في الجواب على ذلك، يجدر بنا التركيز على الأمور التالية:
أولاً: نظرة تقييميّة لهذه الفتوحات.
ثانياً: مدى شرعيّة هذه الفتوحات من حيث المبدأ.
ثالثاً: النظر إلى نتائجها وآثارها على الواقع الإسلامي برمته.
رابعاً: هل يمكن بالاستناد إلى هذه الحروب الدعوة إلى فتوحات جديدة؟
1- نظرة تقييميّة لهذه الفتوحات
في هذه النقطة، والتي نتكلم فيها عن الفتوحات وفق المعيار الأخلاقي، علينا التأكيد على أمرين أساسيين وهما:
- أولاً: ليس من الضروري مقاربة المسألة من زاوية الدخول إلى نوايا الذين قادوا هذه الفتوحات، لمعرفة ما إذا كانت نوايا هؤلاء طيبة ونبيلة ومتوافقة مع أقوالهم الجميلة بأنّهم هدفوا إلى إيصال صوت الإسلام إلى العالم ونشر الدعوة الإسلامية، أم أنّ نواياهم الواقعية هي التسلط وبسط النفوذ والحصول على المنافع والمصالح المادية، وإنما الأهم هو النظر إلى أعمالهم وتقييم مدى تطابقه مع أقوالهم، هذا من جهة ومن جهة أخرى يجدر بنا النظر إلى نتائج هذه الفتوحات مما سنذكره في نقطة لاحقة.
- ثانياً: مع أنّ أمثال هذه القضايا - كقضية الفتوحات - لا نستطيع التعامل معها وفق نظرة مثاليّة حالمة، لكننا لو أردنا تحكيم المعايير الأخلاقية الصرفة فلا نستطيع إلا الاعتراف بأنّها لم تكن بتلك النزاهة والنصاعة من الناحية الأخلاقية، فالفتوحات كانت حروباً، والحروب ليست أعمالاً إنسانية، إنّها معارك، ومن الطبيعي أنّه سيسقط فيها ضحايا كثيرون، وسواء أرضينا أم كرهنا فهذا هو الواقع، وهو واقع لم ينفرد به تاريخ المسلمين، بل عرفه تاريخ البشرية بأجمعه، وكل الشعوب قد اعتمدت أساليب مماثلة، وربما كان المسلمون هم أقلّ الناس سوءاً في هذا المجال. باختصار: إنّ هذه الحروب لم تخلُ من تجاوزات وانحرافات وأخطاء، ولسنا بصدد تأكيد نزاهتها وخلوها من ذلك، ولذلك فقد قلت في بعض كتبي: إنّ الفاتح الإسلامي كان الفاتح الأقل سوءاً كما يصرّح بذلك المفكر اللبناني "أمين معلوف" في كتابه الهويات القاتلة (انظر: كتاب : وهل الدين إلا الحب؟)
2- شرعيّة هذه الفتوحات من حيث المبدأ
بما أنّا نعتقد أنّ مصدر الشرعيّة بعد رسول الله (ص) هو الإمام علي (ع) والأئمة من ولده (ع)، فإنه يواجهنا السؤال عن موقفهم من هذه الفتوحات. ونحن وإن لم نجد نصوصًا تصرح بأنهم أذنوا بتلك الفتوحات، لكن لا يبعد القول: إنهم قد أمضوها وأقروها بالإجمال، ونستشف ذلك من عدة شواهد وقرائن، منها:
أ- ومن أهمها ما نراه من سكوتهم وعدم اعتراضهم عليها؛ والسكوت كما هو معلوم يمثل إمضاءً ويضفي شرعيّة. ولا نعتقد أنه من المقبول تفسير سكوتهم ولا سيما سكوت الإمام علي (ع) بأنه كان خاضعًا للتقية أو ما إلى ذلك، فهذا خلاف ما هو معروف عن جرأة الإمام (ع) في قول الحق، وأنّه لم تكن تأخذه في الله لومة لائم، ما يعني بعبارة أخرى: عدم توفر ظروف التقية في زمانه.
