التأثر بالقرآن الكريم عند الإمام السجاد(عليه السلام) في الصحيفة السجادية

الأربعاء 7 أغسطس 2019 - 09:33 بتوقيت غرينتش
التأثر بالقرآن الكريم عند الإمام السجاد(عليه السلام) في الصحيفة السجادية

الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين محمد وآله الطيبين الطاهرين. إن القرآن الكريم يحمل قيمة معنوية عالية، وقداسة خطابية مستوحية من صاحب الكلمات وناقلها، فالتعامل مع آياته يخضع لقواعد وآداب، ومن هذا تنوعت طرائق التأثر به.

 

 

فقد حفلت نتاجات الأدباء بأنواعها بوجود الأثر القرآني بصوره أو تراكيبه أو معانيه؛ ابتغاءً لما يحمله من إفاضات دلالية وفنية لها قدرة البث الدلالي والفني، ولم يكن النص الدعائي بعيدا من ذلك إذ دخل كثير منه ضمن دائرة (الاقتباس) القرآني سواء أكان ذلك باقتباس المفردة أم التركيب، فالنص القرآني له حضوره وتجلّى بمظاهر عدة في أقوال وخطب الأئمة(عليهم السلام) ومنها أدعية الإمام علي بن الحسين (عليه السلام)، فقد تأثر الإمام بالقرآن الكريم تأثراً واضحا، تارة بصورة مباشرة بأن يُضمِّن دعاءه نصاً قرآنيا، وتارة أخرى بصورة غير مباشرة فيكون تضميناً معنويا، ولا شك ولا ريب إن أدعيته(ع) قد شملت مظاهر الحياة المختلفة وكان التأثر القرآني فيها واضحا وجلياً .

 

من ذلك ارتسمت خطة البحث على مبحثين، كان الأول بعنوان أنماط التأثر بالقرآن الكريم في الصحيفة السجادية، واحتوى على مطلبين، أحدهما: التأثر المباشر، والثاني: التأثر غير المباشر.

 

أما المبحث الثاني فكان بعنوان: مظاهر التأثر بالقرآن الكريم في الصحيفة السجادية، وتضمَّن مطلبين، الأول: المظاهر التربوية والاجتماعية، والثاني: المظاهر الاقتصادية.

 

واستطاع البحث من خلال ذلك التوصل إلى عدة نتائج هي:

 

1- إن القرآن الكريم يحمل قيمة معنويَّة عالية وقداسة خطابيَّة، ولقداسته وجماله نجد أدعية الإمام السجاد(عليه السلام) متأثرة به وذلك بتضمن آيات قرآنية فيكون التأثر تارة نصياً مباشراً، وتارة تأثراً معنوياً، وهذه التأثيرات أضافت للنصوص الدعائيَّة جمالية كي يستمتع القارئ أو السامع للنص الدعائي وتأثره به.

 

2- كان للمظاهر الاجتماعية والاقتصادية أثر بارز في أدعية الإمام(ع) فقد وظّف في أدعيته مفردات قرآنية تكون استدلالاً على الآداب والأخلاق التي يجب مراعاتها مع الوالدين، وجزاء الإحسان بالإحسان، وكيفية التعاون مع أبناء المجتمع وتقديم الخدمة لهم.

 

3- من المظاهر الموجودة في أدعية الإمام(ع) مظاهر اقتصادية تبين لنا أهمية الاقتصاد وكيف يمكن أن نقدم العون للفقراء والمساكين، ووجوب الزكاة التطوعية، ونهانا الإمام(ع) عن التعامل مع أعداء الإسلام. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

 

المبحث الأول: أنماط التأثر بالقرآن الكريم في الصحيفة السجادية

 

المطلب الأول: التأثر المباشر:

 

هو ما لا ينقل فيه اللفظ عن معناه الأصلي إلى معنى آخر ([1]) وهو النمط الذي يُعمد فيه إلى الحفاظ على الشكل البنائي للنص القرآني، لأن هذا النمط يتم عادةً بالنقل الحرفي له ، ويكاد يخرج من دائرة التناص إلى دائرة التنصيص ([2]) كما يمثل النص القرآني المباشر مرجعية فكرية ثقافية عند الخطيب والشاعر على حد سواء لا سيما في عصر الإسلام، ومن أرضيته الصلبة ينطلق الناثر والشاعر للتعبير عمّا ينبغي وليرفد نصه بأدبية النص القرآني العالية، وبما يحمله من دلالات وجمالية، وتأثير في نفوس المتلقين؛ ليحقق لهم عنصري الإفهام والإمتاع، وسمي التأثر المباشر بالاقتباس المباشر أو الاقتباس النصي أو الحرفي ، تمييزا له عن التأثر غير المباشر الذي عُرف بالاقتباس الإشاري ([3]) أو الدلالي وعرف الأول بالظاهر تمييزا له عن الكامن أو هو اقتباس الصياغة تفريقا له عن اقتباس المعاني، وتارة يدعى بالتأثر الكلي مقابلا للتأثر المعنوي، ويدعى بالاقتباس اللفظي تفريقا له عن المعنوي ([4]) ومن مصاديق ذلك نجد الإمام السجاد (عليه السلام) في دعائه في وادع شهر رمضان يقول: ( أَنْتَ الَّذِي فَتَحْتَ لِعِبَادِكَ بَاباً إِلَى عَفْوِكَ ، وسَمَّيْتَه التَّوْبَةَ ، وجَعَلْتَ عَلَى ذَلِكَ الْبَابِ دَلِيلًا مِنْ وَحْيِكَ لِئَلَّا يَضِلُّوا عَنْه ، فَقُلْتَ - تَبَارَكَ اسْمُكَ - * ( تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ويُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ . يَوْمَ لا يُخْزِي الله النَّبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَه ، نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبِأَيْمانِهِمْ ، يَقُولُونَ : رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا ، واغْفِرْ لَنا ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ([5])

 

فاقتبسها من قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ ([6]) هنا يدعو سبحانه إلى رحمته ومغفرته كل طالب وراغب، بل ويدعو من كفر وأدبر ( وجعلت على ذلك الباب دليلا 000) إعلانا من أسماء لا من المحتكرين والمستغلين بأن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فهلموا إلى أبوابه وثوابه ([7]). قيل فيها ضروب من التفسير:

 

الأول : المراد بها توبة تنصح الناس، أي تدعوهم إلى الإتيان بمثلها لظهور آثارها الحسنة في صاحبها.

 

الثاني: أنها تنصح صاحبها فيقلع عن الذنوب ثم لا يعود إليها أبدا .

 

الثالث: إنها خالصة له تعالى .

 

الرابع : أن النصوح مأخوذ من النصاحة وهي الخياطة لأنها تنصح من الدين ما مزقته الذنوب، أو إنها تجمع بين التائب وأولياء الله وأحبائه كما تجمع الخياطة بين قطع الثوب.

 

الخامس: أن النصوح وصف للتائب وإسناده إلى التوبة من قبيل الإسناد المجازي أي توبة ينصحون بها أنفسهم بأن يأتوا بها على أكمل ما ينبغي أن تكون عليه([8])

 

روي عن الإمام علي(عليه السلام ) أنه قال: (إن التوبة يجمعها ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة، وللفرائض الإعادة، ورد المظالم، واستحلال الخصوم، وأن تعزم على أن لا تعود وأن تذيب نفسك في طاعة الله تعالى كما ربّيتها في المعصية، وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية)([9]).

