يعني أنّ الإعلان عن سحب الإمارات لقوّاتها تحت عُنوان “إعادة الانتشار”، خاصّةً من جبهة المُواجهات في الحديدة، كان “استراتيجيًّا” ولم يكُن “تكتيكيًّا”، ونتيجة توصّل قيادتها إلى قناعةٍ راسخةٍ بأنّها لن تكسبها عسكريًّا، وليس أمامها أيّ بديل آخَر غير تقليص خسائرها وبأسرعِ وقتٍ مُمكنٍ، والاعتراف بالخَطأ.
لم يُجانب السيّد عبد الملك الحوثي، الزعيم الروحي لحركة “أنصار الله” الحقيقة عندما قال في كلمته التي نقلتها قناة “المسيرة” “إنّ العدو يعيش حالةً من التخبّط والتّفكيك يومًا بعد يوم، وأنّ إعلان دولة الإمارات بإعادة انتشار قوّاتها هو أحد الأدلّة في هذا الصّدد”.
ما لم يقُله الدكتور عبد الله في تغريدته المذكورة آنفًا، أنّ التحالف العربي الذي تقوده السعوديّة قد انتهى إماراتيًّا أيضًا، وأنّ حديث الدكتور أنور قرقاش، وزير الدولة الإماراتي، قبل يومين بأنّ خطوة إعادة الانتشار للقوّات الإماراتيّة في جبهة الحديدة تم بالتّنسيق مع الشّريك السعوديّ ليس له أيّ حظ من الصحّة، ويصُب في خانة “المُجاملة” المُضلّلة، ومُحاولةً لذَر الرّماد في العُيون، أيّ عُيون القِيادة السعوديّة.
***
كان واضحًا مُنذ زيارة الشيخ عبد الله بن زايد، وزير الخارجيّة الإماراتي إلى موسكو الشهر الماضي، أنّ الإمارات تبحث عن سُلّم للنّزول عن شجرة المأزق الذي تجِد نفسها فيه بالانخِراط في الحرب اليمنيّة، ولم تجِد أفضل من البوّابة الروسيّة لفتح قنوات اتّصال مُزدوجة: الأولى مع حركة “أنصار الله” الحوثيّة، والثانية مع القِيادة الإيرانيّة التي لا تُخفي دعمها للحركة.
الوفد الأمني الإماراتي الذي ذهب إلى طِهران تحت عُنوان توقيع “مذكّرة تفاهم” لحِماية الحُدود بين البلدين لم يكُن وفدًا “تقنيًّا”، وإنّما وفدًا سياسيًّا بالدّرجة الأولى برتبٍ عسكريّة، لكسر حاجز القَطيعة بين الدولتين، والتّمهيد للِقاءات على أعلى المُستويات لاحقًا.
الحرب في اليمن تقترب بسرعةٍ من نهايتها بالنّظر إلى الأسباب التي أرادت تحقيقها في بداياتها وفشِلت، وأبرزها إعادة “الشرعيّة” إلى صنعاء، وتنصيب نظام يمني جديد يكون “دمية” في يد الرياض، وباتت هذه الحرب تتحوّل إلى حربٍ عكسيّةٍ مُضادّةٍ ضد المملكة العربيّة السعوديّة وعُمقها الترابي.
نشرح أكثر ونقول، إنّ حركة “أنصار الله” الحوثيّة والتحالف الذي تقوده أصبح هو صاحب اليد العُليا في هذه الأزمة، وبات يُملي وقائعها على الأرض، وانتقلت السعوديّة من موقع المُهاجم إلى موقع المُدافع، وإذا كانت لم تنجح في الهُجوم الذي ارتد عليها سلبيًّا، وهزّ صورتها في العالم بعد اتّهامها بجرائم حرب، فإنّنا لا نعتقد أنّها ستنجح في الدفاع بعد تنامي قوّة الخصم الحوثي، وتطوير قُدراته الهُجوميّة، ووصول صواريخه إلى الدمام، وشلّ حركة الملاحة الجويّة في ثلاثة مطارات رئيسيّة سعوديّة في الجنوب (جازان، نجران، أبها).
أن تصِل الصواريخ الحوثيّة إلى مدينة الدمام، مقر شركة “أرامكو” المركز الأساسي لعَصب الصناعة النفطيّة السعوديّة، فهذا يعني أن هذه الصناعة التي تُشكّل الرّكن الأساسي والأهم للاقتصاد السعوديّ، باتت غير آمنة، وأنّ سبعة ملايين برميل من النّفط هي مجموع الصادرات السعوديّة الآن، باتت مُهدّدةً فِعلًا.
