منذ اليوم الأول من بداية تطبيق تفتيت المشرق العربي حسب مؤامرة سايكس بيكو جاء جيش الاحتلال البريطاني من مصر سنة 1917 بقيادة الجنرال اللنبي وله جنا حان: أحدهما لفيلق يهودي (Jewish Legion ) بقيادة فلاديمير جابوتنسكي جاء مع جيش اللنبي من مصر ، وفيلق عربي (Arab Legion) جاء من الجزيرة العربية. بعد احتلال فلسطين قررت وزارة المستعمرات البريطانية برئاسة تشرشل فصل أراضي شرق نهر الأردن عن الاراضي غربه. إنشق جابوتنسكي عن الحركة الصهيونية بقيادة حاييم وايزمان والتي وافقت على الفصل لان اسلوبها هو (خذ وطالب). اسس جابوتنسكي حركة الصهيونيين المتجددين (Revisionists)وشعار هم (للأردن ضفتان هذه لنا وكذلك الأخرى). ويعتبر جابوتنسكي الاب الروحي لليمين الصهيوني المتطرف و لحزب الليكود اليوم.
دام الانتداب البريطاني 30 سنة كانت الوكالة اليهودية خلاله دولة داخل الدولة (استوردت المهاجرين اليهود) لترتفع نسبتهم من 5% من سكان فلسطين الى حوالي 35% سنة 1948 . قامت في فلسطين ثورات عديدة كان اشدها ثورة 1936 والتي دامت 3 سنوات اضطرت بريطانيا أن تأتي ب 20 الف جندي لاخمادها بقيادة الجنرال منتغموري والذي قاد معركة العلمين في الحرب العالمية الثانية لاحقاً . طلب الانجليز من رؤساء الكيانات العربية أن يضغطوا على قيادة الثورة الفلسطينية لوقف ثورتهم بحجة أن الانجليز قد وعدوا بإنصافهم . حارب جناحي الكيانات العربية واليهودية تحت امرة الانجليز في الحرب العالمية الثانية. كان موشيه ديان يحارب مع الفيلق اليهودي مع الجيش البريطاني وفقد عينه اليسرى في شمال سوريا. أما الفيلق العربي (Arab Legion ) فقد ارسلته قيادته الانجليزية الى العراق لاخماد ثورة رشيد عالي الكيلاني 1941.
من المفيد هنا أن نبين أن ما يسمى بالنخبة التي أهَّلها الاستعمار (البريطاني والفرنسي) اثناء الاستعمار المباشر كان اكثرهم من الماسون والاقليات . كما أن عقيدة الجيوش العربية لم تكن للدفاع عن الاوطان وإنما للدفاع عن وظائف الدول كما حددها الاستعمار قبل انتقاله من مرحلة الاستعمار المباشر الى الاستعمار غير المباشر والذي اطلق عليه مجازاً بالاستقلال. وفي عدد من المقالات بدأ بهذا المقال سأبين أن كافة حروب جيوش الكيانات العربية كانت حروب مسرحية وسأبدأ بحرب تأسيس الكيان الصهيوني سنة 1948 .
دعنا نقارن القوة بين الجيوش العربية والجيش اليهودي قبل واثناء اندلاع مسرحية حرب 1948:
قبل يومين فقط من الموعد المحدد لدخول الجيوش العربية فلسطين، تم إعفاء القائد العام للقوات العربية النظامية منها وغير النظامية، وتعيين اللواء نور الدين محمود مكانه مع وجود الملك عبد الله قائدا أعلى من الناحية الاسمية.
في اللحظة الأخيرة، وبتاريخ 14 مايو 1948 قرر الرئيس اللبناني بشارة الخوري ورئيس أركان الجيش فؤاد شهاب البقاء بعيداً عن الحرب. وقتها كان لبنان المستقل حديثاً يملك جيشاً متواضعاً يضم 3500 عنصر فقط موزعين على أربع كتائب مشاة.
طبقاً لقائد الجيش الأردني وقتها، غلوب باشا، فإنه” لم يكن هناك من تخطيط عربي مشترك من أي نوع… بل لم تكن هناك حتى محاولة لإعداد مثل هذه الخطة”.
لم تحقق سوريا الاستقلال سوى عام 1946 ، أي في وقت متأخر لإعداد جيش قادر على المشاركة الفاعلة في حرب فلسطين بعدها بعامين. على الورق كان الجيش السوري يضم 10 آلاف عنصر، غير أن” الواقع أشار إلى أن الافتقار للأسلحة والذخيرة جعل الجيش السوري الحديث يقتصر على فرقة واحدة بقيادة العقيد عبد الوهاب حكيم. وحتى هذه الفرقة لم تكن مهيأة لخوض أي حرب، وباعتراف قائدها حكيم. ضمت الفرقة حوالي ألفي جندي وتوزعت على كتيبتي مشاة وأخرى مدرعة تضم عدداً من دبابات رينو 35 ورينو39 الفرنسية الصنع..”
