السيّدة الزهراء (ع) تختزن شخصيّة أبيها

الثلاثاء 26 فبراير 2019 - 09:19 بتوقيت غرينتش
السيّدة الزهراء (ع) تختزن شخصيّة أبيها

أفكار ورؤى – الكوثر: لطالما كانت السيدة الزهراء (ع) حاضرة، وبقوّة، في كلّ مواقف سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله (رض) وإطلالاته، على مدى كلّ كلماته وخطبه ومواعظه، وعند كلّ مناسبة ومحطة، لما للسيّدة الزهراء من أهمية وحضور في الوجدان العام، ولما تمثّله من شخصية رساليّة وقيمة إسلاميّة وروحيّة عند الله تعالى، فقد لفت سماحته في خطبة الجمعة التي كان قد ألقاها في مسجد الإمامين الحسنين (ع)، بتاريخ 19جمادى الثانية العام 1425هجرية، إلى مكانة الزهراء (ع) وإلى شخصيّتها التي كانت امتداداً بارزاً لشخصية أبيها رسول الله (ص)، مشيراً إلى عمق إيمانها، وإلى مناقبها وفضائلها الكثيرة، وإلى وقوفها إلى جانب الحقّ. قال سماحته (رض):


"في العشرين من شهر جمادى الثّانية، كانت إشراقة سيّدة النساء فاطمة (ع) على رسول الله (ص) وعلى زوجته أمّ المؤمنين خديجة، وقد قال أمير الشعراء أحمد شوقي، وهو يتحدّث عن اعتزاز رسول الله (ص) بالزّهراء (ع) ومحبّته لها


ما تمنَّى غيرها نسلاً ومن يلد الزّهراء يزهد في سواها

 

لأنّ الزهراء (ع) كانت الإنسانة التي عاشت مع أبيها طفولتها، وكانت تختزن في شخصيّتها كلّ ما كانت تعيشه معه في صلاته في اللّيل عندما كان يناجي الله، حيث كانت هذه المناجاة تدخل وجدان فاطمة، فتحسّ بها نوراً يضيء لها المعرفة بربها، وكانت تتطلّع إلى أبيها في طفولتها وشبابها، لترى كيف يتحرّك بالخلق العظيم، وكيف يفيض قلبه بالرّحمة للناس كلهم، وكيف يعاني كلّ معاناة الرسالة عندما كان يدعو الناس إلى الله، وكانت تتعلّم ذلك منه.

 

كانت (ع) تعيش مع أبيها صبره، فكانت الصابرة كأعظم ما يكون الصبر أمام كلّ آلام الحياة، وكانت تجد في حركة أبيها صلابته، فكانت تمثّل الصلابة في مواقفها، وكانت تجد أباها يقف في مواجهة كل التحديات، فلا تأخذه في الله لومة لائم، وهكذا كانت لا تأخذها في الله لومة لائم، وكانت تستمع إلى أبيها في كلّ أحاديثه مع الناس، سواء كانت أحاديث الرسالة أو أحاديث الحياة، فكانت ترى الصّدق في شخصيته، وترى أمانته على الله وعلى الناس والرّسالة وعلى كلّ مقدّرات الناس التي يشرف عليها، فكانت الصّادقة التي قالت عنها زوجة أبيها عائشة: "ما رأيت أصدق منها إلا أباها".

 

وارتفعت الزهراء (ع) في مستوى الوعي من خلال ارتفاعها في مستوى ما سمعته من الوحي، فامتلأ عقلها بوحي الرسالة، وامتلأ قلبها بالوعي لكلّ ما حولها، وتطلّعت إلى كلّ الواقع الذي حولها، فكانت ترصد الناس في خطّ الاستقامة وخطّ الانحراف، لتشهد بين يدي الله تعالى بالمرحلة التي عاشتها، كيف كان النّاس يستقيمون لتشهد على استقامتهم، وكيف كانوا ينحرفون لتشهد على انحرافهم، كان أبوها شاهداً على النّاس: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً}[النّساء: 41]. كانت فاطمة (ع) شاهدة عليهم أيضاً، وهو ما جاء في الحديث عن الإمام الكاظم(ع): "إنها كانت صدّيقة شهيدة"؛ صدّيقة، لأنّ كلّ كيانها كان الصدق كلّه؛ الصدق مع ربها ونفسها والناس كلّهم، وكانت الشّهيدة، لا من شهادة القتل، ولكن من الشّهادة على الناس، وتلك هي المرتبة الكبرى، وقد تحدّث الله تعالى عن الصدّيقين والشهداء، ولذلك، فإنّ كلمة الشهيدة تجاور كلمة الصدّيقة، لتكون مع الصدّيقين والشّهداء.

