حقيقة المسخ في الأمم السابقة

الإثنين 8 إبريل 2019 - 06:56 بتوقيت غرينتش
حقيقة المسخ في الأمم السابقة

أفكار ورؤى – الكوثر: من التساؤلات التي قد تطرح هنا هو: انّنا إذا راجعنا القرآن الكريم نجد انّه يؤكّد مسألة مسخ بعض الأُمم السابقة إلى قردة وخنازير، فهل يعني ذلك أنّ تلك النفوس البشرية ـ المنحرفة ـ انفصلت من بدنها البشري لتستقر في بدن القرد أو الخنزير؟

 

ومن الآيات التي يمكن أن تدعم هذا التساؤل قوله تعالى:

( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواء السَّبيلِ ) .( [1])

وكذلك قوله تعالى:

( فَلَمّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِـرَدَةً خـاسِئينَ ) .( [2])

 

الجواب:

كما ذكرنا سابقاً انّ التناسخ يقوم على ركيزتين ويتقوّم بأمرين، هما: الف: تعدد البدن، البدن الأول الذي انسلخت وخرجت منه الروح، والبدن الثاني الذي استقرت وتعلقت به. سواء كان البدن الثاني خلية نباتية، أو نطفة حيوانية، أو جنيناً إنسانياً أو كان حيواناً كامل الخلقة.

ب: رجوع النفس إلى الوراء وانحطاطها من درجة الكمال السابقة إلى درجة الحقارة والذلة، كما إذا تعلقت بالخلية النباتية أو النطفة الحيوانية أو الجنين الإنساني.

ومن المعلوم أنّ كلا الشرطين غير متوفرين هنا:

أمّا الأوّل: فلعدم تعدّد البدن هنا، لأنّ البدن هو نفس البدن، إذ المفروض انّ نفس الإنسان الطاغي والمتكبّر والمتمرّد على اللّه سبحانه وأوامره، يمسخ قرداً أو خنزيراً، أي أنّ نفس الممسوخ قد تبدّلت صورته إلى صورة أُخرى، وانقلبت صورته البهية إلى صورة رديئة. وفي الواقع انّه لا يوجد هنا إلاّ بدن واحد، وانّ الذي تغيّر هو الصورة فقط.

أمّا الثاني: انحطاط النفس، فهو منتف أيضاً، لأنّه لا يوجد سير قهقري للنفس، وذلك لأنّ الهدف من المسخ هنا هو عقاب هذه الطائفة المستكبرة والعاتية، ليروا أنفسهم بصورة القردة والخنازير، والمقصود من ذلك تعذيبهم وإيلامهم وجزاؤهم جزاءً سيئاً، ولا يتحقّق هذا العذاب إلاّ إذا كانوا على نفس الدرجة من الإدراك والشعور الإنساني ليدركوا الحالة التي انقلبوا إليها، وأمّا إذا تحوّلت نفوسهم إلى نفوس حيوانية (نفس قردية أو نفس خنزيرية) فلا تدرك هذا التحوّل أبداً، ولا يكون في المسخ حينئذ أيّ تعذيب أو إيلام لهم. بل على العكس من ذلك فإنّهم يعيشون حالة الانشراح والسعادة، لأنّ النفس القردية بالنسبة للقرد كمال والنفس الخنزيرية بالنسبة للخنزير كمال. ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله سبحانه:

( فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقين )( [3]) .( [4])

وكما ذكرنا أنّ الهدف من عملية المسخ هذه هو جزاؤهم وعقوبتهم ليكونوا عبرة وموعظة للآخرين وانّ الهدف الأوّل إنّما يتحقّق فيما إذا بقي الإنسان الممسوخ محافظاً على حالاته النفسية وإدراكاته الشعورية.( [5])

وبعبارة أُخرى: انّ حقيقة المسخ وواقعيته عبارة عن انقلاب الإنسان إلى صورة الحيوان (القرد أو الخنزير) مع التحفّظ على إنسانيته، وليس المراد منه أنّه بالإضافة إلى التحوّل والتغيّر الظاهري والمسخ في الصورة، تمسخ نفوسهم وإنسانيتهم وتتحوّل أرواحهم إلى روح قرد أو خنزير.( [6])

---------------------

[1] . المائدة: 60.

[2] . الأعراف: 166.

[3] . البقرة: 66.

[4] . الاستدلال بالآية المباركة مبني على أنّ المقصود من كلمة « ما » هو الذنوب، سواء التي تقدّمت على الاصطياد أو الذنوب التي تأخّرت عنه، والحال أنّ البعض قد ذهب إلى أنّ المقصود من كلمة « ما » هي الأُمم المعاصرة والأُمم اللاحقة، فعلى هذا الوجه لا مناص من تفسير قوله تعالى: ( نكالاً ) بمعنى العبرة والموعظة، وحينئذ تكون جملة ( موعظة للمتقين ) تكراراً لما قبلها. انظر تفسير مجمع البيان:1/265ـ 266، ط دار المعرفة.

[5] . انظر: شرح المقاصد:2/39; بحار الأنوار:58/113، ط بيروت; الميزان في تفسير القرآن:1/ 21.

[6] . منشور جاويد:9/203ـ 205.

 

الشيخ جعفر السبحاني

موقع مؤسسة الإمام الصادق