المنجم كالكاهن، والكاهن كالساحر:
قال الشريف الرضي (رحمه الله): قال له [أي لعلي (عليه السلام)] بعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج: إن سرت يا أمير المؤمنين في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم.
فقال له (عليه السلام): أتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء، وتخوف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضر؟!
فمن صدقك بهذا فقد كذب القرآن، واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المحبوب ودفع المكروه.
وينبغي في قولك، العامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربه، لأنك بزعمك أنت هديته إلى الساعة التي نال فيها النفع وأمن فيها الضر.
ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدى به في بر أو بحر، فإنها تدعو الكهانة والمنجم كالكاهن والكاهن كالساحر. والساحر كالكافر. والكافر في النار. سيروا على اسم الله.
زاد في نص آخر: فخرج في الساعة التي نهاه عنها، فظفر وظهر[1].
وفيه: أنه (عليه السلام) قال لذلك المنجم: (أما والله إن بلغني أنك تعمل بالنجوم لأخلدنك السجن أبداً ما بقيت، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان..
إلى أن قال: أما إنه ما كان لمحمد منجم، ولا لنا بعده، حتى فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر.
أيها الناس، توكلوا على الله، وثقوا به، فإنه يكفي ممن سواه[2].
ونقول:
لا نريد أن نرهق القارئ ببيانات حول الكهانة، والسحر والتنجيم، فإن لذلك موضعاً آخر، ونكتفي هنا بالإشارة إلى ما يلي:
قيمة علم النجوم:
لا بأس بالنظر فيما يلي:
1 ـ لقد أرشد القرآن الكريم إلى دور النجوم في هداية الناس إلى الجهات المختلفة، ليتمكنوا من التحرك نحو مقاصدهم، بأمان واطمئنان، وعلى أساس الوضوح والثقة والثبات قال تعالى: ﴿وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾.[3]
وقال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.. ﴾.[4]
2 ـ أرشد القرآن أيضاً إلى أهمية مواقع النجوم في المنظومة الكونية العامة. حتى إنه لشدة حساسيتها أقسم بها بلسان إظهار أهميتها، فقال تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾.[5]
3 ـ إنه تعالى ذكر أيضاً: أن النجوم مسخرات بأمره، كسائر الكواكب، فقال: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾[6].
وذكر: أنها تخضع وتسجد لله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ﴾[7].
وقد وصف أيضاً بعض النجوم بـ (الثاقب)، فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ﴾.[8]
وفي الحديث أيضاً: إشارات كثيرة إلى النجوم، وبعض ما يرتبط بها، ولسنا بصدد تتبع ذلك..
4 ـ إن علم النجوم الذي يريد أن يربط حركة الإنسان في الحياة ربطاً حدسياً وتكوينياً بمعارف عن النجوم، حصل على أكثرها أيضاً عن طريق الحدس والتخمين. إن هذا العلم ليس بعلم، بل هو جهل وتجهيل، وتخييل وتأهيل، من دون حجة ودليل، لأنه لا يملك أية مبررات لهذا الربط الذي يقترحه ويدعيه، لأن الربط الصحيح يحتاج إلى وقوف على أسرار الخلق والتكوين، ولا يستطيع أحد أن يدعي لنفسه ذلك.. بعد النبي والأئمة الأطهار (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) إلا كاذب.
يضاف إلى هذا وذاك: أن التسويق لهذه النظرية الإعتباطية أو تلك يؤثر على حياة الناس وعلى حركتهم، وتطلعاتهم، وخططهم، ويجعلهم عرضةً لألاعيب شياطين الأنس فيهم.. بالإضافة إلى شياطين الجن.
كما أنه يحدث لديهم خللاً رئيساً، وحساساً وأساسياً في المضمون الإعتقادي لهم بالله، ويؤثر على علاقتهم به تعالى. إلى حد الشعور بالإستغناء عنه، والاستئسار للجبرية التكوينية التي أراد لها أولئك الشياطين أن تهيمن على العقول والمشاعر، وعلى حركة الناس في الحياة.
ثم هو يعطي أولئك المتحذلقين الفرصة لادعاء التحكم بالأقدار، والإشراف على الغيب، وامتلاك مفاتيح السعادة والشقاء، والسلامة والبلاء، والمرض والشفاء، والموت والحياة.
ويفسح لهم المجال للتدخل في كل كبيرة وصغيرة، والتحكم بقرار الناس، حتى يصبحوا دمى في أيديهم، وهذا ما لا يرضاه الله تعالى لعباده، ولا يريد أن يرى له أي أثر في بلاده..
وقد كذب القرآن هؤلاء حين قال: ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾[9]، وكذبهم أيضاً بأوامره وزواجره، التي لم تقيد بزمان، ولا أرشدت إلى وقت بعينه، ولا أشارت إلى مراعاة حالات النجوم في منازلها أو في حركتها، أو في غير ذلك..
وقد أرشد القرآن الناس إلى أن الله تعالى هو الذي يقرر ويقدر، وينفع ويضر، ويعطي ويمنع، ولم يقيد شيئاً من ذلك، ولا أياً مما يقدره، ويقضيه، ويفعله ويمضيه بشيء مما يدعيه المنجمون للنجوم أو لغيرها.
فالمنجم كالكاهن، يبني أحكامه على الحدس والتخمين، وقد يروق للكاهن أن يقلب الحقائق، ويخدع الناس بأباطيله وألاعيبه، ويفسد حياة الناس، حتى يكون كالساحر، في تمويهه، وخداعه، وفي التدخل في حياة الناس لإفسادها.
كما أن الساحر والكاهن والمنجم ينتهيان إلى انتهاك الحرمات الإلهية، ويفسدون اعتقاد الناس بربهم، ويقطعون علاقتهم به تعالى.. ويقدمون أنفسهم لهم على أنهم هم الذين ينفعون ويضرون، ويدفعون الناس إلى الاعتقاد بالتعطيل الإلهي والكفر بصفاته الربوبية، وتشويشها، وتشويهها..
المراجع:
الصحيح من سيرة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، آية الله المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي (قدسره)
[1] نهج البلاغة (بشرح عبده) ص128 و 129 ووسائل الشيعة (آل البيت) ج11 ص373 و (ط الإسلامية) ج8 ص271 وقضاء أمير المؤمنين (عليه السلام) للتستري (ط الأعلمي) ص139 و 140 والإحتجاج ج1 ص357 وفرج المهموم ص57 والفصول المهمة للحر العاملي ج2 ص238 وج3 ص341 وبحار الأنوار ج33 ص362 وج55 ص258 وجامع أحاديث الشيعة ج17 ص236 وموسوعة أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) للنجفي ج1 ص213 وج5 ص64 وج11 ص265 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص199 وتفسير نور الثقلين ج4 ص408 والجامع لأحكام القرآن ج19 ص29.
[2] بحار الأنوار ج33 ص346 وج55 ص224 و 258 و 264 وج41 ص336 ومستند الشيعة للنراقي ج14 ص120 ومستدرك سفينة البحار ج9 ص553 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص270 وأعيان الشيعة ج1 ص523.
[3] الآية 16 من سورة النحل.
[4] الآية 97 من سورة الأنعام.
[5] الآية 75 من سورة الواقعة.
[6] الآية 54 من سورة الأعراف، وراجع الآية 12 من سورة النحل.
[7] الآية 18 من سورة الحج.
[8] الآيتان 3 و 4 من سورة الطارق.
[9] الآية 39 من سورة الرعد.