"إِنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعْقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ".
كلمات الإمام الحسين، عليه السلام، هي النور الذي قال عنه رسول الله، صلى الله عليه وآله: «إن الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة». فمن خلال فهمها ووعيها، يهتدي بنو البشر، ومن خلال اتباعها والعمل وفق منهجها ينجو الناس من ظلمات الجهل والفتن، لذلك جاءت ضرورة البحث والتنقيب في كلماته، عليه السلام، من أجل استجلاء المعاني الظاهرة والمخفية منها.
وفي هذه الكلمة التي نتناولها والتي تبدأ بقوله: «إن الناس عبيد الدنيا...»، تساور القارئ بعض الأسئلة الاستفهامية حول اللّهجة التي اعتمدها الإمام في توصيفه، حيث أنها تبدو في الاتجاه السلبي والتعميمي لحالة الإنسان، مما يشعر بعدم جدوائيه وعدم تأثير، حيث تنتفي الغاية من هداية الناس عبر توصيفهم السلبي بهذه المواصفات، فكيف نفهم هذه الكلمة المباركة للإمام الحسين، عليه السلام؟
* الظرف الاجتماعي والسياسي
دراسة السياقات للكلام، أمر مهم لاستجلاء المعنى، ومن السياقات المهمة هي سياقات الأحداث التي قيلت فيها الكلمة، لذلك كان لابد أن نشير إلى الظرف الاجتماعي والسياسي الذي قيلت فيه هذه الكلمة.
اختلفت المصادر التاريخية في الظرف الخاص الذي تكلّم فيه الإمام بهذه المقولة، واختلافها توزع على ثلاثة سياقات، كلها تؤكد على أنها مقولة ضمن كلام الإمام في مسيره إلى كربلاء، وهي كالتالي:
1/ قالها الإمام كرد فعل على كلام الفرزدق عندما سأله الإمام عن أحوال أهل العراق حينئذٍ.
جاءت في «نزهة الناظر وتنبيه الخاطر»، وفي «مختصر تاريخ دمشق»، وفي «كشف الغمة»، فقد أورد التالي:
«قَالَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِلْفَرَزْدَقِ- لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ- فِي جَوَابِ قَوْلِهِ- أَمَّا الْقُلُوبُ فَمَعَكَ، وَأَمَّا السُّيُوفُ فَمَعَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَيْكَ، وَالنَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَقَالَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا أَرَاكَ إِلَّا صَدَقْتَ، إِنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الْمَالِ، وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِم...» إلى آخر الحديث.
وقد نقل في «بغية الطالب في تاريخ حلب»، أن ذلك اللقاء تمّ في منزل ذات عرق، وبعض المقاتل لم تذكر المقولة ضمن المحاورة المذكورة.
2/ قالها عند نزوله كربلاء، يوم الثاني من محرم في مطلع خطبته الأولى التي أخبرهم فيها بقرار حط الرحال، ودون أن يسبقها كلام آخر، جاء ذلك في كتاب «تسلية المجالس» عن الفتوح لابن أعثم، و «الأمالي» للصدوق و «البحار» وغيره، حيث ذكر التالي:
ثمّ نادى، عليه السلام، بأصحابه، ورحل من موضعه حتى نزل كربلاء في يوم الأربعاء أو الخميس، وذلك في اليوم الثاني من المحرّم سنة إحدى وستّين، ثمّ أقبل على أصحابه، فقال: «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون.
ثمّ قال: أهذه كربلاء؟!
فقالوا: نعم.
فقال: هذا موضع كربٍ وبلا، هاهنا مناخ ركابنا، ومحطّ رحالنا، ومقتل رجالنا، ومسفك دمائنا.
3/ قالها الإمام، ضمن خطبة له عند نزوله كربلاء، عند جبل ذي حسم، وقد كانت الكلمة المعنية ضمن كلام قد سبقها، ونقل هذا الكلام، الحراني، في»تحف العقول» عن «الطبريّ» في تاريخه، عن عقبة بن أبي العيزار قال: «قام الحسين، عليه السلام، بذي حسم فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أما بعد انه قد نزل من الامر ما قد ترون...» و أيضا نقل شطراً منه السيّد ابن طاوس في «اللهوف»، وعليّ بن عيسى الاربلى في «كشف الغمّة» أيضا، هي كالتالي:
«إِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا قَدْ تَغَيَّرَتْ وَتَنَكَّرَتْ وَأَدْبَرَ مَعْرُوفُهَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ وَخَسِيسُ عَيْشٍ كَالْمَرْعَى الْوَبِيلِ أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يُعْمَلُ بِهِ وَأَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُتَنَاهَى عَنْهُ لِيَرْغَبَ الْمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ اللَّهِ مُحِقّاً فَإِنِّي لَا أَرَى الْمَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً وَلَا الْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بَرَماً إِنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيَا...» إلى آخر الكلمة.
جاء ذلك في هامش تحف العقول، إلا أننا لم نعثر عليها في تاريخ الطبري بتمامها، فقد ذكر الخطبة: «إن هذه الدنيا قد تغيرت وتنكرت...» إلى قوله: «ولا الحياة مع الظالمين إلا برماً»، وهي مذكورة بمعية مقولة «إن الناس عبيد الدنيا»، في تحف العقول، فلربّما نقلها عن نسخة أخرى غير النسخة المطبوعة. مع اختلاف مكان الورود وظرفه الخاص، إلا أننا نحرز الظرف العام الذي قيلت فيه هذه الكلمة، فإن كل من ذكرها من كتب الرواية والمقاتل، إنما أشاروا إلى أن وقت قولها هو بعد علم الإمام الحسين، عليه السلام، بانقلاب الموازين في الكوفة، وتراجع مَن كتب له ودعاه للحضور، وخذلانهم عن نصرته.