قرر الفيلق العربي ( الأردني) الذي كان يعتبر وقتها أفضل جيوش العالم العربي، ولاعتبارات عدة، تغيير هدفه من الحرب ليصبح الاستيلاء- إنقاذ الجزء المخصص للعرب من فلسطين، طبقاً لقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة. كان الملك عبد الله واعياً للقوة اليهودية في فلسطين وفي الساحة الدولية. ولم يكن يخفى عليه مدى محدودية جيشه الصغير، وتوفير الذخيرة ومصدرها البريطانيون. يضاف لذلك حقيقة أن قائد الجيش، غلووب باشا وكذلك كبار ضباطه كانوا جميعاً من البريطانيين. كما لم يفت الملك عبد الله مدى محدودية الجيوش العربية، بغض النظر عن الخطاب الحماسي الذي كان يغلب على حديث القادة والمسئولين العرب، وبالتالي فقد قرر حصر هدفه بـ: إنقاذ والحفاظ على الجزء المخصص للعرب الفلسطينيين في قرار التقسيم. غير أن قرار عبد الله المذكور ارتبط وإلى حد كبير بالاتفاق الذي توصل إليه مع غولدا ميرسون بعد مفاوضات سرية جرت بينهما بتاريخ 17 نوفمبر 1947 انتهت بموافقة الملك على التقسيم، مقابل عدم اعتراض الدولة اليهودية على ضم الملك للجزء العربي من فلسطين، كما ورد في خريطة قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود.
وفي المقابل نجد على الجانب اليهودي وضعاً مختلفاً إلى درجة التناقض الصارخ، يتمثل بالاستعداد التام للحرب من جانب الوكالة اليهودية وكما يلي:
نجح بن غوريون ومنذ 1945 في توفير التمويل اللازم لتسليح وتدريب قوات الهاغاناه من خلال الهبات التي التزم بها 18 مليونيراً يهودياً. ومع ظهور مؤشرات قوية على قرب صدور قرار بتقسيم فلسطين ، في نهاية 1947 ، تسارعت وتيرة جهود الوكالة اليهودية لتحقيق عملية إعادة هيكلة وتنظيم الجماعات اليهودية المسلحة. وقتها كانت الهاغاناه تملك قوة مدربة من 35 ألف عنصر مبعثرين على المستوطنات.
بتاريخ 7 نوفمبر 1947 أصدر يعقوب دوري، رئيس هيئة الأركان ورئيسه السياسي إسرائيل غاليلي، رئيس أركان حركة الهاغاناه الوطنية، القرار الخاص بتشييد الجيش اليهودي أو ما عرف بـ: قرار التشييد الوطني، وجاء فيه القول:” إن مخاطر تعرض البلاد لهجوم من جيوش الدول العربية المجاورة يحتم علينا القيام بعملية هيكلة ونشر مختلفة للقوات.. ففي مواجهة الجيوش النظامية لا بد من إعداد قوة عسكرية (مختلفة عن الميليشيا) تكون على قدر عال من التدريب والتسليح والتنظيم على أسس عسكرية حديثة”.
مع نهاية1947 كانت عملية التجنيد للخدمة العسكرية النظامية، بالإضافة لحشد المتطوعين، وكذلك برامج التدريب قد بلغت أوجها، وتتم على ساق وقدم من خلال المكاتب التابعة للجنة التجنيد المنتشرة في كل المدن والبلدات.
مع نهاية ديسمبر، كان اليهود قد استطاعوا وضع 7500 عنصر تحت السلاح (منهم 2500 من البالماخ)، ومع حلول أبريل كان العدد قد وصل إلى 24 ألف جندي ليرتفع إلى حوالي 30 ألف في منتصف مايو نصفهم مقاتلون مخضرمون من الهاغاناه. وفي يوليو كانت القوات اليهودية الموحده والنظامية تضم 64 ألف عنصر( بتحول الهاغاناه إلى قوات الدفاع الإسرائيلية).
في غضون ذلك كانت الهاغاناه تجوب العالم سعياً وراء السلاح، حيث نجح عملاؤها بالالتفاف حول الحظر البريطاني المفروض على توريد السلاح إلى فلسطين، وكذلك تحدي الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة في 29 مايو 1948. تعاون عملاء الهاغاناه مع شبكات المسئولين الصهاينة والمتعاطفين مع القضية اليهودية في تأمين السلاح، سواء من الدول أو من خلال تجار السلاح..
حرصت الهاغاناه ولأسبابها الخاصة على تضخيم قوة الجيوش العربية بالحديث عن حشد العرب لأكثر من 165 ألف جندي استعداداً لغزو فلسطين بهدف القضاء على اليهود. وهذا بن غوريون يدّعي بأن الفيلق العربي وحده يضم ما بين 15-18 ألف جندي تدعمهم400 دبابة، بينما لم يكن يتجاوز حجم القوة العسكرية الأردنية هذه ثمانية آلاف عنصر وبدون دبابات. ويمكن القول بأن إجمال حجم القوات العربية مجتمعة في 15 مايو 1948 لم يكن يتجاوز 20 ألف جندي يتوزعون على: 5500 مصري، و4500-6500 جندي في الفيلق العربي، و2750 سورياً، و2700 عراقي، بالإضافة إلى ألف متطوع من الإخوان المسلمين ، و3000 متطوع من جيش التحرير العربي. كانت القوات العربية تفتقر إلى سائر مقومات الدخول في حرب: القيادة الموحدة والذخيرة والمعدات المناسبة، بل إن معظم ما كان لديها من معدات لم تكن تعمل.
