فليتنافس المتنافسون

الأحد 9 يونيو 2019 - 12:33 بتوقيت غرينتش
فليتنافس المتنافسون

أفكار ورؤى – الكوثر: قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [ المطففين 22- 26].

 

1- مفهوم المنافسة

 

التنافس هو التسابق نحو عمل معين، وهو قد يكون ممدوحاً إذا كانت غايته طيبة وهي الخير وانطلق من نية طيبة، وقد يكون مذموماً إذا كانت غايتة قبيحة، أو إذا انطلق من منطلق خبيث كالحسد والحقد، قال الراغب الأصفهاني: "والمُنَافَسَةُ: مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ للتشبه بالأفاضلِ، واللُّحُوقِ بهم من غير إِدْخال ضَرَرٍ على غيرِه. قال تعالى: {وفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ} [ المطففين / 26 ] وهذا كقوله: {سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [ الحديد / 21 ]"[1].

 

قال الشيخ الطوسي: "فالتنافس تمني كل واحد من النفسين مثل الشيء النفيس الذي للنفس الأخرى أن يكون له، تنافسوا في الشيء تنافسا ونافسه فيه منافسة، والجليل الذي ينفس بمثله نفيس، ونفس عليه بالأمر ينفس نفاسة إذا ضنّ به لجلالته"[2].

 

 

2- التنافس في الميدان الحضاري

 

من حيث المبدأ ينمي في الإنسان الشعور بالإثارة وروح التحدي ويثير فيه الحماسة والغيرة، الأمر الذي يحفّزه لفعل ما هو الأفضل والأحسن، ويدفعه إلى التكامل الإيجابي، ومن هنا كان التنافس أمراً مرغوباً، ففي المجال التربوي والتعليمي إذا أردت إصلاح أو تعليم طفل غير مبالٍ بدرسه ولا مهتم بترتيب نفسه وأغراضه وكل ما يخصّه، فقد يكون أسلوب إشعاره بالمنافسة مع أقرانه، طريقاً جيداً ونافعاً ليندفع نحو تغيير سلوكه، والأمر عينه ينطبق على المجال الإداري فالمدير الناجح إذا استطاع أن يخلق روح المنافسة بين الموظفين مشفعاً ذلك بالمحفزات المادية والمعنوية، فإنّ ذلك سيدفع نحو تطوير العمل ونجاحه.

 

والتنافس كما يكون بين الأفراد، فإنه قد يكون بين الأمم والشعوب، فالأمة التي يراد لها أن تنهض من كبوتها عليها أن تنظر إلى الأمم المتقدمة، وتتعرف على أسباب تقدمها وسر نجاحها لتأخذ ذلك منها وتقتبس من تجاربها، والتنافس هنا لا يعني التصادم، فنحن نريد للحضارات أن تتنافس وتتعاون في تقديم الأفضل، لا أن تتصادم وتتحارب، والتنافس لا بدّ أن يبدأ بإدراك الإنسان لحالته، فالمريض لا يشعر بالحاجة إلى الذهاب إلى الطبيب واستعمال الدواء إلا إذا شعر والتفت إلى المرض، وإنّ أمتنا الإسلامية اليوم معنية بأن تدرك حالتها وتشعر بهذا التردي الذي أصابها على أكثر من صعيد، فقد كانت سباقة إلى الخير والعلم والتطور، وإذا بها تتراجع وتشيخ، فلو أيقظنا لديها الحس التنافسي لشعرت بالمسؤولية، فهذه شعوب الأرض آخذة في التقدم وهي ترسم مسارها وقد تنجح تارة وتخفق أخرى، فلماذا نبقى نحن في هذا الجمود على أكثر من صعيد، في السياسة جمود وفي العلم جمود وسكون!

 

إنّ من تساوى يوماه فهو مغبون، فكيف إذا تساوت العهود والقرون!

