وفي الحديث: "حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة"، فلا يملك أحد أن يبدّل أو يغيّر، لكن ابتعاد النّاس عن الإسلام، واختلاف الاجتهادات التي أضاعت الكثير من ملامح الإسلام، تدعو إلى الحاجة لمثل الإمام المعصوم ليعيد الأمور إلى نصابها، لأنّك عندما تجد في مسألة واحدة عشرة آراء أو أكثر، فلا يمكن أن تحكم بكونها كلّها إسلاماً، إذ لا بدّ أن يكون بعضها أو واحد منها إسلاماً، ويكون الباقي بعيداً عن الإسلام، لأن حقيقة الإسلام واحدة.
فعندما يعيش الناس في كلّ هذا المدى الطويل إسلام المذاهب وإسلام المجتهدين، فقد يبتعدون عن الصورة المشرقة الوضيئة للإسلام المحمدي الأصيل، لذلك يخيَّل للإنسان أن ما يراه هو دين جديد، وإن كنا نستغرب مثل هذا التعبير ولا نتبنّاه، ولكن فيما يخيّل للناس في هذه الأيام وفي غيرها، عندما يرون بعض الفتاوى التي لم يألفها الناس فيما هو مشهور الفقهاء، فإنهم يقولون إنّ هذا فقه جديد، وهو ليس فقهاً جديداً، ولكنه فهم جديد للفقه، وثمة فرق بين أن تأتي بفقه جديد لم يكن في عهد الرّسالة، وبين أن تأتي بفهم جديد للفقه الذي كان في عهد الرّسالة.
هل نجمِّد الإسلام؟
فما هو دورنا في هذا المجال، هل نجمّد كلّ الإسلام ونجمّد كلّ الحركة ونصادر كلّ أحلامنا ومشاريعنا في التغيير، لأنه سيأتي يوم يتغيّر فيه العالم كلّ العالم، هل نطرح شعارنا في أسلمة العالم على أساس أنه سيأتي شخص مميّز سوف يملأ العالم إسلاماً؟
إنّ القرآن يرفض ذلك، لأنّ الله تعالى لم يوقّت الدّعوة إلى الله بوقت، ولم يوقّت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بوقت، ولم يوقّت الجهاد بوقت، ذلك أنّ الناس بأجمعهم مسؤولون عن الإسلام كلّه بأن يحملوه أمانة في أعناقهم، أمانة من الله وأمانة من رسول الله {أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}، بل لا بدّ لكم أن تستمروا وتتابعوا المسيرة جيلاً بعد جيل {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ في مرحلته التي ينتظرها العالم، سيكون دوره هو هذا، وإذا بلغنا ذلك الزمن، فإن دورنا يكون على هامش دوره، لنكون من جنوده ومن أنصاره، أمّا الآن، فإنّ دوره في مدى الزمن لا يلغي دورنا الراهن، بل لا بدّ أن نؤكد، ولا بدّ أن نأخذ من هذا الوعد الإلهيّ بأنّ العدل في خطّ الإسلام سوف يشمل العالم، وأن نأخذ من ذلك فكرة واقعية في أن نتحرّك من أجل العدل ومن أجل الإسلام.
وقد يكون هناك فرق بين تلك المرحلة من حيث الشموليّة في إسلام العدل أو عدل الإسلام العالميّ، لكن المسألة على مستوى الجزئيّات تصبح ممكنة، لأنّ الإنسان هو الإنسان، فالإنسان هناك سوف يفتح الله عقله وقلبه، وربما يصل إلى مرحلة، من خلال تتابع الحضارات، ومن خلال تطور العلم، ومن خلال اتساع المعرفة، إلى المستوى الفكري والروحي، بحيث تنفتح الحقيقة أمامه دون ضباب، وربما يكون إنسان تلك المرحلة مميَّزاً، وليس من الضروريّ أن يكون كل الإنسان كذلك. ولكن علينا أن نفهم من خلال الانتصار الشامل، أن هناك قسماً كبيراً من الناس يبلغ درجة من الوعي والمعرفة والعقل بالمستوى الذي يستطيع أن يدرك الحقيقة، وإذا كان إنساننا الآن لا يملك هذا الأفق الواسع من معرفة الحقيقة، لأن هناك ضباباً ثقافياً وسياسياً واجتماعياً وغرائزياً يمكن أن يحجب الحقيقة عن الإنسان، فإنّ هناك أكثر من نافذة في عقل الإنسان على المعرفة، فإذا أحسنّا فتحها والإطلالة منها وتحريك الإنسان نحوها، كان من الممكن جداً أن نصنع إسلاماً ضمن منطقة أو ضمن مجموعة أو في محور وما إلى ذلك.