 

وروي عن الصادق(عليه السلام ) قال:(هو صوم يوم الأربعاء والخميس والجمعة)([10]). وعنه(عليه السلام ) :(التوبة النصوح أن يكون باطن الرجل كظاهرة وأفضل)([11]) .

 

وأيضا من مصاديق ذلك قوله (عليه السلام ) في دعائه في الرهبة (اللَّهُمَّ إِنِّي وَجَدْتُ فِيمَا أَنْزَلْتَ مِنْ كِتَابِكَ ، وبَشَّرْتَ بِه عِبَادَكَ أَنْ قُلْتَ * يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله ، إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً * وقَدْ تَقَدَّمَ مِنِّي مَا قَدْ عَلِمْتَ ومَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِه مِنِّي ، فَيَا سَوْأَتَا مِمَّا أَحْصَاه عَلَيَّ كِتَابُكَ ،فَلَوْ لَا الْمَوَاقِفُ الَّتِي أُؤَمِّلُ مِنْ عَفْوِكَ الَّذِي شَمِلَ كُلَّ شَيْءٍ لأَلْقَيْتُ بِيَدِي...) ([12]) نجده (عليه السلام ) قد تأثر تأثراً مباشراً بالنص القرآني وضمنه دعاءه وهو قوله تعالى : ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾([13]) ، (اللهم إني وجدت فيما أنزلت من كتابك) فنظرت فيما أنزلت من كتابك وقرأت فيما فأقبلت عليك يا إلهي وقولك ثقتي وأملي وعفوك رجائي،(وقد تقدم مني ما قد عملت) من سوء ما فعلت وقلت وأضمرت ( فيا سوأتا ) من سوء فعلي، أو حالي بسبب ما أحصاه عليّ كتاب الله ([14]) . والمقصود في عبارة ( فيا سوأتاه) في قول الإمام هو الأفعال القبيحة، وهي بالأصل بمعنى العورة وما لا يجوز أن يكشف من الجسد ثم نقل على كل كلمة أو فعلة قبيحة، كما ذكرنا سابقا ، كأنه يقول لها أحضري يا سوءة فهذا من الأحوال والأوقات التي ينبغي أن نمضي بها وهي إحصاء الكتاب قبائحي ([15]) .

 

المطلب الثاني: التأثر غير المباشر(المعنوي)

 

هو ما حُول فيه المقتبس عن معناه الأصلي، لذلك يدعى بالاقتباس غير المباشر(الإشاري)، يعمد فيه المبدع استدعاء البنية القرآنية واستضافتها في خطابه الشعري، وجعلها ممتزجة معه عن طريق العملية التحويرية للنص القرآني لفظا ودلالة ،حذفا وتوليدا، تكثيفا وتوسيعا ([16]) ، لا يقتصر التأثر القرآني على الأخذ المباشر فقط، إنما امتدّ ليشمل نوعا آخر يُدرك من خلال وجود النص القرآني في التشكيل البياني للنصوص، وقد يبتعد قليلا فيدخل مساحة التأثر غير المباشر البعيد وكلاهما يُعدُّ تأثراً غير مباشراً للقرآن الكريم، وهما بحاجة إلى تأمل ومعاودة للكشف عنه، وقد يحتاج إلى قراءة أو أكثر-في النوع الأول- أو إلى قراءة تسندها ثقافة قرآنية تعين المتلقي على الرجوع إلى النصوص القرآنية التي تحمل المعاني المقتبسة كما في النوع الثاني .

 

من الصعوبة بمكان أن يحدد المتلقي المواضع التي جرى فيها التأثر القرآني غير المباشر لا سيما في النوع الثاني ، والبلاغيون بإجازتهم للنقل والتغيير بالنص المقتبس أدخلوا هذا النوع في الاقتباس ([17]) ،وهذا ما أجازه كثير من البلاغيين والنقاد ([18]).

 

ويرى بعض النقاد أنه لا يدخل في باب الاقتباس؛ إذ على الناقل أن يكون أمينا بالحفاظ على النص ولا بأس بعدئذ بما لم يكن قصد به الاقتباس . وكان من أدب السجاد (عليه السلام ) مع ربه جلا وعلا، التهيؤ والتعبؤ لإحياء شهر رمضان الذي باركه الله تعالى بنزول القرآن فما أن حل الشهر الشريف حتى تهيأ الإمام عليه السلام، لإحيائه عبر الصلاة والصيام والتوسل إلى الله تعالى والتذلل ،من خلال أدعيته التي أطبقت الآفاق شهرة عند رؤيته الهلال : (سُبْحَانَه مَا أَعْجَبَ مَا دَبَّرَ فِي أَمْرِكَ ! وأَلْطَفَ مَا صَنَعَ فِي شَأْنِكَ ! جَعَلَكَ مِفْتَاحَ شَهْرٍ حَادِثٍ لأَمْرٍ حَادِثٍ، فَأَسْأَلُ اللَّه رَبِّي ورَبَّكَ ، وخَالِقِي وخَالِقَكَ ، ومُقَدِّرِي ومُقَدِّرَكَ ، ومُصَوِّرِي ومُصَوِّرَكَ : أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه ، وأَنْ يَجْعَلَكَ هِلَالَ بَرَكَةٍ لَا تَمْحَقُهَا الأَيَّامُ ، وطَهَارَةٍ لَا تُدَنِّسُهَا الآثَامُ ،هِلَالَ أَمْنٍ مِنَ الآفَاتِ ، وسَلَامَةٍ مِنَ السَّيِّئَاتِ...)([19]) ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾([20]) فكان (عليه السلام ) كثير البرّ في شهر رمضان فكان ينوّع مبراته ويوزعها على أهل الحاجة والمسكنة. فيأمر بذبح شاة كل يوم ويأمر بطبخها وتوزيعها على الفقراء والأرامل والأيتام ، ولا يبقى شيئا منه لإفطاره ، فيفطر على الخبز والتمر ،وهو أبسط طعام إذا نظرنا إلى خصوصية ذلك المكان ([21]).

 

قد ذكر في شرح هذا الدعاء الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه ( في ظلال الصحيفة السجادية)، (ما أعجب ما دبر في أمرك .....) كل ما في الكون من الذرة الصغيرة إلى المجرة الكبيرة عجيب في صنعه وتدبيره ومحال أن يحدث صدفة من غير علم ،وقصد وحكمة ، ومن قال بالاتفاق ، والصدفة تاه في ظلمات، وانتقل من شك إلى شك، ( جعلك مفتاح شهر حادث) كل شهر، وكل يوم وكل ساعة وكل شيء في تغير دائم سوى الخالق شئنا أم أبينا ،( خالقي وخالقك ومقدري ومقدرك ومصوري ومصورك) التقدير يسبق الخلق، والتصوير، لأنه تخطيط وتصميم ،( أن يجعلك هلال بركة لا تمحقها الأيام) محق الشيء: أبطلة ومحاه ، والبركة : النماء والزيادة، وخير الأوقات على الإطلاق ما تمحى فيه السيئات وتثيب الحسنات وكل شيء ما عدى ذلك فإلى زوال والزائل ليس بشيء ([22]) .