 

إنّ عودة الأمة الإسلامية إلى ميدان التنافس هو الهدف الأسمى الذي يحتاج إلى الكثير من التضحيات، وبذل الجهود الفكرية لرفع المعوقات ودراسة أسباب التخلف والتراجع، ومن ثم يحتاج إلى العمل المضني، ويحتاج قبل كل شيء إلى الثقة بالذات.

 

 

3- المنافسة في الميزان الأخلاقي

 

وربما يقال: إن التنافس ليس ممدوحاً في الميزان الأخلاقي، لأنّه يدفع الناس إلى فعل الخيرات تحدياً للآخر أو إظهارا لكرمه وجوده، فلا يكون عمله خالصاً لله تعالى، فكيف نفهم تشجيع القرآن على المنافسة في الوقت الذي يذم في الرياء والشرك حتى في النيّة، ومن جهة أخرى، فإنّ المنافسة ستدفع

 

الإنسان إلى أتون الحسد، وذلك عندما يرى الآخر يفعل عملاً طيباً وهو لا يستطيع أن يقوم به.

 

والجواب: أنّ العمل عندما يكون لله تعالى فلن يداخله الرياء، ويكتسب طهارته من طهارة وقداسة الغاية التي عمل لأجلها، وحيث كان الغرض من التسابق هو نيل رضوان الله تعالى، فلا يمكن أن يخالطه نية لغير الله تعالى، أو يقال: إن المتنافس إنما يريد من إظهار المنافسة تشجيع عمل الخير، وحثّ العباد على ذلك، فلا تكون هذه الضميمة مفسدة لنية الإخلاص. وقد لاحظنا أنّ الآية المباركة بعد أن ذكرت النعيم الجزيل المعدّ للأبرار وأهل النعيم، قالت: { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}، أي في العمل لنيل هذا المقام السامي، ومقام كهذا لا يناله أصحاب الحسد والمملؤة قلوبهم بالحقد والغل، قال تعالى: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [ الحجر 47]. وقال تعالى محددا وجهة التسابق والمسارعة: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [ آل عمران 133- 134].ومن هنا فإن التنافس لايبرر الحسد ولا الضغينة إطلاقاً، بل هو يلتقي مع الغبطة، قال الشهيد الثاني:" وإذ قد عرفت أنه لا حسد إلا على نعمة فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان إحداهما أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها وهذه الحالة تسمى حسدا والثانية أن لا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها، ولكنك تشتهي لنفسك مثلها، وهذا يسمى غبطة، وقد يخص باسم المنافسة، قال الله تعالى: { وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ}، وقد تسمى المنافسة حسداً والحسد منافسة، كقول عبد الله الفضل وقثم ابني العباس لعلي ع حين أشار عليهما بأن لا يذهبا إلى النبي ص ولا يسألانه الولاية على الصدقة وقد كانا أرادا ذلك: ما ذا منك إلا منافسة، والله لقد زوّجك ابنته فما نفسنا ذلك عليك" .. والمحرم من الحالتين هو الحالة الأولى وهي المخصوصة بالذم قال (ص):"المؤمن يغبط والمنافق يحسد"[3].

 

 

4- التنافس في الفقه الإسلامي

 

وفي الفقه الإسلامي حديث عن المسابقة وبيان لأحكامها، ويمكن تلخيص الموقف الفقهي من قضية التسابق، بالحديث النبوي الشهير:" لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ"[4].

 

وهذا الحديث يستفاد منه العديد من الفوائد الفقهية:

 

أولا: حليّة المسابقات الرياضية وحلية أخذ السَبَق وهو الرهان الذي يأخذه الرابح من المتراهنين.

 

ثانيا: ويستفاد منه عدم جواز أخذ الرهان في غير الثلاثة لأنّه قمار محرّم.

 

والميزة لهذه الثلاثة هي أنّها تهيء الإنسان جسدياً، وتجعله ذا لياقة بدنية ومستعداً لمواجهة التحديات والحروب التي قد تفرض عليه أو تتطلبها المصلحة العامة، ومن الطبيعي أن الرهان الذي يؤخذ في المسابقة المشروعة إنما هو على التسابق نفسه ومن قبل المتسابقين، وليس ما يؤخذ على تحديد الرابح منهما، كما يحصل في أيامنا حيث يتراهن بعض الناس من غير المتسابقين على تعيين الرابح، فهذا قمار محرّم.