القِيادة الإماراتيّة تُدرك هذه الحقائق، بل وما هو أخطر منها، ولهذا قرّرت الانسحاب من الحرب اليمنيّة والتحالف السعودي أيضًا، وإذا كانت قد “جاهَرت” بالأولى، وتكتّمت عن الثانية، فإنّ هذا التصرّف هو من قبيل مُحاولة إبقاء شعرة معاوية مع الشّريك السعودي، ولكنّها مجرّد شعرة معاوية، وقد تنقطع في الأيّام القَليلة المُقبلة، في ظِل الغضب السعوديّ المُتفاقم تُجاه هذه الخطوات الإماراتيّة المُفاجئة والصّادمة معًا.
الحوثيون الذين كانوا يوصفون من قبل خُصومهم بالتخلّف، وسكّان الكُهوف في صعدة، أثبتوا دهاءً سياسيًّا غير مسبوق، عندما تجنّبوا أيّ هُجوم على الإمارات وركّزوا كل هجَمات صواريخهم وطائِراتهم المُسيّرة والمُلغّمة على العُمق السعودي، ونجَح هذا الدّهاء، اتّفقنا معهم أو اختلفنا، في إحداث الشّرخ بين الحليفين الإماراتيّ والسعوديّ وتوسيعه بحيثُ بات يستعصِي على الالتِئام.
كلمة على درجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة وردّت في خطاب النصيحة للسيّد الحوثي إلى الإماراتيين تُلخّص الأسباب الحقيقيّة للمُراجعات الإماراتيّة الحاليّة في حرب اليمن، وهي “نصيحتي للإمارات أن تستبدل كلمة الانسحاب بإعادة الانتشار لقوّاتها، وأن يكون هذا الانسحاب جديًّا وصادقًا، لأنّ هذا يصُب في مصلحتها على المُستوى الاقتصادي وكُل المُستويات الأخرى”.
المستوى “الاقتصادي” يعني أن الانسحاب الجدّي سيحمي الاقتصاد الإماراتي من الصواريخ الحوثيّة، وعلينا أن نتصوّر هُبوط هذه الصّواريخ على ناطِحات السّحاب والمطارات في دبي وأبو ظبي، والنّتائج الكارثيّة التي ستترتّب على ذلك من بينها هُروب الاستثمارات والمُستثمرين ورؤوس أموالهم.
الحوثيون أقوياء لعدّة أسباب غابت عن ذهن خُصومهم، سواء داخل اليمن أو في دول العُدوان:
الأوّل: أنّهم يملكون القُدرة على اتّخاذ قرار الرّد دون أيّ تردّد.
الثاني: أنّهم يُدافعون عن أرضهم وكرامتهم وعرضهم.
الثالث: أنّهم غير مدعومين من العرب ودول نفطهم فلم يدعم هؤلاء أيّ دولة أو حركة إلا وكانت الهزيمة مصيرها المَحتوم.
الرابع: الوقوف في خندق فِلسطين ومحور المُقاومة للهيمنة الأمريكيّة الإسرائيليّة في وقتٍ انحرف فيه الكثيرون من العرب نحو التّطبيع والاحتماء بالعدو.
الخامس: الإدارة الذكيّة للأزمة اليمنيّة، واتّباع سياسة النّفس الطويل، وكظْم الغيظ، واختيار بنك للأهداف بعناية يضُم أكثر من 400 هدف لم يضربوا إلا أقل من عشرة منه حتى الآن.
السادس: عدم الكذب، وترك الأفعال هي التي تتحدّث نيابةً عنهم.
***
نختِم هذه المقالة بنبوءةٍ ربّما تكون مفاجأةً للكثيرين وموضوع استهجانهم، وهي أننا لا نستبعِد أن تكون الوجهة القادمة للصواريخ الحوثيّة هي ميناء إيلات أو “أم الرشراش” الفِلسطيني المُحتل، فمن يملك صواريخ مُجنّحة تُصيب أهدافها بدقّةٍ في الرياض والدمام، لن يتردد عن قصف هذا الميناء “الإسرائيلي” وبث الرّعب في نُفوس المُستوطنين الإسرائيليين.
ربّما يُجادل البعض بالقول إنّ الجيش الإسرائيلي سيرُد بقصف صنعاء وصعدة ومُدن أخرى، وهذا غير مُستبعد، ولكن هذا القَصف سيُعطي نتائج عكسيّة، علاوةً عن كونه لن يُحقّق أيّ جديد، فطيران التحالف السعودي الإماراتي الذي قصف اليمن طِوال السنوات الخمس الماضية لم يُبقِ أهدافًا جديدةً يُمكن قصفها، ولم تنجح في تركيع اليمنيين.
القصف الحوثي للعُمق الفِلسطيني المُحتل، والرّد الإسرائيليّ عليه، سيُحوّل الحوثيين إلى أبطالٍ يتزعّمون قوّةً إقليميّةً كُبرى، يلتَف حولها مِئات الملايين من العرب والمُسلمين.
هل ستتحقّق هذه النّبوءة، ومتى؟ نترُك الإجابة للأسابيع والأشهُر المُقبلة.. والأيّام بيننا.
عبد الباري عطوان - رأي اليوم