 

كذلك دعاؤه(ع) بعد الفراغ من صلاة الليل لنفسه في الاعتراف بالذنب: (ضَلَّتْ فِيكَ الصِّفَاتُ ، وتَفَسَّخَتْ دُونَكَ النُّعُوتُ ، وحَارَتْ فِي كِبْرِيَائِكَ لَطَائِفُ الأَوْهَامِ ،كَذَلِكَ أَنْتَ اللَّه الأَوَّلُ فِي أَوَّلِيَّتِكَ ، وعَلَى ذَلِكَ أَنْتَ دَائِمٌ لَا تَزُولُ ،وأَنَا الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَمَلًا ، الْجَسِيمُ أَمَلًا ، خَرَجَتْ مِنْ يَدِي أَسْبَابُ الْوُصُلَاتِ إِلَّا مَا وَصَلَه رَحْمَتُكَ ، وتَقَطَّعَتْ عَنِّي عِصَمُ الآمَالِ إِلَّا مَا أَنَا مُعْتَصِمٌ بِه مِنْ عَفْوِكَ ،قَلَّ عِنْدِي مَا أَعْتَدُّ بِه مِنْ طَاعَتِكَ ، وكَثُرَ عَلَيَّ مَا أَبُوءُ بِه مِنْ مَعْصِيَتِكَ ولَنْ يَضِيقَ عَلَيْكَ عَفْوٌ عَنْ عَبْدِكَ وإِنْ أَسَاءَ ، فَاعْفُ عَنِّي...) ([23]) هنا الإمام علي السجاد (عليه السلام ) ذكر في دعائه تنزيه الخالق وضعف المخلوق وأن الله عز وجل دائم البقاء لا يفنى هو الأول والأخر بيده عصمتي وعليه توكلي نجده قد تأثر بقوله تعالى :﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ ([24]) .

 

هناك نوع من أنواع الاقتباس يدخل ضمن التأثر غير المباشر يدعى بـ( الاقتباس التحويري): يقصد منه أن يأتي الشاعر أو الناثر بالآية القرآنية محورة عن سياقها القرآني ، بزيادة بعض الحروف أو نقصانها ، أو إبدال لفظة بلفظة، أو تقديم أو تأخير ، أو الإتيان بالتراكيب التي تتألف من مفردتين أو ثلاث في شبه جمل ، أو في جمل اسمية، أو فعلية بسيطة ، وبغض النظر عن عدد المفردات ونوع التراكيب تظل إشارات قرآنية متعارف عليها بين الناس ،تسهل الإشارة إلى مرجعيتها القرآنية في كثير من الأحيان، ويجري استحضار تلك التراكيب لتوسيع دلالة النص وتعزيزه ([25]).

 

ومن أمثلة ذلك قوله (عليه السلام ) في دعائه لأهل الثغور (ودَبِّرْ أَمْرَهُمْ ، ووَاتِرْ بَيْنَ مِيَرِهِمْ ، وتَوَحَّدْ بِكِفَايَةِ مُؤَنِهِمْ ، واعْضُدْهُمْ بِالنَّصْرِ ، وأَعِنْهُمْ بِالصَّبْرِ ، والْطُفْ لَهُمْ فِي الْمَكْرِ ) ([26]) .

 

نجد أن الإمام (عليه السلام ) قد اقتبس من القرآن الكريم بعض المفردات والمعاني ووظفها في دعائه للمؤمنين في ساحات الحرب مبين لهم بأن الله معهم ومؤيدهم بنصر منه وأنهم مشمولين بلطائف الله بعطائهم الصبر وأمان من مكر وحيل أئمة الكفر كما جاء في قوله تعالى:﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ([27]) .

 

المراد من قول الإمام (عليه السلام ) ( ودبر أمرهم و واتر بين ميرهم ) ، واتر : تابع . الميرة : الغذاء المنقول من بلد إلى آخر ، المقصود به طريق إلى الجنود سالكة آمنه كي يصل إليهم جميع ما يحتاجون إليه من نجدة وغذاء وسلاح ( وتوحد بكفاية ) أنت يا رب وحدك تفرض النصر وتمنح الصبر في الجهاد وتلهم تدبير الأمر وإحكامه ضد العدو وهذا التدبير والإحكام هو الذي أراده الإمام من كلمة ( المكر) ما دمت المتفرد المتوحد بكل ذلك فأمنن به على حماة ثغور المسلمين فإنك المنان الكريم ([28]) ، وكذلك ورد في دعاءه على الكفار ضمن دعائه لأهل ثغور المسلمين ، أنه يطلب من الله تعالى أن يعميهم ويضلهم الضلال الأبدي وأن تقطع عنهم المدد يا رب وتنقص منهم العدد بقوتك يا قوي يا عزيز (اللَّهُمَّ افْلُلْ بِذَلِكَ عَدُوَّهُمْ ، واقْلِمْ عَنْهُمْ أَظْفَارَهُمْ ، وفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ أَسْلِحَتِهِمْ ، واخْلَعْ وَثَائِقَ أَفْئِدَتِهِمْ ، وبَاعِدْ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ أَزْوِدَتِهِمْ ، وحَيِّرْهُمْ فِي سُبُلِهِمْ ، وضَلِّلْهُمْ عَنْ وَجْهِهِمْ ، واقْطَعْ عَنْهُمُ الْمَدَدَ ، وانْقُصْ مِنْهُمُ الْعَدَدَ ، وامْلأْ أَفْئِدَتَهُمُ الرُّعْبَ ، واقْبِضْ أَيْدِيَهُمْ عَنِ الْبَسْطِ ، واخْزِمْ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ النُّطْقِ ، وشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ونَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ ، واقْطَعْ بِخِزْيِهِمْ أَطْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ )([29]) نجد الإمام(ع) قد تأثر بقوله تعالى:﴿ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا(119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ ([30]) ففي قوله( وضللهم عن وجههم ) ما يجمل ويؤكد به دعاءه بأن الله هو المضل للكافرين والمحاربين للإسلام و يوعدهم بالخسران ، وموعدهم النار.

 

وقد تأثر الإمام (عليه السلام ) في قوله : (وأملأ أفئدتهم الرعب ) بقوله تعالى: ﴿وأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ﴾([31]) وقوله ( وشرد بهم من خلفهم ) من قوله تعالى :﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ ([32]) والمراد بها فشرد بهم وأنكل بهم وأنزل عليهم الكوارث والزلازل[33] .

 

المبحث الثاني: مظاهر التأثر ومضامينه في الصحيفة السجادية

 

ضمّن الإمام(ع) أدعيته التي تمثّلت في الصحيفة الكاملة وسائر الأدعية التي وصلت عنه منهاجا كاملا للحياة الإنسانية، ولم يترك الإمام جانبا مما تحتاجه الأمة الإسلامية إلا وتعرض له وعالجه بأسلوبه الفذ وبلاغته البديعة، ومن هذه المظاهر:

 

المطلب الأول: مظاهر التربية الاجتماعية ومضامينها ، والتي تتمحور في :

 

 

 

1- تكريم الإنسان:

 

أكد الله تعالى في كثير من الآيات ([34]) ،الآيات التي عرّفت الإنسان بأنه أفضل المخلوقات وأنه خليفة الله في الأرض وحامل أمانته، وهو من سجد له الملائكة جميعا ،فهو الغاية من خلقة سائر المخلوقات : قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ ([35]) .

