توضيح ذلك: انّ الهدف النهائي للقرآن الكريم ـ والذي يتّضح وبجلاء من خلال مطالعة الآيات القرآنيةـ هو توفير الأرضية المناسبة والشروط المساعدة لتكامل الإنسان الروحي والفكري وسوقه نحو الطيبات والعمل الصالح وفك أسره من قيود الشهوة والخضوع للشيطان والتبعية للأهواء والميول، ومن المعلوم أنّ الاعتقاد بوجود عالم آخر يحاسب فيه الإنسان على الصغيرة والكبيرة وتحصى عليه جميع حركاته وسكناته صغيرها وكبيرها، يكون له تأثير واضح في تنمية روح الطهارة والفضيلة في الإنسان، فإذا كان الاعتقاد بالمعاد له هذا الأثر الفعّال في التربية والطهارة والكمال، فلا ريب أنّ وصف ما يتعرّض له الإنسان وما يلاقيه من الحالات يوم القيامة يكون له تأثير أكبر وفاعلية أكثر في حياته، ويكون حينئذ أكثر فائدة في تحقيق الهدف القرآني،ومن هذا المنطلق نحاول تسليط الضوء ـ وبما يسمح به المجال ـ على الآيات التي تتعلّق بهذا الموضوع ونشير إلى تفسيرها.
الأحوال الطارئة على الإنسان يوم القيامة
نشير هنا إلى نماذج من آيات الذكر الحكيم التي تسلّط الضوء على هذا البحث مع الإشارة إلى العناوين الكلّية والصفات العامة التي تتحدّث عنها، وهي:
- لكلّ إنسان شأن يغنيه
قال تعالى في بيان هذه الحالة التي يتعرّض لها الإنسان يوم القيامة:
«يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخيهِ * وَأُمِّهِ وَ أَبِيهِ * وَصاحِبَتِهِ وَبَنيهِ * لِكُلِّ امْرِئ مِنْهُمْ يَومَئِذ شَأْنٌ يُغْنيهِ».1
- لا يملك إنسان لإنسان نفعاً
يقول سبحانه وتعالى حاكياً عن تلك الحقيقة:
«فَالْيَومَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْض نَفْعاً وَلا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ».2
ويقول سبحانه في آية أُخرى: «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْس شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذ لِلّهِ» .3
والذي يظهر من مراجعة آيات الذكر الحكيم الأُخرى، انّ السبب في ذلك هو أنّ النظام السائد في عالم الكون سينهار بالكامل في ذلك اليوم، وسوف تنفصم كلّ العرى والعلاقات الاجتماعية والأواصر والروابط الأُسرية والسياسية وغيرها من الأواصر التي كانت حاكمة في عالم الدنيا وينتفي تأثير تلك العوامل بصورة تامة، ولقد أشار القرآن الكريم ـ و بصراحة تامة ـ إلى تلك الحقيقة بقوله:
«إِذْ تَبَرّأَ الَّذينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بهِمُ الأَسْبابُ» .4
ومن الواضح أنّ المراد من الأسباب المنقطعة ليس هو مطلق الأسباب، بل الأسباب الدنيوية، وذلك لأنّه وبشهادة القرآن الكريم انّ الأسباب تنقسم ـ وحسب النظام العام ـ إلى أسباب صالحة ونافعة ومفيدة وإلى أسباب ضارة ومفسدة ومهلكة، فلا يجني منها الإنسان إلاّ الخيبة والخسران والهلكة.
- ما لا ينفع الإنسان
يصرّح القرآن الكريم بأنّ هناك بعض الأشياء لا تنفع الإنسان يوم القيامة، ومن تلك الأشياء:
أ. المال والثروة.
ب. الأولاد والأرحام.
قال تعالى معبراً عن تلك الحقيقة: «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ» .5
وفي موضع آخر يقول سبحانه:
«لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَولادُكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ…» .6
- لا ينفع الاعتذار
أشار سبحانه و تعالى إلى هذه الحالة من حالات يوم القيامة بقوله:
«فَيَومَئِذ لا يَنْفَعُ الَّذينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» .7
- العوامل النافعة يوم القيامة
لقد صرّح القرآن الكريم بعاملين أساسيّين ينفعان الإنسان يوم القيامة ويكونان له عوناً في عالم الآخرة، وهما:
الف: القلب السليم
يقول تعالى معبّراً عن أهمية هذا العامل يوم القيامة:
«إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْب سَليم» .8
وهنا يطرح السؤال التالي: ما المراد من القلب السليم هنا؟
إنّ المراد من القلب السليم هو القلب النزيه عن الشرك الخالي من حب الدنيا ، فقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «هو القلب الذي سلم من حب الدنيا».
