السيد علي فضل الله
نلتقي في الحادي عشر من شهر ذي القعدة، بذكرى ولادة واحد من أولئك الذين جعلهم الله سبحانه وتعالى هداةً للناس، وأئمةً يقتدون بسيرتهم ومواقفهم وكلماتهم، والذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وفعلوا الخير وكانوا لله عابدين، وهو الإمام الثامن من أئمة أهل البيت (ع)؛ الإمام علي بن موسى الرضا.
وقد أشار إلى ذلك كل الذين عايشوه، وعرفوه بأنه أعلم الناس وأعبدهم وأنقاهم وأكثرهم إنسانية، وأكرمهم وأشدهم تواضعاً وأحسنهم خلقاً، وقد عبر اللقب الذي لقب به، وهو الرضا، عن الشأن الذي بلغه عند الله وفي قلوب الناس.
طغيانٌ بأساليب متنوعة
عاش الإمام (ع) طوال حياته التي لم تتجاوز الاثنين والخمسين عاماً أصعب المراحل وأشدها، فقد عاش ظلم الخليفة العباسي هارون الرشيد وطغيانه في حياة أبيه، وبعد تسلمه موقع الإمامة من بعده، والذي بلغ من الجبروت إلى حد أنه كان يقول لولده: والله لو نازعتني الملك لأخذت الذي فيه عيناك، وكان يقال إن الدم لم يزل يقطر من سيف هارون طوال حياته.
فقد كان هارون الرشيد يرى الإمام الرضا (ع) نداً له ولحكمه، لما بلغه من موقعٍ في قلوب الناس، ولأنه لم يكن يسكت على ظلمه وجبروته.. ولم تنته هذه المعاناة بعد تسلم ابنه المأمون مقاليد الخلافة.
نعم، ما حصل هو تبدل الأسلوب، فقد عمد المأمون إلى تغيير أسلوبه؛ من أسلوب الضغط والملاحقة والسجن الذي عرف به الخلفاء العباسيون تجاه أئمة أهل البيت (ع)، إلى أسلوب الاستيعاب والاستقطاب وإدخالهم في منظومتهم، بعد أن رأى أن هذا الأسلوب لم يعد مفيداً، بل كان يساهم في تعميق حضور أهل البيت (ع) في وجدان الناس، وأدى إلى تنامي الثورات على الحكم العباسي وإرباكه وإضعافه.
ولذلك، وبمجرد ما أن استتبت له أمور الخلافة، أرسل من يأتي بالإمام الرضا (ع) من المدينة إلى مركز الخلافة العباسية في خراسان لتولي أعلى منصب بعد الخليفة، وهو ولاية العهد، ودوره أن يساعد الخليفة في شؤون حكمه، وأن يتولى الخلافة بعد موته.
لماذا ولاية العهد؟!
وقد أراد المأمون بذلك تحقيق أمور عدة كان أحوج ما يكون إليها في تلك المرحلة، وكما يقال، كان يريد أن يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد.
الأول: تبريد جبهة داخلية كانت مفتوحة بعد الصراع الدامي مع أخيه الأمين الذي كان قد تولى الخلافة العباسية قبله، وأدى إلى قتله لأخيه وتوليه الخلافة، وهذا تسبب بنقمة عارمة من أغلب العباسيين الذين كان أكثرهم مع الأمين.
فقد أراد المأمون بهذه الخطوة أن يتقوى بالإمام (ع) على العباسيين، ويوقف كل الثورات المضادة للحكم العباسي التي كان يقوم بها أتباع أهل البيت (ع).
ثانياً: إن تولي الإمام (ع) لولاية العهد، يؤمن له شرعية دينية من إمام من أئمة أهل البيت (ع) كان يريدها، وهي تحصل بتولي الإمام لولاية العهد، وتعطيه قوة لحكمه لم يحصل عليها الحكم الأموي ولا العباسي قبله.
ثالثاً: تجميد نشاط الإمام (ع) ومحاصرة دوره، بإبقائه في مركز الخلافة، بحيث يفتقد الحضور الديني والتربوي والفكري الذي يراه الإمام (ع) من صلب مهماته، ليقتصر على الدور السياسي، والذي بالطبع سيكون تحت ظل المأمون ولن يحيد عنه، وهو بذلك لا يعود خطراً على الحكم.
رابعاً: لقد كان المأمون يهدف من وراء هذه الخطوة، أن يبدل الصورة المثالية التي كانت في أذهان الناس بأن الأئمة (ع) إذا استلموا الخلافة فإنه ستسود العدالة، ما يجعلهم يصابون بالخيبة عندما يرون أن الأوضاع لم تتغير، وأن ما كانوا يتحدثون عنه وهم خارج الحكم لم يتحقق بعد أن دخلوا إليه.
الرضا (ع) يحبط المخطط
لم تكن نيات المأمون صافيةً تجاه الإمام الرضا (ع)، الذي كان يعرف حقيقة ما يريده، لذا أراد الإمام إحباط هذه الأهداف، وتحرك على خطين؛
الخط الأول: هو عدم إعطاء أية شرعية للحكم العباسي بعد توليه ولاية العهد، ولذلك حرص، وفي أكثر من موقف، على إظهار عدم رغبته في هذا الأمر، والتأكيد أن المأمون لا يريد من وراء ذلك إعطاء الحق المسلوب لأهل البيت (ع)، بل له أهدافه الذاتية والآنية، وقد عبر عن ذلك بالحزن الذي أبداه عند وداعه حرم جده رسول الله (ص)، وعند وداعه عائلته يوم استدعي إلى خراسان لتسلم ولاية العهد.