 

إن تكريم الإنسان في القرآن هو تكريم لذاته الإنسانية قال تعالى:﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ ([36]) ، فهذا التكريم هو جامع لكل الخير والشرف والفضائل ([37]) نجد أن الإمام(عليه السلام) قد تأثر بهذه الآيات في دعائه، إذا ابتدأ بالدعاء بدءاً بحمد الله عز وجل والثناء عليه ، لتحسينه تلك الصورة الإنسانية وجعلها مفضلة على سائر المخلوقات يقول: (والْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي اخْتَارَ لَنَا مَحَاسِنَ الْخَلْقِ ، وأَجْرَى عَلَيْنَا طَيِّبَاتِ الرِّزْقِ ، وجَعَلَ لَنَا الْفَضِيلَةَ بِالْمَلَكَةِ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ ، فَكُلُّ خَلِيقَتِه مُنْقَادَةٌ لَنَا بِقُدْرَتِه ، وصَائِرَةٌ إِلَى طَاعَتِنَا بِعِزَّتِه ) ([38]).

 

فالمراد من قوله(عليه السلام) هنا هو الشكل والصورة ،خلق سبحانه الإنسان في أحسن خلقة وأحكمها وأدقها. ([39])

 

2- بر الوالدين:

 

أكد الله سبحانه وتعالى على وجوب طاعة الوالدين والبر بهما وقرن حقهما بحقه ،وعدَّ عقوقهما من الكبائر ،وهو – العقوق – نكران للمعروف في حق الوالدين كما أنه نكران الحق لله تعالى؛ لأن العاق قد تجاهل وصية الله في الوالدين، فقد قال عز وجل:﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ ([40]) مهما قدّم الولد لوالديه فإنه لن يؤديهما حقهما ،ومن هنا كان دعائه (عليه السلام) لأبويه (عليهما السلام) نجده قد تأثر بمفردات من الآية أعلاه، فيقول فيه: (اللَّهُمَّ خَفِّضْ لَهُمَا صَوْتِي ، وأَطِبْ لَهُمَا كَلَامِي ، وأَلِنْ لَهُمَا عَرِيكَتِي ، واعْطِفْ عَلَيْهِمَا قَلْبِي ، وصَيِّرْنِي بِهِمَا رَفِيقاً ، وعَلَيْهِمَا شَفِيقاً ،اللَّهُمَّ اشْكُرْ لَهُمَا تَرْبِيَتِي ، وأَثِبْهُمَا عَلَى تَكْرِمَتِي ، واحْفَظْ لَهُمَا مَا حَفِظَاه مِنِّي فِي صِغَرِي ،اللَّهُمَّ ومَا مَسَّهُمَا مِنِّي مِنْ أَذًى ، أَوْ خَلَصَ إِلَيْهِمَا عَنِّي مِنْ مَكْرُوه ، أَوْ ضَاعَ قِبَلِي لَهُمَا مِنْ حَقٍّ فَاجْعَلْه حِطَّةً لِذُنُوبِهِمَا ، وعُلُوّاً فِي دَرَجَاتِهِمَا ، وزِيَادَةً فِي حَسَنَاتِهِمَا ، يَا مُبَدِّلَ السَّيِّئَاتِ بِأَضْعَافِهَا مِنَ الْحَسَنَاتِ) ([41]) فمن حقوق الآباء أن يكون أبناؤهم مجدين مطيعين لهم .

 

3- ظاهرة الظلم والتصدي للظالمين:

 

معلومة هي ثقافة الإمام (عليه السلام) فقد تحدث عن الظلم متبريا منه متصديا له متأثرا في ذلك في المضامين القرآنية، نجد ذلك في قوله (عليه السلام) في دعائه في مكارم الأخلاق ومرضِىِّ الأفعال :( واجْعَلْ لِي يَداً عَلَى مَنْ ظَلَمَنِي ، ولِسَاناً عَلَى مَنْ خَاصَمَنِي ، وظَفَراً بِمَنْ عَانَدَنِي ، وهَبْ لِي مَكْراً عَلَى مَنْ كَايَدَنِي ، وقُدْرَةً عَلَى مَنِ اضْطَهَدَنِي ، وتَكْذِيباً لِمَنْ قَصَبَنِي) ([42]) ، جاءت أدعية الإمام(ع) تعالج الظلم، ترفضه ، تعرضه بصيغة الداء ، وفي رجائه الانتصاف للمظلومين ، اليد على الظالم هي القدرة عليه لرد ظلمه وإجباره على العدل نجد الإمام (عليه السلام) تأثر في كلماته بقوله تعالى:﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾([43]) ، هنا يتبين من قول الإمام (عليه السلام) وظيفة المظلوم وهي أن يتلمس العلة لردع الظلم عنه فأن خذلته الوظائف السليمة واستطاع قتل الظلم فعل ولا شيء عليه ،كما جاء في كتاب جامع المدارك للسيد أحمد الخونساري ( ت: 1405ه) ( أن رجلا قال للإمام الباقر (عليه السلام) : اللص يدخل على بيتي يريد نفسي ،مالي ؟ فقال الإمام (عليه السلام) : اقتله ،فأشهد الله ومن سمع أن دمه في عنقي) ([44])، فأن الساكت عن ظالمه وهو قادر على مقاومته فقد ظلم نفسه وما ربك بظلام للعبيد ، وفي الدعاء إشارة إلى إعمال الفكر في مواجهة كيد الظالمين (وهب لي مكرا على من كايدني) إذ إن التفكير يقود – بتوفيق الله – إلى وسائل مختلفة لمواجهة كيد الظالمين ومكرهم، العدل فرح العالم والظلم كآبته وأحزانه، ومصائبه ([45]) .

 

يقول الإمام(عليه السلام) في دعائه إذا اعتدى عليه أو رأى من الظالمين ما لا يحب (اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه ، وخُذْ ظَالِمِي وعَدُوِّي عَنْ ظُلْمِي بِقُوَّتِكَ ، وافْلُلْ حَدَّه عَنِّي بِقُدْرَتِكَ ، واجْعَلْ لَه شُغْلًا فِيمَا يَلِيه ، وعَجْزاً عَمَّا يُنَاوِيه)([46])

 

نجد الإمام (عليه السلام) تأثر بكلماته من قوله تعالى﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ ([47]) فغالبا ما تكمن الحركة الإنسانية في الحركة الدعائية، فقول الإمام: ( خذ ظالمي) ، أي أبعده عني ما أمطره بوابل من الدعوات الانتقامية . وكما معلوم أن الإمام (عليه السلام) يتميز بالحلم والتقوى ، وكل ما يريده أن يرتفع الظلم من المجتمعات، يطلب زحزحته عن المظلوم، دون أذى الظالم ، فهو لا يبغي الانتقام؛ لأن في الانتقام ظلما جديدا ، وعنفا جديدا ، هو يريد العدالة المطلقة ، والسلام المطلق.