ب- هذا ناهيك عن أنّا نجد أنّ جملة من خواص الإمام علي (ع) قد انخرطوا من الناحية العملية في الفتوحات، الأمر الذي لا يُستبعد معه أن يكون ذلك بتوجيه وإرشاد من الإمام نفسه (ع).
ج- أضف إليه أنّا نجد الإمام علي (ع) قد وجه نصيحة إلى عمر بن الخطاب، عندما استشاره الأخير بخروجه إلى حرب الفرس، وكانت النصيحة (وهي موجودة في نهج البلاغة) تنص على أن لا يخرج هو إلى الحرب، وأن يكون "قطبًا ويدير الرحى بالعرب"، ويحذره من الشخوص بنفسه لئلا يُقتل فينهزم العرب والمسلمون.
د- وعلينا أن نضع في الحسبان أيضًا، أنّ الأئمة (ع) قد تعاملوا مع نتائج تلك الحروب بإيجابية، حتى ورد أنّ الإمام الحسين (ع) أخذ سبية من سبايا تلك الحرب، ثم تزوج بها بعد ذلك. وكانت ثمرة ذلك الزواج هو الإمام زين العابدين (ع) والذي كان يقول على ما يُروى عنه: "أنا ابن الخيرتين".
ه- ولا يجب أن نغفل أو ننسى هنا دعاء الإمام زين العابدين (ع) لأهل الثغور، وهو من أدعية الصحيفة السجاديّة المعروفة، ومعلوم أنّ هذا الدعاء كان لجيش الدولة الأموية آنذاك والذي كان يقاتل على حدود البلاد الإسلامية.
3- النظر إلى نتائجها وآثارها على الواقع الإسلامي برمته
وبصرف النظر عن شرعية الحرب، فإننا نلحظ أن دخول الفاتح الإسلامي إلى بلدان جديدة كـ فارس وغيرها، قد شكّل خشبة خلاص لشعوب تلك الدول، ولم يتسبب في انهيارها الحضاري، بدليل هذا الاندماج والانصهار الذي حصل لتلك الشعوب مع الواقع الإسلامي الجديد، بل ومشاركتها الفاعلة في إغناء التجربة الإسلامية وخدمتها الجليلة للعلوم الإسلامية نفسها، سواءً منها العلوم العقلية أو العلوم النقلية، فضلاً عن مساهمتها البارزة في تطوير العمران وتحقيق التمدن. إنّ ما يظهر للباحث أنّ الكثير من شعوب تلك الدول التي دخلها الفاتح الإسلامي كانت متعطشة لتعاليم هذا الدين الجديد الذي غيّر مجرى حياتها ونزل عليها كنزول الماء على الأرض التي أصابها الجفاف. ولم يبدُ على تلك الشعوب أنّها أُكرهت على دخول الإسلام تحت وطأة السيف، لا لأنّ الدين لا يقبل الإكراه فحسب، بل تفاعل تلك الشعوب مع الدين الجديد ومساهمتها الكبرى فكرياً وحضاريًا وأدبيًا في إغناء الثقافة والحضارة الإسلاميتين، هو خير برهان على دخولها الطوعي في الإسلام، وكأنها كانت تنتظر من يفك القيود والأغلال والآصار الفكرية عنها ويخرجها من السجن. وعلينا أن نسجل هنا أن الفاتح الإسلامي كان وباعتراف الكثير من المستشرقين ومفكري الغرب، كان أرحم فاتح عرفه التاريخ؛ أو في الحدّ الأدنى كان - وكما عبّرنا - الفاتح الأقل فتكاً، ولذا لم يقضِ على الأديان الأخرى ولم يجبرها على الدخول في الإسلام، بل أقرّها على أديانها السماوية، ووجدناها تعايشت معه، ولا تزال موجودة إلى يومنا هذا.