ويؤيّد ذلك قول النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) : «حُبُّ الدُّنْيا رَأْسُ كُلِّ خَطيئَة».9
ب: الصدق
لقد أشار سبحانه إلى أهمية هذا العامل بقوله:
«قالَ اللّهُ هذا يَوْم يَنْفَعُ الصّادِقينَ صِدْقُهُمْ…» .10
- الأخلاّء بعضهم عدو لبعض
من النماذج الأُخرى التي تشير إلى الانقلاب الحاصل في عالم الآخرة والتحوّل الذي يطرأ على عالم الكون يوم القيامة هو أنّ الأخلاّء الذين كانت تربطهم أواصر الحبّ والإلفة والخلّة في هذا العالم يتحوّلون إلى خصوم وأعداء في الآخرة يتبرّأ بعضهم من البعض الآخر ويذم بعضهم البعض، يقول سبحانه في هذا الصدد:
«الأَخِلاّءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ إِلاّ الْمُتَّقينَ» .11
- منطق المؤمنين مع الكافرين
لقد أشار القرآن الكريم إلى المنهج الاستهزائي الذي كان يعتمده الكافرون تجاه المؤمنين في الحياة الدنيا بقوله تعالى:
«إِنَّ الَّذينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ * وَإِذا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهينَ * وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤلاءِ لَضالُّونَ» .12
هذا هو الأُسلوب الذي اعتمده الكافرون في الحياة الدنيا مع المؤمنين، ولكن الحالة تتغيّر في يوم القيامة وتتحوّل تحوّلاً كاملاً حيث يصبح المؤمنون يستهزئون من الكافرين ويضحكون من العاقبة السيئة والشقاء الذي ساق الكافرون أنفسهم إليه باختيارهم وبإرادتهم، وقد أكّد القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله:
«فَالْيَوْمَ الَّذينَ آمَنُوا مِنَ الكُفّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرائِكِ يَنْظُرونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» .13
إنّ النماذج المذكورة تشير جميعها إلى مسألة كلّية وهي أنّ الأسباب والشرائط المؤثرة في هذه الدنيا والتي يكون لها أثر فاعل في العلاقات الاجتماعية والأواصر المختلفة، والتي تعود على الإنسان بالنفع أو الخسارة والصداقة والعداء و… فإنّ جميعها ستتحوّل في عالم الآخرة إلى شكل آخر، وتحدث مقررات وشرائط جديدة تحل محلّ تلك العلاقات الزائلة .
وهناك آيات أُخرى تشير أيضاً إلى الحالات المختلفة للإنسان في يوم القيامة والتحوّل الذي يحدث وبنحو كلّي في ذلك اليوم، فهناك طائفة من الناس تعيش حالة السعادة والفرح14، وطائفة أُخرى تعيش الشقاء والغم15 ، وطائفة مطأطئة رؤوسها وتعيش حالة الخجل والحياء16، وطائفة تعيش الرضا والرفعة، وأُخرى17 تحشر بوجوه نظرة وبهيئة جميلة18، وطائفة تحشر بصورة قبيحة وبمنظر كريه19 ، وطائفة تحشر تحت عنوان أصحاب اليمين20، وأُخرى من أصحاب الشمال21 ، وطائفة من السابقين والمقرّبين22 ، وطائفة تؤتى كتابها بيمينها وأُخرى في شمالها23.24
------------------
[1] . عبس:34ـ 37.
[2] . سبأ: 42.
[3] . الانفطار: 19.
[4] . البقرة: 166.
[5] . الشعراء: 88.
[6] . الممتحنة: 3.
[7] . الروم: 57.
[8] . الشعراء: 89.
[9] . مجمع البيان:4/ 194.
[10] . المائدة: 119.
[11] . الزخرف: 67.
[12] . المطففين:29ـ 32.
[13] . المطففين:34ـ 36.
[14] . عبس: 38ـ 40 و القيامة:22ـ 25.
[15] . عبس: 38ـ 40 و القيامة:22ـ 25.
[16] . الغاشية:2ـ 8.
[17] . الغاشية:2ـ 8.
[18] . آل عمران:102ـ 106.
[19] . آل عمران:102ـ 106.
[20] . الواقعة:8ـ 10.
[21] . الواقعة:8ـ 10.
[22] . الواقعة:8ـ 10.
[23] . الحاقة:69، الإسراء:71، الانشقاق:7ـ 10.
[24] . منشور جاويد:9/427ـ 430.
مکتب المرجع الديني آية الله الشيخ جعفر السبحاني