 

 

 

4- التربية على التماسك الاجتماعي والتعاون:

 

فالجماعة المسلمة أسرة واحدة وإن حاولت بعض الأفكار الشاذة أن تفرق بين بعض لأفرادها. وتؤدي التربية الاجتماعية إلى المحافظة على تماسك الجماعة وهذه ظاهرة جلية في دعائه (عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضى الأفعال (وأَكْمِلْ ذَلِكَ لِي بِدَوَامِ الطَّاعَةِ ، ولُزُومِ الْجَمَاعَةِ ، ورَفْضِ أَهْلِ الْبِدَعِ ، ومُسْتَعْمِلِ الرَّأْيِ الْمُخْتَرَعِ)([48]) .

 

فدوام الطاعة للقيادة لأمر الله تعالى ونهيه ،وتدوم هذه الطاعة وتكتمل بلجام النفس عن المعاصي لله تعالى ( لزوم الجماعة)، أي تستلزم تماسك الجماعة وعدم الخروج على جمع الشمل ووحدة الكلمة، و لابد من اتخاذ موقف سلبي رافض لأهل البدع وإتباع الآراء المخترعة التي ليس لها في الدين أصل ، وهو موقف اجتماعي شرعي يوقف سريان البدع والأباطيل ويحد من تفشيها بين البسطاء ويحافظ بذلك على التماسك الاجتماعي للجماعة المسلمة، أو المقاطعة الاجتماعية ،وهو أسلوب ثابت في مواجهة المفسدين فقرره القرآن الكريم على لسان أنبيائه ([49]) ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾ ([50]) ومن هنا جاء تأثر الإمام (عليه السلام) بمعنى الآية المباركة.

 

ونجد في جانب آخر من الدعاء (ولَا تَبْتَلِيَنِّي بِالْكَسَلِ عَنْ عِبَادَتِكَ ، ولَا الْعَمَى عَنْ سَبِيلِكَ ، ولَا بِالتَّعَرُّضِ لِخِلَافِ مَحَبَّتِكَ ، ولَا مُجَامَعَةِ مَنْ تَفَرَّقَ عَنْكَ ، ولَا مُفَارَقَةِ مَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْكَ) ([51]) وهاتان العبارتان الأخيرتان تدلان على ضرورة التماسك الاجتماعي والابتعاد عن العناصر التي تضعف هذا التماسك وتفسده وتفرق بين المسلمين .

 

وجاء في جانب آخر من دعائه (عليه السلام) في خدمة الناس(وأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدِيَ الْخَيْرَ ولَا تَمْحَقْه بِالْمَنِّ ، وهَبْ لِي مَعَالِيَ الأَخْلَاقِ ، واعْصِمْنِي مِنَ الْفَخْرِ) ([52]) . فهذه تربية دينية ترمي إلى محاولة خدمة الناس وإيصال الخير لهم ، مع الاحتراز الشديد من المن؛ لأنه يمحق أثر تلك الخدمة في الدنيا والآخرة فكل عاقل يود بفطرته أن يكون محسنا لا مسيئا ، وهل شيء أعظم من صنع الخير للناس وأن يجري على يدك خلاص المكروبين من المصائب والشدائد ([53]) ،فالإمام اقتبس كلمات دعائه من قوله تعالى: ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ﴾([54]) .

 

(هب لي معالي الأخلاق) : إن حياة الإنسان لا تستقيم ولا تنسجم وشرورها لا تنتهي وتنحسم إلا برعاية الحق ، والعدل ، والمساواة ، وهذه أبرز مصاديق الأخلاق ( اعصمني من الفخر) أبلغ ما قيل فيمن يفخر ويتبختر ، جاء في نهج البلاغة : ( ما لابن آدم والفخر وآخره جيفة ، ولا يرزق نفسه ولا يدفع حنفه) ([55])

 

5- تربية النفس على مقابلة الإساءة بالإحسان

 

المشاكل الاجتماعية بين الأفراد إنما تبدأ بخطأ من طرف أو شخص فإذا قوبل الخطأ بتصرف من جنسه كردّ فعلٍ عليه، ترسخت المشكلة وتعقدت ،وهذا لا يتوافق ما تدعو إليه التربية الاجتماعية السليمة في مقابلة الإساءة بالإحسان ،لإزالة آثار الإساءة من القلوب أولاً، ومن الواقع الاجتماعي ثانيا، ولإشاعة الإحسان كسبيل أمثل للتعامل الاجتماعي ونقرأ هذه الدروس الرائعة في دعائه (عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضىً الأفعال : (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه ، وسَدِّدْنِي لأَنْ أُعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ ، وأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ ، وأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ ، وأُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ ، وأُخَالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إِلَى حُسْنِ الذِّكْرِ ، وأَنْ أَشْكُرَ الْحَسَنَةَ ، وأُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَةِ) ([56]) ، فالإمام في دعائه هذا تأثر بكلماته من مجموعة من الآيات القرآنية : ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ(60) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (61) وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ﴾ ([57]) ، في هذا الدعاء تبرز علامات التضرع والخضوع عند الداعي ، فالإمام (عليه السلام) يناجي رب العالمين ويقول ربي سددني ووفقني أقابل و أكافي بالخير من أراد بي سوءا ، فكان(عليه السلام) يطوف بالليل متنكرا على بيوت الفقراء ويوزع عليهم الدراهم والدنانير ([58]). فأي تربية اجتماعية في اقتلاع الأمراض الاجتماعية أفضل من هذه التربية ؟ .

 

 

 

6- التربية على الإصلاح بين الناس وخدمتهم

 

من أهم المشاكل التي قد تهدد الجماعات البشرية نشوء الفرقة والاختلاف المؤدية إلى التنازع والذي هو الطريق الحتمي للفشل والوهم ، ونرى في عبارات أدعية الإمام(عليه السلام) صفات الدور الاجتماعي للمتقين الصالحين ،فكأن من دعائه (عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضى الأفعال يقول :( اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه ، وحَلِّنِي بِحِلْيَةِ الصَّالِحِينَ ، وأَلْبِسْنِي زِينَةَ الْمُتَّقِينَ ، فِي بَسْطِ الْعَدْلِ ، وكَظْمِ الغَيْظِ ، وإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ ، وضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ ، وإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ، وإِفْشَاءِ الْعَارِفَةِ ، وسَتْرِ الْعَائِبَةِ ، ولِينِ الْعَرِيكَةِ ، وخَفْضِ الْجَنَاحِ ، وحُسْنِ السِّيرَةِ ، وسُكُونِ الرِّيحِ ، وطِيبِ الْمُخَالَقَةِ ، والسَّبْقِ إِلَى الْفَضِيلَةِ ، وإِيثَارِ التَّفَضُّلِ ، وتَرْكِ التَّعْيِيرِ ، والإِفْضَالِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ ، والْقَوْلِ بِالْحَقِّ وإِنْ عَزَّ ، واسْتِقْلَالِ الْخَيْرِ وإِنْ كَثُرَ مِنْ قَوْلِي وفِعْلِي)([59]) .

