ولا يهمّني إن كان بطلها من حكماء الفرس، أو من أبطال الرومان، أو من غزاة العرب، من الموحّدين أو من غيرهم، بقدر ما تهمّني فكرته السامية.
كان حكيماً نافذ الكلمة في عشيرته، شديد الغيرة على مصالحهم، تقدّمت به السنّ، فأراد أن يزفّ وحيده ويتنازل له عن رياسة قومه، فقدم إليه أتباعه على عادة القبائل والعشائر هدايا ثمينة، فأراد أن يستغلّ شعورهم هذا في توطيد الإمارة لولده، ولأحفاده من بعده، فخطب فيهم شاكراً، ورجاهم أن يستردّوا هداياهم، فألحّوا عليه في قبول شيء، فقال لهم: "إن كان لا بدّ من تقديم شيء، فأقيموا لولدي بيتاً يسكنه، بشرط أن تشتركوا في بنائه، وتساهموا في إقامته، وأحبّ أن أراكم تحملون لبناته بأنفسكم، وتضعونها في البناء بأيديكم". فأقدموا على هذا العمل الذي يرضي شيخهم الكبير، ولما تمّ البناء، أوصى ولده بأن يقيم فيه، ولا يتحوّل عنه، لأنّ مقامه في بناء مشترك، ربط للقلوب والنفوس جميعاً، ولأنّ الناس يتمسّكون به، ويتعلّقون بإمارته ما أقام في هذا البيت الّذي صنعوه بأنفسهم، ويقولون: إنّ نبوءة الشيخ تحقّقت، وكان نزيل هذه الدار من أحفاده أميراً مرموقاً وحاكماً مطاعاً.
إذا كانت هذه قصة خيالية، فهناك قصة من صميم الواقع، عن قصر فخم لم تر عين الزّمان مثله، أقيم على أساس متين، وشيِّد من حجر صلد بأيدي أمهر البناة المخلصين من الأبيض والأسود، ساهم في إقامته رجال من أقصى الشّرق إلى أقصى الغرب، من بلخ وبخارى وسمرقند وطوس وطبرستان والريّ والعراق والشّام والحجاز ومصر والأندلس وما بينها، وتعبت فيه عقولهم، إن صحّ هذا التعبير، واستعملت فيه لبنات نورانية بدل اللّبنات الظلمانية المعروفة.
وإذا كانت مرضاة ذلك الشيخ هي الدافع إلى بناء ذلك البيت الصّغير، فإنّ الدافع إلى بناء هذا القصر المنيف، هي مرضاة الله في الدارين، وإرضاء الضّمير والإيمان والعقيدة، بني باسم الإسلام، وقدّمه بناته إلى الاسلام، ليكون في خدمة الإسلام والمسلمين، ولم يكن لحدائقه أسوار تمنع الناس من الدخول فيه، ولا بين أقسامه حواجز تحجب عن الروّاد بعض نواحيه، فتوجّهت إليه عقول الملايين، وتعلّقت به قلوب مئات الملايين، وعبق عطره في أركان العالم الإسلاميّ، وفاح شذاه في أركان الكون كلّه، وأطلّت عظمته على الشّرق والغرب.
ذلك قصر الثقافة الإسلامية التي أراد الله أن تكون أعظم مفخرة للمسلمين، وأعظم ثمرة للإسلام، تلك الثقافة التي لم يوح بها أحد، وإنما أوحى بها الشعور والإيمان والرّغبة في أن يكون للإسلام ثقافة خاصّة ينهل منها المسلمون، واندفع لتحقيق ذلك بنّاؤون من كلّ شعب مسلم، ومن كلّ طائفة إسلامية، وتخلّوا جميعاً عن كلّ قوميّة ولغة، إلا قوميّة الإسلام ولغة القرآن، فالبلخي نسي بلخيته، والفارسي نسي فارسيّته، والبخاري نسي أنّه من بخارى، والعربي نسي عروبته، وجعلوا أنفسهم في خدمة الإسلام ولغة الإسلام، وخلقوا ثقافة إسلاميّة، استنبطوا قسماً كبيراً منها من الإسلام نفسه، وأخذوا قسماً آخر من الثقافات اليونانيّة والفارسيّة والهنديّة، التزموا فيه نهجاً لم يلتزمه البناة قبلهم، هو أن يصبغوه بصبغة الإسلام، ويسخّروه في خدمة فكرة الإسلام، ليكون ثقافة إسلامية قبل كلّ شيء، ووفّقوا في هذا توفيقاً عجيباً، حتى إنهم أخذوا الفلسفة اليونانيّة التي كانت تثبت العقائد الوثنيّة، والتي استغلّتها الكنيسة فيما بعد لخدمة التّثليث، وصبغوها بالصبغة الإسلاميّة، وأثبتوا بها التوحيد والمعاد، ولست بصدد شرح هذا، وسأفرد له بحثاً خاصّاً.