وهنا يتبيّن أن المقصود المباشر بالكلمة هو المجتمع الكوفي آنذاك، الذي لم يفِ بوعده، ولم يثبتوا، ومالوا إلى بريق الذهب والفضة، وخضعوا إلى إرهاب السلطة، فمثّلوا عمق المصداق لهذه المقولة. فالتعميم يراد منه ذلك المجتمع المنقلب على عقبيه، كما أن المقولة تحمل في طياتها حقيقة مهمة في طبيعة الإنسان الأولية التي تدعوه لها نوازع نفسه وشهواته، أي البعد «النفعي» في الاهتمام بالأشياء، فهو منجذب للشيء ومهتم به مادام ذلك الشيء يعود عليه بالربح والنفع، وذلك لا يعني التعميم لكافة بني البشر، وإنما المؤمن الذي ملك نفسه وروّضها على طاعة الله تعالى والتفاني في خدمة الدين، لن تؤثر فيه تلك المؤثرات، وسوف يظهر معدنه الصلب عند البلاء.
هذا نظير الآيات القرآنية التي تتحدث عن طبيعة من طبائع النفس البشرية، مثل قوله تعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾،(سورة الفجر/ 20)، وقوله تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ}. (سورة الشورى/ 48)
* الشرح
قال الإمام الحسين، عليه السلام: «إن الناس» -إما المعنيين بالخطاب أو حالة إجمالية في الإنسان بطبعه- عبيد الدنيا». والدليل على ذلك هو طريقة تعاطيهم مع الدين إذا تعارض مع مصالحهم ومعائشهم، فهم يعملون للدين، وهو «لعق على ألسنتهم»، أي يتحدّثون به ويدّعون الانتساب إليه، ويعملون على صيانته وحفظه ما كان ذلك الإهتمام حافظاً لدنياهم ومعائشهم، ولا يضر بمصالحهم الدنيوية، سواء في المال نقصاً وتلفاً، أو في النفس وفي الأهل والجاه، أما إذا طالهم البلاء بمختلف أنواعه انحسر أغلب الناس عن الانتساب إلى الدين والعمل في سبيله.
ونلفت إلى أن هذه الكلمة لا تختص بالمتدينين، بل بالديّانين، والديّان من أسماء الله الحسنى، ومعناه؛ الحكم القاضي، أو القهّار، وفي مجمع البحرين: هو فعال من دَانَ الناس أي قهرهم فأطاعوه من دِنْتُهُمْ فَدَانُوا أي قهرتهم فأطاعوا. فمن سياق الكلمة يتبيّن أنهم هم الذي يعملون لنشر الدين وتبليغه وحمل رايته، الذين يلهجون بذكره في الآفاق، ليدين عامة المجتمع به، وهم الذين «يحوطونه»، أي يصونونه ويحفظونه من الأعداء، وهؤلاء بطبيعة التحدّي التاريخي الذي ابتدأ منذ ولادة الرسالة الإسلامية واستمر معها، فهم معرّضون لأنواع من البلاء، وذلك لعدة أسباب، منها: جهود أعداء الدين في إضعاف المدّ الديني والرسالي، وجهود السلطات التي يهدد الدين عروشهم ويبين انحرافهم، وغيرها.
وعلّة البلاء هو «التمحيص»، وهو تمييز معادن الصدق من المظاهر الخداعة، كما في قول الله تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}. (سورة محمد/ 31)
فهنالك فئة تتعلّق بالدين وتعمل للدين مادام الدين «يدر عليه بالمعيشة»، وبالمال أو الجاه والسلطة أو الراحة، فإذا تعرّض للبلاء، فإنه ينهزم ويتخلّى عن القيم الرسالية التي كان يدعو لها ويحمل رايتها. وتبقى القلّة الصابرة والثلُّة المؤمنة، الثابتة على العمل للحق، ولذلك قال الإمام الحسين، عليه السلام،: «قلّ الديانون»، ولم يقل انعدموا أو تلاشوا، وهذا بصيص أمل إلى أن الأمة لا تنعدم من العاملين للحق، والمخلصين للدين وإن كانوا قلة قليلة.
--------------------
(1) في كشف الغمة: ج2، ص207 «عبيد المال».
(2) في بعض النسخ «لغو على ألسنتهم». هامش البحار.
(3) قالها الإمام بعد أن وصل أرض كربلاء تحديداً، فتعوذ من الكرب والبلاء، موسوعة كلمات الإمام الحسين، عليه السلام، ص 453 عن مقتل الحسين، عليه السلام، ١: ٢٣٤، بحار الأنوار ٤٤: ١٨٣، العوالم ١٧: ٢٤٤. تحف العقول، ص245.
(4) حسين بن محمد بن حسن بن نصر الحلواني، ص86.
(5) لابن منظور، ج8، ص151.
(6) علي بن عيسى الأربلي، ج2، ص32.
(7) بغية الطلب في تاريخ حلب، لابن العديم، ج3، ص28.
(8) ج2، ص252.
(9) ج44، ص383.
(10) تحف العقول، ص245.
الكاتب:
السيد محمود الموسوي
عالم دين من البحرين
المصدر:
مجلة الهدى الثقافية