 

فهنا كان تأثر الإمام زين العابدين (عليه السلام) لكلمات دعائه من مجموعة من الآيات القرآنية منها قوله تعالى : ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾([60]) ، ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾([61])، فالصاحون المتقون ليسوا منقطعين إلى محراب العبادة وتربية النفس فحسب بل أن دورهم الاجتماعي يدعوهم لإقامة العدل ونشره وجمع الكلمة على التقوى من خلال التخلص من النزعات والفتن ، كذلك لا بد من أمور أخرى كإصلاح ذات البين ، وإفشاء المعروف ونشره ، ونبذ المنكرات وطردها.. وغيرها ، فهذه المهمات الاجتماعية التي يتعلمها المسلمون من هذا الدعاء تجعل الدور الاجتماعي للدين حاضرا باستمرار وضروريا في المجتمع ، وبدونه سيبقى المجتمع يتخبط تخبط العشواء في جميع جوانبه ما يؤدي إلى كثرة الأوبئة والأمراض وتشتت المجتمعات ، وغير ذلك من الأمور الخطيرة التي تؤدي إلى القتال الدموي كما نشاهد ذلك في مجتمعنا الحالي.

 

وكان من دعائه (عليه السلام) في الاستعاذة من المكاره وسيء الأخلاق ومذامّ الأفعال قوله : (وسُوءِ الْوِلَايَةِ لِمَنْ تَحْتَ أَيْدِينَا ، وتَرْكِ الشُّكْرِ لِمَنِ اصْطَنَعَ الْعَارِفَةَ عِنْدَنَا ،أَوْ أَنْ نَعْضُدَ ظَالِماً ، أَوْ نَخْذُلَ مَلْهُوفاً ، أَوْ نَرُومَ مَا لَيْسَ لَنَا بِحَقٍّ ، أَوْ نَقُولَ فِي الْعِلْمِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ([62]) فقد تأثر(ع) بكلماته تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ([63]) ، ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ﴾([64]).

 

هذه بعض نماذج المظاهر الاجتماعية التي يستفاد منها المسلمون من أدعية الإمام السجاد (عليه السلام) في الصحيفة السجادية والذي يتوازن فيه الفردي مع الاجتماعي وتنسجم فيه تزكية النفس مع إصلاح المجتمع في عملية تربوية واقعية متكاملة لا تغفل من جوانب الإنسان والحياة في أي جانب .

 

المطلب الثاني: المظاهر الاقتصادية ومضامينها في أدعية الصحيفة السجادية :

 

1- التعامل في الحلال وفي الطيبات :

 

إن التعامل بما يتوافق والشرع هو نتيجة للنبع الصالح والبذرة النابعة من أصل حلال ، فالإسلام لم يغلق باب على الإنسان لا بل لم يضيقه وإنما وسع مساربه بما يرضي ضمير المرء ويريح قريحته ومن ثم يزرع الثقة والتواصل المحب بين المسلمين عامة والمتعاملين وأرزاقهم وطيباتهم خاصة ، وقد ورد أمر ذلك في المضامين القرآنية وبقية المضامين الراسمة والموضحة لها ولا سيما ما نجده في الأدعية المربية للنفس الإنسانية، من ذلك ما نجده في دعائه (عليه السلام) إذا قُتِّرَ عليه الرزق يقول (اللَّهُمَّ إِنَّكَ ابْتَلَيْتَنَا فِي أَرْزَاقِنَا بِسُوءِ الظَّنِّ ، وفِي آجَالِنَا بِطُولِ الأَمَلِ حَتَّى الْتَمَسْنَا أَرْزَاقَكَ مِنْ عِنْدِ الْمَرْزُوقِينَ ، وطَمِعْنَا بِآمَالِنَا فِي أَعْمَارِ الْمُعَمَّرِينَ ،فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه ، وهَبْ لَنَا يَقِيناً صَادِقاً تَكْفِينَا بِه مِنْ مَئُونَةِ الطَّلَبِ ، وأَلْهِمْنَا ثِقَةً خَالِصَةً تُعْفِينَا بِهَا مِنْ شِدَّةِ النَّصَبِ ،واجْعَلْ مَا صَرَّحْتَ بِه مِنْ عِدَتِكَ فِي وَحْيِكَ ، وأَتْبَعْتَه مِنْ قَسَمِكَ فِي كِتَابِكَ ، قَاطِعاً لِاهْتِمَامِنَا بِالرِّزْقِ الَّذِي تَكَفَّلْتَ بِه ، وحَسْماً لِلِاشْتِغَالِ بِمَا ضَمِنْتَ الْكِفَايَةَ لَه) ([65]) .

 

فالإمام (عليه السلام) هنا قد اقتبس معاني كلماته من تكاثف قرآني المتمثل في الآيات القرآنية الآتية: ﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ ([66]) ، وقوله تعالى : ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ ([67]) ، وقوله تعالى :﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ ([68]) ، ما يعكس ثقافة الإمام (عليه السلام) وتأثره بالوحي القرآني ،فرسم بصورة مؤدبة متآلفة حقيقة الرزق الحلال للمؤمنين ،وكيفية الإنفاق فهو ليس طلب للرزق بصورة مادية وإنما طلب بصورة معنوية للروح الإنسانية .

 

2- فريضة الزكاة و وجوب الصدقات التطوعية و إعانة الفقراء.

 

كان الإمام زين العابدين(عليه السلام)كثير العطف و الحنان على الفقراء و المساكين, كثير التصدق عليهم, وكان يعجبه أن يحضر على مائدة طعامه اليتامى و الأضراء, والمساكين الذين لا حيلة لهم, وكان يناولهم بيده, كما كان يحمل لهم الطعام أو الحطب على ظهره حتى يأتي باباً من أبوابهم فيناولهم إياه, كما جاء في كتابة (الحلية) لأبي نعيم الأصبهاني(ت 430ه):إن الأمام (عليه السلام) كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل, فيتصدق به, ويقول ):إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل)([69]). ويبرز هذا جلياً في دعائه(عليه السلام) في طلب التوفيق لمعونة الفقراء على قضاء الدين (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيَّ صُحْبَةَ الْفُقَرَاءِ ، وأَعِنِّي عَلَى صُحْبَتِهِمْ بِحُسْنِ الصَّبْرِ ، ومَا زَوَيْتَ عَنِّي مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ فَاذْخَرْه لِي فِي خَزَائِنِكَ الْبَاقِيَةِ ،واجْعَلْ مَا خَوَّلْتَنِي مِنْ حُطَامِهَا ، وعَجَّلْتَ لِي مِنْ مَتَاعِهَا بُلْغَةً إِلَى جِوَارِكَ ووُصْلَةً إِلَى قُرْبِكَ وذَرِيعَةً إِلَى جَنَّتِكَ ، إِنَّكَ * ( ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) * ، وأَنْتَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ)([70]), فقد ضمن الإمام(عليه السلام) كلامه و جمله بمفردات من القرآن الكريم والتي جاءت في عدة آيات قرآنية منها قوله تعالى ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ ([71])وقوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ([72]) ، وقوله تعالى﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾([73]) .