وتقف فاطمة (ع) في كل هذا العنفوان في الشخصية، وكل هذه الروحية التي تسمو وتصفو وترتفع، حتى لا تقاربها أية امرأة في كلّ هذا الفيض الروحي الذي يجعلها تقرب إلى الله بكلّ روحها، وتناجيه وتدعوه وتشعر بالطمأنينة والمحبة له. فتعالوا لنستمع إلى بعض دعائها (ع)، لنتعلّم كيف كانت تعيش مع الله.


تقول(ع): "اللّهمّ قنّعني بما رزقتني ـ لأني أريد أن أعيش الرّضا يا ربّ بما قسمت لي، لأنّك لا تقسم لي إلا بما فيه صلاح لي ـ واسترني ـ بسترك الجميل يا ربّ، فأنت الساتر على عبادك في كلّ أسرارهم وما يخفون من أمورهم ـ وعافني أبداً ما أبقيتي ـ فإنك يا ربّ وليّ العافية، فمنك الوجود ومنك العافية التي تجعل من وجود الإنسان ينطلق في راحة هادئة له ـ واغفر لي ـ والاستغفار عندما ينطلق من المعصوم، فإنّه لا يكون استغفاراً عن ذنب، لأنّ عصمة المعصوم ترتفع به عن أيّ ذنب، وقد كانت فاطمة(ع) تعيش العصمة كلّها، فهي من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً، وهي سيّدة نساء العالمين، وهي التي تجسّدت العصمة في كلّ حياتها، في أقوالها وأفعالها، ولكنّ الاستغفار ينطلق من هذا التواضع العبودي، والإعلان عن معنى العبوديّة بين يدي الربّ السيّد؛ تواضع وعبوديّة وخشوع وخضوع، تماماً كما يجلس العبد بين يدي مولاه ـ وارحمني إذا توفّيتني ـ فإنني يا ربّ عندما أُقبل عليك، أريد أن أُقبل عليك وأنا مغفور لي، لأقف بين يديك وأنا طاهر من كلّ الذنوب التي تسخطك عليّ ـ اللّهم لا تعيني ـ تتعبني ـ في طلب ما لم تقدّر لي، وما قدّرته لي فاجعله ميسّراً سهلاً. اللّهمّ كافِ عني والديّ وكلّ من له نعمة عليّ ـ إنها(ع) تستحضر بين يدي الله والديها وكلّ الناس الذين خدموها ـ خير مكافأة. اللّهمّ فرّغني لما خلقتني له ـ وقد خلقنا الله لنطيعه ونعبده: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذّاريات: 56]، فرّغني لأن تكون كلّ حياتي طاعةً وعبادةً لك ـ ولا تشغلني بما تكفّلت لي به ـ وهو الرّزق ـ ولا تعذّبني وأنا أستغفرك، ولا تحرمني وأنا أسألك، اللّهمّ ذلّل نفسي في نفسي ـ اجعلني يا ربّ لا أنتفخ انتفاخ الغرور، ولا أعيش الإحساس بذاتي في جوّ أنانية الذات، بل اجعلني أدرس كلّ نقاط الضّعف في نفسي، لأشعر بالذلّ فيها، لأتحرّك من أجل أن أسير بها في سدّ النقص وفي حركة الكمال ـ وعظّم شأنك في نفسي ـ اجعلني أعظّم ألوهيّتك وربوبيّتك، وأستشعر عظمتك لأخضع لك ـ وألهمني طاعتك والعمل بما يرضيك والتجنّب لما يسخطك يا أرحم الراحمين".


هكذا كانت الزهراء (ع) تجلس بين يدي الله تعالى لتنفتح على معنى العبوديّة في حضرة الربوبيّة.