 

الإشارة إلى أنّه لا خصوصية للنصل والخف والحافر، فما يقوم مقامها اليوم من سيارات معدة للحرب أو من أسلحة حربية يجوز أخذ الرهان على التسابق بها، كما ذكر بعض الفقهاء ومنهم السيد الخوئي رحمه الله.

 

5- سابقوا الزمن فإنه يسبقكم وكما أن التسابق القماري محرم ومذموم، فإن التنافس على الدنيا وحطامها مذموم هو الآخر، وحال الناس تنبينا بأنهم غارقون في وحول الدنيا يتافسون على مالها وجاها الزائل، فيسعى الواحد ليكون أكثرهم مالاً أو أكثرهم ولداً أو أعلى منصباً، أو أقوى عشيرة، ويتنافسون في بناء القصور، والبيوت، والقلة من يفكرون أو يسعون أكثر الناس تقى وأفضلهم أخلاقاً، وأكثرهم ابتعاداً عن الغيبة والظلم.. إننا نحرص على الزائل ولا نحرص على الباقي ونحرص على القشور لا اللباب، هذا مع أنّ الله لا ينظر إلى الكثرة بل ينظر إلى النوعية، لاحظ قوله تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} [هود - 7] فهو يريد الأحسن وليس أكثركم عملاً، ولذا علينا أن نتنافس في العمل الصالح،عن أمير المؤمنين (ع):" بادروا بالعمل وسابقوا الأجل (هجوم الأجل ) فإنّ الناس يوشك أن ينقطع بهم الأمل ويرهقهم الأجل"[5] .

 

فإذا كنا متسابقين فلنتسابق في ميدان العمل الصالح وتحصيل مكارم الأخلاق، ولنسع في سباق آخر أيضاً وهو سباق الأجل والعمر، قبل أن يسبقنا ونحن خلوٌ من أي عمل صالح، عن أمير المؤمنين (ع):" سارعوا إلى الطاعات [ وسابقوا إلى إسداء المكرمات ] ( وسابقوا إلى فعل الصالحات ) فإن قصرتم فإياكم أن تقصروا عن أداء الفرائض"[6].

 

ومن كلام له(ع): " .. فَبَادِرُوا الْمَعَادَ وسَابِقُوا الآجَالَ، فَإِنَّ النَّاسَ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِمُ الأَمَلُ ويَرْهَقَهُمُ الأَجَلُ، ويُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ التَّوْبَةِ، فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي مِثْلِ مَا سَأَلَ إِلَيْه الرَّجْعَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وأَنْتُمْ بَنُو سَبِيلٍ عَلَى سَفَرٍ مِنْ دَارٍ لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ، وقَدْ أُوذِنْتُمْ مِنْهَا بِالِارْتِحَالِ وأُمِرْتُمْ فِيهَا بِالزَّادِ واعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ ، فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا، أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُه، والْعَثْرَةِ تُدْمِيه والرَّمْضَاءِ تُحْرِقُه، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ، ضَجِيعَ حَجَرٍ وقَرِينَ شَيْطَانٍ"[7].

 

---------------

[1] مفردات ألفاظ القرآن ص 818.

[2] التبيان ج 10 ص 303.

[3] كشف الريبة ص 57.

[4] سنن ابن ماجة ج 2 ص 960، وسنن أبي داوود ج 1 ص 580، وروي في مصادر الشيعة عن الإمام الصادق (ع)، أنظر: الكافي ج 5 ص 49، و50.

[5] عيون الحكم والمواعظ ص 192.

[6] المصدر نفسه ص 285.

[7] نهج البلاغة ج 2 ص 112.

 

 

الشيخ حسين الخشن