحي الذي حصل بين أوساط الشباب ( بالامس اجريت صيغة بين شاب وشابة، وحين ذهبت الشابة تركت لي قصاصة قراتها وانا ادعو للشباب بامور معينة، فانتهيت الى عبارة (أنا عاشقة للشهادة) . تصوروا شابة قد عقدت أمس تكتب أنا عاشقة للشهادة، ومثل هذه الامور كثير، انه تحول انساني أوجده الله فيكم، فاعرفوا ثمنه، فهو لطف من الله اهدي اليكم)/ صحيفة الامام /ج١١/ ص٤١٤
وهذه الروح العرفانية والروح الباطنية تقرا أهمية الانتصاراتِ من زاوية غير الزاوية الظاهرية التي نقرأها نحن، فالانتصار الاهم في نظر السيد الامام العارف ليس الانتصار المادي الظاهري المتمثل بسقوط نظام علماني مجرم ومستبد مرتبط بالغرب وأمريكا، وانما الانتصار الاهم في نظره هو ذلك الانتصار الباطني والروحي المتمثل بانتصار الشباب على غرائزهم وشهواتهم وذوبانهم في دينهم واندكاكهم في اسلامهم الى حد ان تتمنى شابة الشهادة في ليلة عقد زواجها.
وهذه القراءة للأحداث لم تأت من فراغ وانما جاءت من شخصية عالمة مجتهدة بالفقه والاصول وتعرف الاحكام الشرعية ومن وروح متعلقة بربها كتعلق الاولياء والعارفين والمتقين الذي وصفهم أمير المؤمنين ( فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ ).
لهذا ونتيجة لغلبة البُعد الباطني على حركة السيد الامام وقرأته لنتائج الانتصاراتِ نراه يعزو كل شيء الى اللطف الألهي، ولا اثر لحركة السيد في هذا الانتصار.
فالإمام يقول (ان التحول الذي حصل من الخوف الى الأقدام، ومن الضعف الى القوة، كان تحولاً إلهياً، فليس باستطاعة البشر ان يصنع هذا التحول في شعب . لا يمكن ذلك . اذا أراد احد ان ينسب الامر لنفسه، فهو اما جاهل واما اناني، فالقوة كانت قوة الهية).
وكل ذلك الانتصار الإعجازي والتوفيق الذي تحقق، لا يرى فيه الامام أي دور له، رغم قيادته الميدانية وذوبان الناس بخطه وبمرجعيته وبقوة شخصيته وترابيته، لكنه لايرى الا الله فيه، وكل ما عدا ذاك فهي وسائل ليس اكثر ، وهذا النمط من التفكير لا يحصل الا لمن محض الايمان محضاً، وإلّا ايُّ زعيمٍ او قائدٍ او حتى عالمٍ يتحقق على يديه انتصارٌ بهذا الحجم الذي غير موازين الدنيا بكاملها ولا يعزوه الى نفسه، او على اقل التقادير يشاراليه بالبنان؟.
انه العلم والمعرفة، والذوبان والفيوضات الربانية، والروح الجهادية التي تعرف طريق الحق وتدافع عنه ، وتشخص طريق الباطل وتقارعه، تجلت هذه الصفات في رجل فكان الامام الخميني(رض).
بقلم المحلل السیاسی العراقي، ومدير مركز "أفق" للدراسات والتحليل السياسي في العراق، "جمعة العطواني"