معه ونحن ننتظره لا انتظار الغافلين، ولا انتظار المرتاحين، ولا انتظار المتعبين، بل انتظار الرساليين، لأنه في معناه في وجداننا الإسلامي، رسالة نعيش روحانيتها في الحاضر وننتظر حركيتها في المستقبل، والسؤال الذي لا بدّ لنا من أن نطرحه على أنفسنا هو أننا نزوره، ونتوسّل إلى الله أن يعجّل ظهوره، ونتحدّث إليه بالمحبة كلها، وربما يبكي البعض شوقاً إليه، ولكن ليس هذا هو دورنا الحركي، لأن قضيّة أن تكون مسلماً، وأن تكون ملتزماً بمنهج أهل البيت(ع)، هو أن تبقى تتحرك في الخطين اللّذين رسمهما رسول الله(ص) للأمّة من بعده، لترتبط الأمّة بهما معاً، لأنهما لن يفترقا في خطّ الرّسالة، فلا بدّ أن لا يفترقا في وعي الذين يلتزمون الرسالة، "إني تاركٌ فيكم الثقلين؛ كتاب الله حبلٌ ممدود من السّماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا ماذا تخلّفوني فيهما".
وهذا الحديث الشريف الذي يرويه المسلمون جميعاً باختلاف مذاهبهم، يوحي إلينا أنهما ينطلقان ليكون أحدهما في خطّ الرسالة حبلاً ممدوداً من السماء إلى الأرض، وربما كان هذا كناية عن الامتداد لكتاب الله سبحانه وتعالى في الكون كلّه، لأنه كلام الله ووحيه، وهو خط الرسالة في مضمونها الفكري والشرعي والمنهجي والحركي، أما العترة، فهم الذين يمثلون القيادة، وقد جاء في أكثر من حديث: "بُني الإسلام على خمس؛ على الصّلاة والزكاة والصوم والحجّ والولاية، ولم ينادَ بشيء كما نودِيَ بالولاية".
الولاية من أعمدة الدّين:
والولاية تمثل القيادة التي تعيش رسول الله كلّه في معناه كلّه، كما تعيشه في العلم وفي الحركة وفي العصمة، من خلال الأحاديث التي ذكرها النبيّ (ص) بحقّ عليّ (ع): "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فتح لي من كلّ باب ألف باب"، "يا عليّ، أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنّه لا نبيّ بعدي"، وقول الله عزّ وجلّ فيهم جميعاً: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}.
والعترة تمثّل قيادة، والقيادة انطلقت في خطين: القيادة الحاضرة، وهي قيادة الإمام عليّ (ع) وأولاده من الإمام الحسن (ع)، حتى الإمام الحسن العسكري (ع)، والقيادة الغائبة بالنسبة إلينا والحاضرة في المستقبل، وهي قيادة الإمام الحجة المهدي (عج)، ولكن غيبتها غيبة حضور وليست غيبة غياب كلّي، وإن كنّا لا نعرف معنى هذا الحضور بالحسّ، ولكننا نعرفه بالوجدان.
لذلك، عندما يقول رسول الله (ص): "فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"، فمعنى ذلك أنهما متلازمان، فلا يمكن لنا أن نأخذ الكتاب وننفصل عن العترة، كما لا يمكن أن نأخذ العترة وننفصل عن الكتاب، فهما يتكاملان في خطّ الرسالة وخط القيادة.. ونحن نعرف أن عظمة الرسالة في حركيتها، هي في فاعلية القيادة وحركيتها وعناصرها التي تميّزها عن الآخرين.
لذلك، نحن نعيش الآن غيبته، ولكنّنا في الوقت نفسه نعيش معنى حضوره في معنى الرسالة، ومعنى حضوره في معنى العترة من قبله، وفي معنى العناوين الكبرى التي أراد لها أن تتحقّق بشكل كلّي في عصره المستقبلي، وفي طبيعة المبدأ المستوحى من هذه العناوين.
الالتزام بالكتاب والعترة:
لذلك ـ أيها الأحبة ـ إن أول التزام بالإمام (عج)، هو أن نلتزم بالكتاب، وأن يكون القرآن كلّ شيء في حياتنا، أن نعيشه وأن نقرأه وأن نتدبّره وأن نعمل به، وأن نجعله عنواناً لثقافتنا ولسياستنا ولاقتصادنا ولاجتماعنا ولحربنا ولسلمنا، لأنّه يمثّل العناوين الكبرى لذلك كله، وأن نلتزم العترة الذين التزموا الكتاب والتزموا النبي (ص)، لأن ما عندهم هو ما عند رسول الله (ص)، ولأن حديثهم هو حديث رسول الله، ولأن سيرتهم هي سيرة رسول الله..