 

وكانت الزهراء (ع) الزوجة القدوة التي عاشت مع عليّ (ع) كأفضل ما تعيشه زوجة مع زوجها، لتقول للرّجال وللنساء، إنّ الحياة الزوجية هي الحياة التي تنطلق من خلال المودّة والرحمة والمسؤولية المشتركة وكلّ هذا الانسجام والتواضع؛ تواضع الزوجة لزوجها، وتواضع الزوج لزوجته، وكان عليّ (ع) يقول: "ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله، ولا أغضبتني ولا عصت لي أمراً، ولم تعص أمري مدّة حياتها معي". هذه الحياة الزوجيّة التي تنفتح على المودة والرحمة ومعنى المسؤولية، فليست الزوجيّة ساحة يحاول كلّ واحد من الطرفين أن يؤكّد فيها ذاته، بل أن يجعل ذاته مندمجة في ذات الآخر: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}. وقالت الزهراء (ع) وهي توصي عليّاً (ع) آخر وصاياها: "ما عهدتني كاذبةً ولا خائنة ـ والخيانة هي خيانة العقد الزوجي في معنى المعاشرة ـ ولا خالفتك منذ عاشرتك"، لأن علياً والزهراء (عليهما السلام)، كانا نتاج روح واحدة وقلب واحد وفكر واحد ووحي واحد وشخصية رسوليّة واحدة، فقد كانا تلميذين عند رسول الله (ص)، أخذا منه كلّ ما عاشه وعلّمه وما انفتح عليه، ولذلك، كانا يمثلان عقل رسول الله (ص) وروحه وقلبه، وكانا متّحدَين برسول الله الذي انفتح باتحاد الرّوح على الله تعالى من خلال طاعته لله وعبوديّته، ولذلك، كان عليّ فاطمةً، وكانت فاطمة عليّاً، وكانا معاً رسول الله (ص)، ولذلك، كانا يعيشان الانسجام كلّه، فلا يمكن أن يصدر من أحد منهما ما ينافي هذا الانسجام، إضافةً إلى العصمة التي يتمثّلانها في كلّ حياتهما.


ويُنقَل عن الإمام الصادق(ع) قوله: "إنّ رسول الله (ص) رأى فاطمة وعليها كساء من نوع رديّ، وهي تطحن بيديها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله(ص) ـ لما رآه من جهدها وتعبها ـ فقال: يا بنتاه، تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة". فقد أراد أن ينفتح عليها بما تشعر معه بالراحة أمام هذا الجهد، ولذلك حدّثها بلغة الرّوح، وكانت (ع) تعيش هذه الروح ـ ونقولها لكلّ النساء المؤمنات ـ كانت تعيش كلّ هذا الجهد في خدمة أبيها وزوجها وأولادها، بروحيّة عالية تفكّر معها في الآخرة مع ما تعانيه في الدنيا. يُنقل في سيرتها، وقد شاهدها أحدهم، وبين يديها شعير تطحنه، وهي تقول: {وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى}. صحيح أنني أتعب كلّ هذا التعب والمعاناة، لكنني أنتظر يوم القيامة، عندما أُقدم على الله وأقف بين يديه، وهو يعلم معاناتي في الدنيا، طلباً لرضاه، ولا شيء غير رضاه.


