هذا التّوصيف ينطبق على آخِر تغريداته التي أطلقها أمس وحذّر فيها إيران “من خوض حربٍ لأنّها ستكون النّهاية الرسميّة لها”، فالحُروب تُخاض في ميادينها وليس على صفَحات وسائل التواصل الاجتماعي، وبطريقةٍ استعراضيّةٍ مكشوفة.
من قال إنّ إيران تُريد الحرب؟ إيران تُريد تصدير نفطها إلى الأسواق العالميّة عبر مضيق هرمز، وهِي تفعل ذلك بكُل يُسرٍ حاليًّا، ولم تقُم بإرسال حاملات الطائرات، أو القاذفات العملاقة بـ 52 إلى منطقة الخليج (الفارسي) التي هي عُضوًا أصيل فيها، في استعراضٍ مكشوفٍ للقُوّة لم يُعطِ ثماره، ومن فعل ذلك الرئيس ترامب، ومُني بالفشل، والأخطر من ذلك أنّ حُشوداته هذه أعطت نتائج عكسيّة، من حيث توحيد الشعب الإيراني حول قيادته، وخُسرانه، أيّ ترامب، مُعظم حُلفائه الأوروبيين الذين لم يتحمّسوا مُطلقًا للانضمام إلى أيّ تحالف لخوض الحرب التي يُريدها ضِد إيران على غِرار الحُروب الأمريكيّة في العِراق وأفغانستان، وأخيرًا ضِد “داعش”.
ترامب لا يُريد الحرب فعلًا، لأنّه بات يُدرك أنّ نتائجها ستكون مُكلفةً جدًّا بشريًّا وماديًّا له ودولته، فإذا كان حُلفاؤه الخليجيّون يُمكن أن يغطّوا التّكاليف الماليّة، فإنّ التّكاليف البشريّة، ونقصد هُنا الجُنود الأمريكان، سواء على ظهر السّفن وحامِلات الطائرات، أو في القواعد العسكريّة في العِراق وسورية وقطر (العيديد)، والإمارات (قُرب الفُجيرة على خليج عُمان)، أو في المنامة (قاعدة الأسطول الخامس البحريّة)، أو تطويق نتائج عودتهم في الحقائب البلاستيكيّة السّوداء إلى الوطن الأم.
***
نعم.. ترامب خسِر الجولة الأولى التمهيديُة من هذه الحرب، عندما تعرّض وحُلفاؤه إلى ثلاث استِفزازات مُهينة، ولم يجرؤ على الرّد على أيٍّ منها:
الأولى: عندما أغارت طائرات يمنيّة حوثيّة مُسيّرة ومُلغّمة على ثلاث مضخّات للنّفط تابعة لخط أنابيب شرق غرب السعوديّة العِملاق، واشتعلت النّيران فيها، وهدّد محمد علي الحوثي، رئيس اللجنة الثوريّة، بأنّ هُناك 300 هدف أخر، إماراتيّة ويمنيّة وسعوديّة ضِمن بُنوك الأهداف على رادارات حركته يُمكن ضربها في أيّ لحظة آذا لم تتوقّف حرب التّحالف على بلاده.
الثّانية: الهُجوم “الغامض” على أربع ناقِلات نفط قُبالة سواحل الفُجيرة وإعطابها جميعًا، وحتّى هذه اللّحظة لم تنتهِ التّحقيقات لمعرفة الجِهة التي تقف خلفها رغم مُرور أكثر من أسبوع، ويبدو أنّها لن تنتهي.
الثّالثة: إطلاق صاروخ على السّفارة الأمريكيّة في المِنطقة الخضراء في العاصمة العِراقيّة، وهي منطقة من المُفترض أن تكون الأكثر أمانًا في العالم، ومحميّة أمريكيّة مُعزّزة بقُدرات دفاعيّة مُتقدّمة جدًّا.
القاسم المُشترك لهذه الهجمات الثّلاث أنّها كانت بالونات اختبار لقِياس جديّة النّوايا الأمريكيّة لشن حرب، يبدو أنّ الإدارة الأمريكيّة سقطت في هذا الاختِبار حتّى كتابة هذه السّطور بعدم تنفيذ تهديداتها بالرّد، وحماية حُلفائها ومصالحها، وسواء برد محدود مِثلما تنبّأ الجنرال أبو زيد، سفير أمريكا في الرياض، أو مُوسّع مثلما لوّح جون بولتون.
المُعادلة الجديّة كما لخّصها لي صديق على درايةٍ كبيرةٍ بطريقة تفكير محور المُقاومة، والضّلع الإيرانيّ منه على وجه الخُصوص، تقول إنّها “مُنازلة” بين جالوت العِملاق وداوود الصّغير، حيث نجَح الأخير بشجّ رأس العِملاق والقضاء عليه بحجرٍ صغيرٍ وقاتلٍ، فانتِصار غُرور القوّة ليس مضمونًا دائمًا.