 

فمعنى قوله (عليه السلام) (اللهم حبب إليّ صحبة الفقراء ) حتى أحب أن أصاحبهم ( وأعني على صحبتهم بحسن الصبر ) بأن تتفضل عليّ بصبر حسن أتمكن به من تحمل الأذى والحزن الموجود في كثير من الفقراء، ( وما زويت عني) أي : بعدت ،( من متاع الدنيا الفانية) أي: أسبابها وزينتها التي يتمتع ويتلذذ الإنسان بها، (فاذخره لي في خزائنك الباقية) أي: تعطيها لي في الآخرة، ( واجعل ما خولتني) أي: أعطيتني، ( من حطامها) أي: من متاعها سمي حطاما تشبيهاً بعود الزرع الذي يتحطم ويتكسر لدى الجفاف مما لا قيمة له، ( وعجلت لي من متاعها بلغة إلى جوارك) أي: وفقني لأن أصرفها حتى تسبب لي بلوغ جوارك في الآخرة، والمراد جوار رحمته وفضله في الجنة، (ووصلة) أي: آلة للإيصال، ( إلى قربك) قرب الشرف بأن أصرفها في الخير حتى أنال بذلك رضاك، ( وذريعة) أي: وسيلة، (إلى جنتك) فإن المال المصروف في الوجوه المشروعة يوجب الجنة، (إنك ذو الفضل العظيم وأنت الجواد الكريم) الذي تتفضل وتجود بما طلب منك، فأعطني طلبتي بتوفيقي لما ذكرت في الدعاء([74]) فدعاؤه(ع) جاء مترتبا على العلل والأسباب على وفق مبدأ الأخلاق السماوي الذي أشار إليه القرآن الكريم.

 

3- تجنب التبذير والإسراف في الإنفاق

 

الغالب على المرء- كما نراه اليوم- يطلب الرزق بغير تحديد أيّاً كان وضعه المعاشي، ومن غير الالتفات إلى ما حذّر منه القرآن الكريم من خلال نهيه عنه محذراً إياه من تداخل الشيطان في عمله، ولكن نجد تربية الإمام(ع) متأثرة بالتعاليم الإلهية للنفس البشرية من أن تنزو عن الصواب بأي مسلك سواء أكان مادياً أم معنوياً،فكان من دعائه(ع) في المعونة على قضاء الدَّين(اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه ، واحْجُبْنِي عَنِ السَّرَفِ والِازْدِيَادِ ، وقَوِّمْنِي بِالْبَذْلِ والِاقْتِصَادِ ، وعَلِّمْنِي حُسْنَ التَّقْدِيرِ ، واقْبِضْنِي بِلُطْفِكَ عَنِ التَّبْذِيرِ)([75]) نجد الإمام(ع)- هنا وفي سائر أدعيته- قد أطلق القوامة لله عز وجل، مقيدا بذلك جميع قواه المادية والمعنوية أمام الخالق، متضرعا خاضعا، طالبا التدخل الإلهي في سير نفسه في الحياة الدنيا، مما جاء متوافقا وكتاب الله عز وجل: ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾ ([76]) وقوله تعالى:﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا(26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ ([77])

 

فقوله(احجبني) أي: امنعني، (عن السرف) هي الزيادة في الصرف،(والازدياد) عن قدر الحاجة، (وقومني) أي: قوّم أموري، (بالبذل) بأن أبذل قدر اللازم فلا أبخل، (الاقتصاد) بأن أتوسط في الإنفاق فلا أسرف، (وعلمني حسن التقدير) بأن أقدر أموري تقديراً حسناً حتى أعرف كيف أحصل وكيف أنفق، ( واقبضني) أي: اقبض على يدي وامنعني، ( بلطفك عن التبذير) وأجر من أسباب الحلال أرزاقي حتى لا أحتاج إلى أسباب الحرام كالربا وما أشبه([78]).

 

الخاتمة:

 

بعد رحلة البحث في رحاب الصحيفة السجادية وتأثر الإمام زين العابدين(ع) بالقرآن الكريم فيها، استطاع البحث أن يخرج بمجموعة من النتائج هي خلاصة لما تناوله البحث:

 

1- إن القرآن الكريم يحمل قيمة معنويَّة عالية وقداسة خطابيَّة، ولقداسته وجماله نجد أدعية الإمام السجاد(عليه السلام) متأثرة به وذلك بتضمن آيات قرآنية فيكون التأثر تارة نصياً مباشراً، وتارة تأثراً معنوياً، وهذه التأثيرات أضافت للنصوص الدعائيَّة جمالية كي يستمتع القارئ أو السامع للنص الدعائي وتأثره به.

 

2- كان للمظاهر الاجتماعية والاقتصادية أثر بارز في أدعية الإمام(ع) فقد وظّف في أدعيته مفردات قرآنية تكون استدلالاً على الآداب والأخلاق التي يجب مراعاتها مع الوالدين، وجزاء الإحسان بالإحسان، وكيفية التعاون مع أبناء المجتمع وتقديم الخدمة لهم.

 

4- من المظاهر الموجودة في أدعية الإمام(ع) مظاهر اقتصادية تبين لنا أهمية الاقتصاد وكيف يمكن أن نقدم العون للفقراء والمساكين، ووجوب الزكاة التطوعية، ونهانا الإمام(ع) عن التعامل مع أعداء الإسلام.

 

 

المصادر والمراجع

 

القرآن الكريم

البرهان في تفسير القرآن/هاشم البحراني/تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية- مؤسسة البعثة-قم.

بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار/ محمد باقر المجلسي/مؤسسة الوفاء-بيروت/الطبعة الثانية المصححة/1403 ه‍

تفسير غريب القرآن/فخر الدين الطريحي/تحقيق: محمد كاظم الطريحي/انتشارات زاهدي- قم

جامع المدارك في شرح المختصر النافع/أحمد الخوانساري/تعليق: علي أحمد الغفاري/ط2/مؤسسة إسماعيليان- قم/نشر: مكتبة الصدوق- طهران/1405ه

حلية الأولياء وطبقات الأصفياء/أبو نعيم الأصفهاني/ط2/دار الكتاب العربي- بيروت/1967م

شرح الصحيفة السجادية/محمد الحسيني الشيرازي/ط3/دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع- بيروت/2009م

الشعرية في كلام السجاد/عبد المحسن سالم الجابري/رسالة ماجستير/كلية الآداب- جامعة القادسية/2006م

الصحيفة السجادية الكاملة/ الإمام زين العابدين(عليه السلام)/تحقيق: علي أنصاريان/سفارة الجمهورية الإيرانية بدمشق/1419ه

في ظلال الصحيفة السجادية/محمد جواد مغنية/ط1/تحقيق: سامي الغريري/دار الكتاب الإسلامي-قم/2002م

القرآنية في شعر الرواد في العراق/إحسان محمد جواد التميمي/رسالة ماجستير/كلية التربية- جامعة القادسية/2000م

المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر/ضياء الدين بن الأثير/تحقيق: أحمد الحوفي وبدوي طبانة/ط2/الرياض/منشورات دار الرفاعي/1983م

المحاسن/ أبي جعفر أحمد بن محمد بن خالد البرقي/عنى بنشره وتصحيحه والتعليق عليه: السيد جلال الدين الحسيني/نشر: دار الكتب الإسلامية-طهران/1370ه

مسند الإمام علي(ع)/حسن القبانجي/تحقيق: طاهر السلامي/ط1/منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات- بيروت/1421ه

المضامين الدينية والتراثية في الشعر الأندلسي في القرن الرابع الهجري/فائزة رضا شاهين/رسالة ماجستير/كلية التربية للبنات- جامعة تكريت/2004م

معاني الأخبار/ الصدوق/تحقيق: علي أكبر الغفاري/مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين- قم

معجم آيات الاقتباس/ حكمة فرج البدري/دار الحرية للطباعة/بغداد/1980م

المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم/ محمد فؤاد عبد الباقي/ط3/ منشورات ذوي القربى/2004م

المعجم المفهرس لمعاني القرآن العظيم/محمد بسام رشدي الزين/ط1/1416ه/ نشر: دار الفكر- بيروت .