مناقب الزهراء(ع) وفضائلها

نريد أن نتعرّف روحانية الزهراء(ع)، وكيف كانت تعيش الفيض الروحي، كي نفهم الزهراء(ع) من الدّاخل، لأنّ بعض الناس شغلوا أنفسهم بظلاماتها، ولم يشغلوا أنفسهم بفضائلها وأخلاقها ومناقبها، فلم يستفيدوا من الزهراء (ع) شيئاً، بل حاولوا أن يثيروا العصبيات والحرتقات باسم الزهراء (ع). وفي رواية عن عليّ (ع)، وهو يحدث شخصاً من بني سعد، يقول: "ألا أحدّثك عني وعن فاطمة؛ إنها كانت عندي، وكانت من أحبّ أهله إليه، وإنها استقت بالقربة حتى أثّر في صدرها، وطحنت في الرحي حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرَّت ثيابها، وأوقدت النّار حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألته خادماً يكفيك ضرّ ما أنت فيه من هذا العمل، فأتت النبيّ (ص)، فوجدت عنده حدّاثاً، فاستحت فانصرفت، فعلم النبيّ أنها جاءت لحاجة، فغدا علينا رسول الله (ص) ونحن في لفاعنا ـ في لحافنا ـ فقال: السّلام عليكم، فسكتنا واستحيينا لمكاننا، ثم قال: السّلام عليكم، فسكتنا، وقال: السَّلام عليكم، فخشينا إن لم نردّ عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك، يسلّم ثلاثاً، فإن أُذن له وإلا انصرف، فقلت: وعليك السّلام يا رسول الله، ادخل، فلم يعد أن جلس عند رؤوسنا، فقال (ص): يا فاطمة، ما كانت حاجتك عند محمد؟ فخشيت إن لم تجبه الزهراء (ع) أن يقوم، فقلت: أنا والله أخبرك يا رسول الله، فذكرت له ما كانت عليه فاطمة وما طلبته منه، فقال (ص): ألا أعلّمكما ما هو خير لكما من الخادم؛ إذا أخذتما منامكما، فسبّحا الله ثلاثاً وثلاثين، واحمداه ثلاثاً وثلاثين، وكبّراه أربعاً وثلاثين، فأخرجت فاطمة رأسها وقالت: رضيت عن الله ورسوله، (ثلاث مرات)".


الدفاع عن حقّ عليّ(ع)

هذه هي الروحية التي كان يعالج بها النبيّ (ص) آلام الزهراء (ع)، وكانت تستجيب لهذا العلاج الروحي، لأنها كانت تعيش في كلّ هذا السموّ والفيضان الرّوحي. ومع ذلك، كانت (ع) زوجة كأعظم ما تكون الزّوجات، وأمّاً كأعظم ما تكون الأمّهات، وبنتاً كأعظم ما تكون البنات، ومسلمة كأعظم ما تكون المسلمات، وكانت عابدةً كأعظم ما تكون العابدات، وكانت مجاهدة بالحقّ كأعظم ما تكون المجاهدات، وقد وقفت بعد رسول الله (ص) لتدافع عن الحقّ في حقّ عليّ (ع)، فلم تتحدّث عن آلامها وظلاماتها، ولكنّها كانت تتحدّث عن عليّ: "وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا منه والله نكير سيفه، وقلّة مبالاته بحتفه"، وكانت تقول لنساء المدينة عندما جئن لعيادتها في مرضها: "أصبحت والله عائفةً لدنياكنّ، قالية لرجالكنّ"، لأنهم لم يقفوا مع الحقّ حيث يجب أن يقفوا معه، وكانت خطبتها في مسجد رسول الله (ص) التي تمثّل ثقافة الإسلام في كلّ العمق الذي تنطلق فيه تشريعات الإسلام ومفاهيمه، وفي كلّ ذلك التاريخ الذي عاشه رسول الله، حتى أصبحت كلمة الله في الإسلام وفي الواقع هي العليا، كانت تمثّل في خطبتها الثقافة الإسلامية العميقة الواعية، وكانت تمثّل الحجّة القوية الحاسمة في إرثها من أبيها.


كانت فاطمة (ع) الإنسانة التي عاشت مع أبيها وزوجها وأولادها، وعاشت مع الأمّة كلّها، وانفتحت بالواقع الإسلامي على الحقّ كلّه، ولذلك على الرجال والنساء أن يقفوا من أجل أن يجدوا في هذه الإنسانة التي لم تبلغ السنّ المتقدّمة في الشباب، أسوةً وقدوةً، فقد توفّيت بعد رسول الله وكان عمرها ثماني عشرة سنة، كان عمراً قصيراً، ولكنّه كان عمراً مباركاً.


فسلام الله عليها يوم وُلدت، ويوم انتقلت إلى رحاب ربها، ويوم تبعث يوم القيامة، سلام الله عليها وعلى زوجها وأبيها وأولادها، ونسأل الله أن يرزقنا شفاعتها يوم القيامة، لأنها الشافعة المشفّعة".

 

السيد محمد حسين فضل الله

 

المصدر: موقع بينات