لذلك، علينا أن ندرس العترة، وأن ندرس التراث الذي تركوه لنا مما صحّ منه، سواء كان تراث الكلمات التي تكلموها، أو تراث السيرة التي ساروا عليها.. وإنّني أزعم ـ أيها الأحبة ـ أنّنا حتى ونحن نبكي عليهم في مآسيهم كلّها، ونفرح لهم في أفراحهم كلّها، أزعم أننا حتى الآن لم نفم سرّ أهل البيت (ع)، ولم نفهم مناهجهم التربويّة والخطوط السياسية والخطوط الأخلاقية التي انطلقوا بها والقيم التي أثاروها، إنهم بالنسبة إلينا دمعة نذرفها وفرحة نفرحها، أما غير ذلك، فإن الاتجاه العام في إثارة ذكرى أهل البيت (ع)، هو اتجاه تجميدهم في عقولنا، بدلاً من أن نحرّكها (أي الذكرى) حركة المسؤوليّة.
الدعوة إلى الله:
هذا هو دورنا في هذه المرحلة، وهو أن نعيش ذلك في أنفسنا، لنبني قلوبنا وعقولنا وكياننا وحركتنا على هذا الأساس، ثم لا بدّ لنا أن نعمل من أجل أن نكون الدعاة إلى الله، بأن نفهم الإسلام وندعو له في داخل الحياة الإسلامية، حتى نستطيع أن نحفظ المسلمين من الضلال ومن كلّ ما يتحرك من كفرٍ في داخلنا، وفي خارج الحياة الإسلاميّة، بأن ندعو الناس إلى الإسلام، لأنّ الكثيرين من الناس في هذا العصر يمكن أن يدخلوا في الإسلام إذا أحسنّا عرضه وبيان مفاهيمه ونقاط القوة فيه، وأحسنّا أن نكون القدوة له، فهذه هي المسألة التي أرادنا الله أن ننطلق فيها {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{.
إنّ الدعوة إلى الإسلام في داخل الحياة الإسلامية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي خارج البلاد الإسلامية في الدعوة إلى أن يدخل الناس في الإسلام، مسألة حيويّة لكلّ مسلم ومسلمة، لأن الإسلام هو هذا الدين الذي أراد الله له أن يكون دين الحياة، وأن يختم به الدنيا كلّها، فنحن نقرأ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.
وقد ورد في الحديث: "حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمّد حرام إلى يوم القيامة"، فلا بدّ لنا أن ننمّي طاقاتنا الثقافية والعملية من أجل أن نكون الدعاة إلى الإسلام، لأن هذا هو الذي يمثل السير في اتجاهه، لأنّ السير في اتجاهه ليس سيراً في اتجاه شخص، ولكنه سير في اتجاه رسالة، والإمام لا يبتعد عن الرسالة، بل هو تجسيد الرسالة، لأنّ القرآن هو القرآن الصامت، والقياديون المعصومون هم القرآن الناطق.
ثم ننتقل إلى دور آخر، وهو دور حركيتنا في واقع الإنسان، فالعنوان الكبير في حركته (ع)، أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، والأحاديث تتحدّث عن تطبيق أو إيحاءات هذه الآية، لتشير إلى حركته المستقبلية {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}. فالحديث هنا عن المستضعفين في زمن موسى (ع)، ولكنّ الله تحدّث عن المسألة على أساس أنها سنّة من سننه، وأنه سبحانه وتعالى لا يرضى للمستكبرين أن يسيطروا على المستضعفين، بل لا بدّ من أن يمنّ على المستضعفين ليجعلهم الوارثين، ومن الطبيعي أن هذه الآية تشبه الأخرى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} في أنها تتحدث عن هذه الحركة المستقبلية التي قد تتمثّل بشكل جزئي في مرحلة معيّنة، وتتمثل بشكل كلّي في المراحل النهائية للحياة...
* من محاضرة السيد محمد حسين فضل الله بتاريخ: 16 شعبان 1419هـ/ الموافق 5 - 12 – 1998م.
بينات