وأمامنا تجربة رسول الله (ص)، الذي عاش الدعوة من خلال بشريته، فقد حرّكها بطاقاته البشرية ولم يحرّكها بطريقة غيبية، وإن كان الغيب قد أطلّ عليه بين فترة وأخرى ليحمي الله المسيرة عندما تتعرّض للخطر، كما في (بدر)، ولكنه نجح في أن يفتح العالم على الإسلام، وإن لم يستطع بقدرته البشريّة أن يستكمل التجربة ليكون العالم كلّه مسلماً. لذلك، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، فلقد دعا رسول الله (ص) بالوسائل الإنسانيّة، وجاهد بالوسائل المتوفّرة لديه مما يتوفّر لدينا مثلها أو أكثر منها.
دراسة السّاحة
لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ يتمثل دورنا في هذه المرحلة من حياتنا، بأن نقف في الساحة لندرسها في كلّ مواقعها، ساحة الإنسان وساحة التحدّيات وساحة الصراع، لندخلها مسلمين بكلّ السّلاح الذي تفرضه علينا هذه المرحلة، وعلينا ونحن نتطلَّع إلى القمّة الواقعية للإسلام، أن نسعى إليها بكلّ جهدنا، وعلينا أن نعرف أنّ الله أنزل كلّ الرّسالات لا لتطبَّق في زمان النبيّ (ص) فقط، فكلّ نبيّ دعا وجاهد وعانى وتألم واستطاع أن يحصل على مجموعة من المؤمنين في زمانه، ثم اتسعت دعوته وأخذت حجماً معيَّناً، لكنها لم تلغِ الكفر ولم تلغِ الانحراف ولم تلغِ الاستكبار.
ولذلك نقول إن الله تعالى أرسل رسالاته لتكون للإنسان قمّة يتطلع إليها، ويحاول كل جيل أن يزحف إليها ويقترب منها، وقد أراد الله للبشريّة أن تصل إلى مرحلة تطبّق فيها كلّ رسالة الإسلام التي تجمّعت كلّ الرّسالات في داخلها، وهي مرحلة الظهور، التي أراد الله للحياة أن لا تغيب عن الدنيا قبل أن تطبّق الرّسالة بالكامل.. وقال لنا لا تعتبروا الإسلام الذي أنزلته عليكم ديناً مثالياً، بحيث يبقى مجرد حلم كبير تحلمون أنّه قد يتحقّق ولكنّه لن يتحقّق، أو مجرد قمة تتطلعون إليها في الأعالي دون أن تستطيعوا بلوغها، ولكنّه واقعي في أحكامه وفي حلوله لمشاكل الإنسان، ولن يبلغ هذه الفعلية في الواقعية، إلا إذا توفرت الظروف الموضوعية.
لذلك، عليكم وأنتم تتحركون في خطّ المسيرة، أن توفروا ظرفاً موضوعيّاً هنا ليدخل الناس في الإسلام، وظرفاً موضوعياً هناك ليعيش الناس الإسلام، وأن تعملوا على أن تفهموا الإسلام في كلّ جيل من الأجيال، لأنّ فهم الإسلام مسؤوليّة الجميع.
العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله
من كتاب "النّدوة، ج 4".