ولم ينشط في إقامة هذا القصر البنّاؤون فحسب، بل نشط كذلك النجّارون والبستانيون واهتمّ كلٌّ بناحيته، وتقدّم كلّ فنّ يشجّعه الإسلام، من تفسير إلى أدب، ومن طبّ إلى كيمياء، ومن علوم إسلامية إلى نبوغ في الفقه بنوع خاصّ، وهكذا أوجدوا كنزاً ثميناً يليق أن يسمّى بحقّ أغنى كنز في العلوم الإسلامية، ازدهرت كلّ هذه العلوم دون أن يؤخذ عهد من القائمين عليها، ودون أن تشرف على تنسيقها منظّمة كاليونسكو، ودون أن يمنع أحد من الدخول في أيّ بحث، أو يحرم من الرجوع إلى أيّ مرجع، أو الاغتراف من أيّ منهل. كانت ثقافة إسلاميّة تقدَّم لكلّ المسلمين، لا لشعب دون شعب، ولا لطائفة دون طائفة، وكان لكلّ عالم حقّ الدخول في كلّ بحث ومراجعة أيّ كتاب والأخذ بأيّ رأي، ولا ينظر أحد إلى من يخالفه في الرأي إلا نظرة التّقدير والأخوَّة.
فالخليفة يقدّم إلى الإمامي كرسي الدّراسة ببغداد، والسني يستمع إلى دروسه كثير من غير أهل السنّة، ومرجع الفتوى إلى كلّ مذهب، والباحث يقف على رأي كلّ مفكّر، كانت ثقافة عامة مشتركة، تعلّق بها كلّ قطر لأنه يساهم فيها، وغار عليها كلّ صقع لأن له قسطاً منها، وحفظ حرمتها وكرامتها كلّ مسلم، واحترم رجالها ونظر إليهم كمجموعة يكمل يعضها بعضاً ولا تقبل التجزئة.
لعلّك تتساءل: أين هذا القصر؟ هل عدا عليه الدّهر فخربه، أم غصبه أحد الطغاة ودمّره؟ كلا: لا هذا ولا ذاك. إنما تنازع فيه ورثته، وقسموه فيما بينهم، وأقاموا الحواجز بين أقسامه، واستقلّ كلّ فريق بحصّته، وامتنع الآخرون من الدخول إليها.
وهكذا تحوّلت الثقافة الإسلاميّة من عامّة جامعة، إلى مذهبيّة ضيّقة، ومن قومية شائعة، إلى طائفية محدودة، وعكف كلّ عالم على مراجع مذهبه، وأغضى عمّا في المذاهب الأخرى، وتعصّب لما درس، واستراب في كلّ ما جهل. وتأثّرت كلّ طائفة بعلمائها، وتمسّكت بنهجهم، ونفرت من كلّ من يخالفهم في الرّأي، بل ذهبت إلى الشّكّ في عقائد الطوائف الأخرى.
وانتهر كثير من غير المسلمين هذه الظّلمة، وتسلّلوا إلى الصفوف، وتسمّوا باسم المسلمين، واستغلّوا جهل الطّوائف بعضها ببعض، يزعمون لكلّ طائفة أنهم من الأخرى، يقولون للشيعة نحن من أهل السنّة، ويقولون لهؤلاء نحن من أولئك، واستطاعوا في غفلة المسلمين وجهلهم أن يسيئوا إلى الإسلام قروناً عديدة.
كلّ هذا حصل بسبب التعصب المذهبي الذي تريد جماعة التقريب القضاء عليه، وبتأثير النزعات الشعوبية التي ترمي إلى تقسيم هذا التراث باعتبار العنصريّة. فلو أننا فتحنا صدورنا من جديد، واعتبرنا الثقافة الإسلامية مجموعةً يكمل بعضها بعضاً، وتفاهمنا فيما بيننا على هذا الأساس، وأدركنا أن هذه الثقافة الإسلامية، بنيت على أن تكون للإسلام قبل كل شيء، وليست ملكاً لفرد ولا لمذهب أو طائفة، كما أنها ما أوجدت لتكون عنصريّة، لجدَّدنا بناء هذا القصر المنيف، ولمحونا عن كلّ طائفة باطل الاتهامات الموجَّهة إليها، ولأخرجنا من بيننا من ليسوا بمسلمين، كأولئك الأدعياء الذين انتسبوا كذباً إلى الإسلام، وهم معاول هدم في الكيان الإسلامي.
وفي رأيي، أنّ ثقافة إسلاميّة موحّدة إذا التفّ حولها المسلمون، كفيلة بتوحيد صفوفهم، ولا يخفى ما تؤدّي إليه الوحدة من عزّ ومجد وسؤدد.
ومادامت هذه الثقافة موجودة، فإنّ من الميسور بلوغ هذا الهدف، وهو ما نعمل له ونسعى إلى تحقيقه، والله وليّ التوفيق.
الشيخ محمّد تقي القمّي
* مجلّة "رسالة الإسلام"، العدد الأوَّل.
المصدر: موقع بينات