نظراً لأن 22% من يهود فلسطين كانوا من فئة الشباب (20-40 عاماً)، فقد استطاعت الدولة اليهودية الجديدة وضع ما لا يقل عن 13% من سكانها تحت السلاح. ففي يوليو 1947 كان اليهود قد حشدوا 65 ألف جندي، وارتفع الرقم إلى 88 ألف في أكتوبر ليصل إلى 108آلاف جندي في يناير 1948. ومع الإعلان عن تحول الهاغاناه إلى جيش نظامي، أصبح الجيش الذي يحمل اسم: قوات الدفاع الإسرائيلية، يملك 120 ألف جندي نظامي. ومع أن حجم القوات العربية ارتفع قليلاً بانضمام كتائب صغيرة من اليمن والسعودية والمغرب، إلا أن ذلك لم يغير شيئاً في ميزان القوى، إذ كانت القوات الجديدة لا تختلف في شيء من حيث الافتقار للتنسيق والسلاح الحديث والتدريب، وفوق ذلك خطة للحرب.
إذا كان اليهود قد نجحوا في الالتفاف على الحظر البريطاني والدولي المفروض على تزويد الطرفين المتحاربين بالسلاح، فإن هذا الحظر تسبب بشلّ قدرة الجيوش العربية التي تعتمد في تسلحها على بريطانيا وفرنسا اللتان التزمتا تماماً بقرار الحظر. كانت النتيجة أن الجيوش العربية التي لا تملك مخزوناً من الذخيرة، وجدت نفسها عملياً بدون قذائف ورصاص أو قطع غيار، على عكس ما كان عليه الحال مع القوات اليهودية التي كانت لا تعتمد في هذا المجال على مصادر خارجية، بل كانت تنتج احتياجاتها من الذخيرة، بينما لم تتقطع بها السبل فيما يتعلق بالسلاح والمعدات الثقيلة التي استمرت في التدفق عليها من الشرق والغرب، ومن المصادر الحكومية والخاصة على حد سواء، بالرغم من إجراءات الحظر. كانت الدول العربية المستقلة حديثاً لا تملك المال ولا جهاز المشتريات الكفء للتعامل مع الحظر.
ربما كان الفيلق الجيش العربي القوة الوحيدة التي أثارت القلق لدى القيادة اليهودية التي اعتبرتها على قدر عال من الكفاءة والمهنية. ويصف الضابط الشاب في الفيلق معن أبو نوار، المعنويات العالية التي كان يتمتع بها منتسبو القوة الأردنية، بسبب الشعبية الكبيرة التي كانت تحظى بها في الشارع الأردني، خاصة وهي تزحف على فلسطين بالقول:” كانت المشاعر ملتهبة.. أتذكر أن والدي ووالدتي كانا بين الجموع التي احتشدت في وداعنا في عمان. فمع مروري في العربة العسكرية سمعت أمي وهي تصيح بأعلى صوتها: الله معكم يا ولدي.. لا تعودوا .. الشهادة يا ولدي.
كان الفيلق بقيادة 50-70 ضابطاً معظم الكبار منهم بريطانيون، وعلى رأسهم القائد غلوب باشا ونائبه نورمان لاش، وكانت القوة مدرعة في معظمها وتدعمها وحدات خدمة فعالة. غير أنه كان من بينهم بعض الأردنيين ممن قاموا بواجبهم بشجاعة ومهنية عالية مثل : حابس المجالي، وعبد الله التل، وشاركت المدفعية في المواجهة بقوة وفعالية. وبالرغم من الظروف الصعبة فإن الهزائم الأولية التي أحاقت بالقوات اليهودية جاءت في معظمها على يد الفيلق العربي، وخاصة في القدس واللطرون وباب الواد وكفار عصيون. إلا أنه” سرعان ما أصبح الفيلق يعاني من نقص الذخيرة، وبخاصة قذائف المدفعية والمورتر بسبب الحظر البريطاني بوجه خاص. وفي 30 مايو وجدت الكتيبة الرابعة التي كانت تقاتل في اللطرون نفسها بدون ذخيرة بعد أن نفذت قذائف مدفعيتها”.
وهنا يقول بيني موريس في كتابه: 1948.. الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، “خلال الأشهر التالية، وبخاصة مع تصاعد حدة القتال في منتصف يوليو، أرسل غلوب باشا إلى لندن متوسلاً الإمدادات ليلقى طلبه الرفض. “
كانت حروب الكيانات العربية مسرحيات سواء ب1948 أو 1967 أو 1973 والتي ساعدت في تثبيت وتوسيع رقعة الكيان . وسنبين في مقالات لاحقة هشاشة الكيان الصهيوني وفي الحلقة القادمة بأنه كاد أن يسقط من داخله الى أن أنقذته حرب ال1967.
صحيفة رأي اليوم
د. عبد الحي زلوم
مستشار ومؤلف وباحث