وأما أن يقال: إنّ الفتوحات قد سببت الكثير من المشاكل للمسلمين أنفسهم، وذلك من خلال ما أورثته أو تركته من انحرافات وما نتج عنها من نشوء تيارات تشكيكية وربما إلحادية في الواقع الإسلامي، فتعليقي عليه : إنّ انفتاح المسلمين على ثقافات أخرى هو بنظري لا يشكّل سلبية مطلقة، فإنّ هذا الانفتاح وإن أدخل العديد من الشبهات إلى الواقع الإسلامي وتسبب ببعض الاضطرابات الفكرية، بيد أنّه حرك العقل الإسلامي وجعله ينهمك بشكل جاد في إيجاد إجابات شافية على الكثير من الأسئلة والإشكاليات التي استولدها مناخ الفتوحات واحتكاك المسلمين بالثقافات الأخرى، فضلاً عن حركة الترجمة التي أعقبت ذلك.
4- هل يمكن بالاستناد إلى هذه الحروب الدعوة إلى فتوحات جديدة؟
وهل يمكن لنا اعتماد أسلوب الفتح العسكري في زماننا؟ والجواب: إنّ الأمر يتصل بفهمنا لفكرة الجهاد الابتدائي الرامي إلى نشر الإسلام، وما يمكن أن نقوله في هذه العجالة: إنه لا موجب اليوم لاعتماد أسلوب العنف والفتح العسكري في سبيل نشر الرسالة الدينية، وذلك بملاحظة المعطى الواقعي التالي: وهو أنّ رسالة الدين التغييرية لم يعد نشرها في هذا الزمن متوقفاً على استخدام السلاح وشن الحروب، إذ غدا بإمكاننا العمل الجاد - وبالاستعانة بما وفرته لنا الحضارة الجديدة من وسائل التواصل مع كل الناس - على نشر القيم الدينية وإيصالها إلى كل أرجاء المعمورة دون حواجز تذكر، آخذين بأساليب الحكمة والموعظة الحسنة الرامية إلى فتح العقول بالأفكار النبيلة التي يحملها الدين. وعليه، فلا يبقى مبرر للحرب. إنّ جهاد الدعوة في الإسلام لم يكن - بحسب ما نفهمه - يستهدف أبداً قهر الناس وإجبارهم على الدخول في الدين، لا لأنّ الدين يريد للناس أن ينخرطوا فيه طوعاً لا كرها، لا لذلك فحسب، بل لعدم قابلية الدين في نفسه للإكراه، كما هو صريح قول الله تعالى: {لا إكراه في الدين} [256 - البقرة]، إنّ الدين يرمي في واحدة من أهم مقاصده وأهدافه الكبرى إلى تحقيق الأمن والاطمئنان النفسي والمجتمعي للبشرية، وهذا ما لا تحققه الحروب وسفك الدماء. وإنّما كان هدف الجهاد المذكور هو إزالة الحواجز التي يضعها الظالمون والجبابرة أمام إيصال الرسالة التي يحملها الدين إلى المتعطشين للحرية والمعنويات، ولكن هذا الهدف - وفي ظل الواقع الجديد - ربما يكون قد انتفى وما لم يعد قائماً. ولهذا يكون من واجبنا التفكير والعمل على ابتكار أساليب جديدة تمكننا من فتح العقول بالمنطق والحجة وفتح القلوب بالمحبة، بدل التفكير أو العمل على فتح البلدان بالحديد والنار، ووصولاً إلى هذه الغاية النبيلة، أعني الوصول إلى قلوب الناس وعقولهم، يكون لزاماً علينا العمل على تطوير خطابنا الديني بما يسمح له من مخاطبة الإنسان المعاصر والوصول إلى عقله.
الشيخ حسين الخشن