موسوعة أحاديث أهل البيت(ع)/ هادي النجفي/ط1/دار إحياء التراث العربي- بيروت/1423ه

النهاية في غريب الحديث/ ابن الأثير/تحقيق: طاهر أحمد الزاوي/ط4/مؤسسة اسماعيليان- قم/1364ه

نور الأنوار في شرح الصحيفة السجادية/ نعمة الله الجزائري/ط1/أميران/ قم/1427ه

نهج البلاغة/وهو مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام/شرح: محمد عبدة/الناشر : دار المعرفة للطباعة والنشر-بيروت لبنان

وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة/محمد بن الحسن الحر العاملي/تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث-قم /1414 ق

 

 

الهوامش

 

[1] - ظ: الشعرية في كلام السجاد \ عبد المحسن سالم الجابري \ رسالة ماجستير \ 107

 

[2] - ظ: القرآنية في شعر الرواد في العراق\إحسان محمد جواد التميمي\22

 

[3] - الاقتباس النصّي هو الذي لا يغير الشاعر او الناثر في لفظ النص المقتبس، والاقتباس الإشاري هو الذي يغير في الشاعر لفظ النص وتركيبه.ظ: معجم آيات الاقتباس/12

 

[4] - م.ن/1

 

[5] - الصحيفة السجادية/الإمام زين العابدين(ع)/ 194

 

[6] - التحريم : 8

 

[7] - في ظلال الصحيفة السجادية/محمد جواد مغنية/ 57

 

[8] - ظ: بحار الأنوار\ المجلسي\83\145 ، تفسير غريب القرآن\الطريحي\88

 

[9] - مسند الإمام علي(عليه السلام ) \حسن القبانجي\9\360

 

[10] - وسائل الشيعة(آل البيت)\الحر ألعاملي\16\78 ، البرهان في تفسير القرآن\ هاشم البحراني\5\426

 

[11] - معاني الأخبار\الصدوق\174 ، موسوعة أحاديث أهل البيت(عليه السلام ) \هادي ألنجفي\2\263

 

[12] - الصحيفة السجادية/248

 

[13] - الزمر : 53

 

[14] - في ظلال الصحيفة السجادية/638

 

[15] - نور الأنوار في شرح الصحيفة السجادية /نعمة الله الجزائري/ 348

 

[16] - ظ: القرآنية في شعر الرواد في العراق/التميمي/30

 

[17] - ظ- القرآنية في شعر الرواد في العراق\ التميمي \ 30 0

 

[18] - ظ:المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر/ابن الأثير / 1 / 161 -

 

[19] - الصحيفة السجادية \ 184

 

[20] - البقرة : 185

 

[21] - المحاسن \ احمد بن محمد بن خالد البرقي\ 1\ 396

 

[22] - في ظلال الصحيفة السجادية \ 495

 

[23] - الصحيفة السجادية \ 100

 

[24] - الحديد : 3 – 4

 

[25] - ظ: المضامين الدينية والتراثية في الشعر الأندلسي في القرن الرابع الهجري\ فائزة رضا شاهين \ 35 + القرآنية في شعر الرواد في العراق \ التميمي \ 30

 

[26] - الصحيفة السجادية \ 126

 

[27] - التوبة : 14 – 15

 

[28] - في ظلال الصحيفة السجادية \ 351

 

[29] - الصحيفة السجادية \ 128

 

[30] - النساء : 119 - 120

 

[31] - الأحزاب : 26

 

[32] - الأنفال : 57

 

[33] - ظ: في ظلال الصحيفة السجادية/353

 

[34] - ظ: المعجم المفهرس لمعاني القرآن العظيم \ محمد بسام الزين \ 1\ 186- 187

 

[35] - الإسراء: 70

 

[36] - التغابن: 3

 

[37] - النهاية في غريب الحديث/ابن الأثير / حرف الكاف( باب الكاف مع الراء)

 

[38] - الصحيفة السجادية/30

 

[39] -ظ: في ظلال الصحيفة السجادية/63

 

[40] - الإسراء : 23 – 24

 

[41] - الصحيفة السجادية/116

 

[42] - الصحيفة السجادية/94

 

[43] - الأنفال : 30

 

[44] - جامع المدارك في شرح المختصر النافع \ احمد الخونساري\ 171

 

[45] - ظ: في ظلال الصحيفة السجادية/258

 

[46]- الصحيفة السجادية/72

 

[47] - الشورى : 40

 

[48] - الصحيفة السجادية/96

 

[49] - ظ: في ظلال الصحيفة السجادية/265

 

[50] - مريم : 48

 

[51] - الصحيفة السجادية/96

 

[52] - الصحيفة السجادية/92

 

[53] - ظ: في ظلال الصحيفة السجادية 252

 

[54] - الرعد : 17

 

[55] - ظ: نهج البلاغة/شرح: محمد عبده /الحكمة 4/ 104

 

[56] - الصحيفة السجادية/94

 

[57] - الرحمن : 60

 

[58] - ظ: في ظلال الصحيفة السجادية/260

 

[59] - الصحيفة السجادية/96

 

[60] - آل عمران : 134

 

[61] - هود : 88

 

[62] - الصحيفة السجادية/56

 

[63] - المائدة : 2

 

[64] - البلد : 17

 

[65] - الصحيفة السجادية/136

 

[66] - المائدة : 88

 

[67] - الأعراف : 32

 

[68] البقرة : 267

 

[69] - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء/ أبي نعيم الأصبهاني/3/137

 

[70] - الصحيفة السجادية/138

 

[71] - - البقرة: 43

 

[72] - البقرة : 277

 

[73] - البقرة : 177

 

[74] - شرح الصحيفة السجادية/ محمد الحسيني الشيرازي/ موقع الشيرازي

 

[75] - الصحيفة السجادية/138

 

[76] - المؤمنون: 33

 

[77] - الإسراء: 26- 27

 

[78] - شرح الصحيفة السجادية/ محمد الحسيني الشيرازي/ موقع الشيرازي

 

آخر المواضيع

الرؤية التاريخية في القصص القرآني

 

المصدر: العتبة الحسينية المقدسة

الكاتب: أ.م.د خولة مهدي شاكر الجراح