وفي خلال تسلمه للولاية، وحتى يتلافى أي تورط في مساوئ الحكم وتبعاته، أو تحمل أوزاره وفساده، اشترط (ع) على المأمون عندما أبلغه برغبته بتوليه ولاية العهد ألا يتدخل في أي شأن من شؤون الحكم أو التعيينات التي تجري فيه، مادامت الخلافة بيده، وكثيراً ما حاول المأمون أن يدخله في بعض تفاصيل حكمه، ولكنه لم يقبل بذلك، فهو بذلك فوت على المأمون فرصة تحميل الإمام (ع) مسؤولية الفساد وتشويه صورة أهل البيت (ع) في وجدان الناس.
أما الخط الثاني؛ فهو الاستفادة من الحرية التي توافرت له من خلال إيصال صوته إلى الناس، إلى الموالين وغير الموالين. لذا، لم يترك الإمام (ع) أي فرصة ممكنة للاتصال بالناس والتحدث إليهم إلا واستفاد منها، وهذا ما ظهر جلياً من خلال سيره من المدينة إلى خراسان، حيث كان يجتمع الناس إليه من كل مكان للاستماع إلى أحاديثه ومواعظه والأحكام الشرعية، ما أتاح له تعميق ارتباط الناس بخط أهل البيت، والنهوض بحركة الوعي الإسلامي في شكل لم يعهده تاريخ الأئمة (ع).
ولذلك يقال إنه لم يبرز الموقع العلمي لأحد من أهل البيت (ع) بقدر ما برز للإمام الرضا (ع)، فقد أتاحت له فرصة الحرية التي سمحت له أن يعقد الحوارات واللقاءات التي كانت تجمع كل أصناف العلماء والمفكرين، من ماديين ومسيحيين ويهود ومجوس وصابئة وبوذيين، وبحضور المأمون، وكانت فرصة ذهبية استعاد فيها الإمام (ع) الفكر الإسلامي الأصيل، وأظهر تهافت الأفكار الأخرى بالحوار والجدال بالتي هي أحسن.
وهو في الوقت نفسه، لم يطلب من أصحابه ومحبيه ومواليه أن يسكتوا أو يستكينوا أو يمنحوا الشرعية للنظام، بل دعاهم إلى أن يستفيدوا من هذه الفرصة المتاحة لهم للتواصل مع الناس، وأن يجوبوا البلدان من أجل تعريف الناس بفضائل بأهل البيت (ع) وأفكارهم، وإلى ما يدعون إليه، وإزالة الشبهات التي كانت عالقة في أذهانهم عنهم، حتى إن درر القصائد في مدح أهل البيت (ع) وفي حبهم، ظهرت في هذه الفترة على ألسنة الشعراء الكبار، ومن ذلك، قصائد دعبل الخزاعي شاعر أهل البيت (ع).
أما المأمون، فعندما لم يستطع أن يحقق أهدافه في احتواء الإمام، وتسخير أتباع خط آل البيت لمصلحته، بل على العكس، ازداد حضور الإمام (ع)، ولم يتوقف أتباع خط أهل البيت (ع) عن دورهم في مواجهة الفساد والانحراف عند الناس، سعى إلى تشويه صورة الإمام (ع) في الأذهان، حين بث بين الناس أن الإمام يرى الناس عبيداً له، وأشاع كذباً أحاديث الغلو عنه، وعندما لم ير في ذلك فائدة، قرر أن يتخلص من الإمام الرضا (ع)، كما يرجح بعض المؤرخين، بدس السم له.
كيف نحيي أمرهم؟!
لقد غادر الإمام الرضا (ع) هذه الحياة، بعدما ترك لنا زاداً وفيراً من الإجابات عن الكثير من الإشكالات المطروحة، ومن الأفكار والتوجهات الغنية، ومن السيرة التي وعتها الأسماع ونقلتها الألسن وأوردتها الكتب.
وإن من مسؤوليتنا في هذه الذكرى أن نتزود بها وأن نبثها بين الناس.
وبذلك نحيي أمر أهل البيت (ع)، فإحياء أمرهم لن يقف عند حدود إقامة الموالد في أفراحهم، أو المآتم في أحزانهم، أو زيارتهم، مع أهمية كل ذلك، بل أن نعمل إلى ما دعونا إليه، وهو إحياء أمرهم كما أرادوا هم، حيث أشار إلى ذلك الإمام الرضا (ع) عندما قال لشيعته: “أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا”، وعندما قيل له: كيف نحيي أمركم؟ قال: “بتعلم علومنا وتعليمها للناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا”.
لذلك، نقف في هذه الذكرى لنعاهد على أننا سنحيي أمره، بأن نكون على صورته، ما استطعنا إلى ذلك، وأن نوصل كلماته ومواقفه إلى الناس، وأن نكون زيناً له لا شيناً عليه. السلام على الإمام علي بن موسى الرضا، يوم ولد، ويوم انتقل إلى رحاب ربه، ويوم يُبعث حياً.
خطبة صلاة الجمعة، مسجد الإمامين الحسنين(ع)، بيروت
9 ذو القعدة 1440هـ / ١٢/٧/٢٠١٩
الاجتهاد