ثلاثة أحجار وجُهها داوود الإيراني أدمت رأس حُلفاء جالوت، ودفعته إلى البحث عن مخرجٍ آمنٍ من خِلال بوّابة المُفاوضات، وربّما هذا ما يُفسّر وصول السيد يوسف بن علوي، وزير الخارجيّة العُماني إلى طِهران اليوم، كأحد الوسطاء المُرشّحين الذين تزدحم بهم وطائِراتهم أجواء المِنطقة هذه الأيّام.
إيران لن تختفي عن الخريطة “رسميًّا” مثلَما هدّد ترامب، فهل اختفى العِراق منها عندما هدّده بوش الأب والابن بالمصير نفسه؟ وهل اختفت أفغانستان من الخريطة بعد الغزو الأمريكيّ عام 2001؟ وهل اختفت سورية بعد ثماني سنوات من عُمر مُؤامرة اشترك في تنفيذها 65 دولة بقيادة الولايات المتحدة وبُنوك مركزيّة عِملاقة طافَحة بمِئات المِليارات من الدولارات؟ وهل اختفت اليابان رغم قصفِها بقُنبلتين نوويتين؟ أو المانيا التي اجتاحتها قوّات الحُلفاء؟
ما لا يُدركه ترامب أنّ إيران وحُلفاءها استعدّت لهذه الحرب مُنذ اليوم الأوّل الذي غزت فيه بلاده جارها العراقيّ واحتلّته عام 2003، واستِعداداتها تمثّلت في تطوير ترسانة أسلحة مُتقدّمة ذاتيّة الصّنع في مُختلف القِطاعات، وتزويد حُلفائها بمنظومةٍ صاروخيّةٍ جبّارةٍ سواء في اليمن، أو لبنان، أو العِراق، أو قِطاع غزّة، ولا نكشف سرًّا عندما نقول إنّ “حزب الله” حصل على صواريخ بحريّة أسرع من الصّوت، تتواضع أمامها صواريخ “لاخونت” السوريّة التي دمّرت البارجة الإسرائيليّة أمام سواحل بيروت عام 2006، وسيكون هدفًا لهذه الصّواريخ الجديدة منصّات النّفط والغاز الإسرائيليّة في البحر المتوسط في أيّ حربٍ قادمة، مُضافًا إلى ذلك أنّ هُناك جبلين في جنوب لبنان يطلّان على ميناء حيفا مُباشرةً ويُمكن تعطيله بإلقاء الصّخور والحجارة، ناهيك عن الصّواريخ.
لا نكشِف سرًّا آخر وهو أنّ الهُجوم على ناقلات النّفط السعوديّة والإماراتيّة والنرويجيّة العَملاقة قُبالة ميناء الفُجيرة قبل أسبوع استهدف “مُتعمّدًا” ناقلات نفط “فارغة” وغير مُحمّلة، وفي المياه الإقليميّة لدولة الإمارات، ليس الدوليّة، لإيصال رسالة تقول بأنّ من وقف خلف هذا الهُجوم ونفّذه لا يُريد خلق أزمة تلوّث البيئة، ولكن إذا اندلعت الحرب لن تكون هُناك مُحرّمات، ولا بُد أن القادة العسكريّون الأمريكيّون وغيرهم يفهمون جيّدًا مضمون هذه الرّسالة، وربّما هذا ما يُفسّر التّغيير في اللّهجة الإماراتيّة حاليًّا، وميلها نحو التّهدئة، والبُعد عن التّصعيد.
***
دعوة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز لعقد ثلاث قمم إسلاميّة وعربيّة وخليجيّة في الأيّام الثلاثة الأخيرة من شهر رمضان في مكّة المكرّمة، تعني أنّ الحرب لن تقوم قبل هذا التّاريخ أوّلًا، وأنّ المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات باتا يُدركان جدّيًّا أنّهما بحاجة إلى حُلفاء وتغطية عربيّة وإسلاميّة وخليجيّة، بعد أن تناقصت هذه التّغطية إلى حُدودها الدّنيا لأسبابٍ عديدةٍ أبرزها وضع البيض كلّه في سلّة ترامب “المخروقة” والابتزازيّة، وتجاهُل ذوي القُربَى واستعدائهم، والتّرفّع عليهم.
مرّةً أُخرى نُؤكّد أنّ المحور الإيرانيّ كسِب الجولات التمهيديّة من هذه الحرب، وبات من المُستبعَد أن يتم الانتقال إلى الجولات النّهائيّة في الوقت الرّاهن على الأقل للأسباب التي ذكرناها آنِفًا، فمن يُريد الحرب لا يخوضها على “التّويتر” والقصف “التّغريدي”… واللُه أعلم.
الرأي اليوم / عبد الباري عطوان