أولاً: الموقف السياسي
لم تلاق السياسة التي اتبعها الإمام علي (عليه السلام) قبولاً لدى طلحة والزيبر، فخرجا من المدينة إلى مكة بعد بيعتهما للإمام علي (عليه السلام) بعد أن سمعا بالموقف السلبي للسيدة عائشة من الإمام علي (عليه السلام)، ومن هناك، تحركا صوب البصرة، حيث تمت لهم السيطرة التامّة عليها. لذا عدّ الإمام علي (عليه السلام) خروج طلحة والزبير نكثاً للبيعة، لكنه آثر الإمساك عن حربهم أولاً، قائلاً: «وسأمسك الأمر ما استمسك، واذا لم أجد بداً فآخر الدواء الكيّ».
أي أمسك نفسي عن محاربة هؤلاء ما أمكنني، وأدفع الأيام بمراسلتهم، وتخويفهم وإنذارهم، وأجتهد في ردهم إلى الطاعة ترغيباً وترهيباً، فإذا لم أجد بداً من الحرب، فآخر الدواء الكي، أي الحرب، فهي الغاية التي إليها ينتهي أمر الخارجين .
ثم وجد أن الواجب الشرعي يحتم عليه استخدام القوة لإرجاعهم إلى الطريق الصحيح حيث يقول: «فما وجدتني يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكانت معالجة القتال أهون من معالجة العقاب، وموتات الدنيا أهون علي من موتات الآخرة».
فأضطر الإمام علي (عليه السلام) للخروج إلى البصرة، داعياً أهل الكوفة للخروج معه، وبعد وصوله للبصرة، دخل في مفاوضات مع طلحة والزبير لم تسفر إلا عن حالة الحرب، والتي انتهت بمقتل طلحة في ساحة المعركة، فيما خرج الزبير من المعركة، فاغتاله ابن جرموز في وادي السباع، وبعد ذلك، ألقى أهل الجمل السلاح، وتمت إعادة السيدة عائشة إلى المدينة.
ثانياً: قبلة المسجد
وكان من بين إصلاحات الإمام علي (عليه السلام) في البصرة، أنه قام بتصحيح اتجاه قبلة المسجد، لأنها كانت منحرفة عام 36 هـ.
ثالثاً: الجانب العلميّ
تنامت الحركة الثقافية في مسجد البصرة بعد زيارة الإمام علي (عليه السلام) للبصرة سنة 36 هـ، حيث ألقى عدداً من الخطب في هذا المسجد، وأجاب على الكثير من الاسئلة المتنوعة. فبعد انتهاء وقعة الجمل، رقي منبر مسجد البصرة قائلاً: «يا أهل البصرة ... إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: تفتح أرض يقال لها البصرة أقوم أرض الله قبلة، قارؤها أقرأ الناس، وعابدها أعبد الناس» .
وفي كلامه (عليه السلام) للأحنف بن قيس، أشار لبعض ما سيجري في البصرة، ومنها إشارته إلى ظهور حركة الزنج: «يا أحنف، كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب، ولا قعقعة لجم، ولا حمحمة خيل، يثيرون الأرض باقدامهم كأنها أقدام النعام». أشار الشريف الرضي: إن الإمام يقصد بذلك حركة الزنج التي ظهرت في العصر العباسي (255 ـ 270 )، وقد ترك ظهورها آثاراً سلبية على مدينة البصرة، حيث يقول الإمام: «ويل لسكككم العامرة، والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور! وخراطيم كخراطيم الفيلة، من اؤلئك الذين لا يندب قتيلهم، ولا يفقد غائبهم».
وتنبأ (عليه السلام) بفتن تترك آثاراً سلبية على مدينة البصرة، إذ يقول: «فتن كقطع اللّيل المظلم، لا تقوم لها قائمة، ولا تردّ لها راية، تأتيكم مزمومة مرحولة يحفزها قائدها، ويجهدها راكبها، أهلها قوم شديد كلَبُهم، قليل سلَبُهم، يجاهدهم في سبيل الله قوم أذلة عند المتكبرين، في الأرض مجهولون، وفي السماء معروفون. فويل لك يا بصرة عند ذلك من جيش من نقم الله! لا رهج له ولا حَس، وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر، والجوع الأغبر».
وقد اخلفت الآراء في طبيعة هذا الجيش، ورأى البعض أن الإمام يقصد به حركة الزنج، ولكن ابن أبي الحديد لا يرى ذلك، لأن جيش الزنج كان ذا حس ورهج خلاف ما وصفه الإمام اعلاه، ولانه انذر البصرة بهذا الجيش عند حدوث تلك الفتن حيث لم يكن قبل خروج صاحب الزنج فتن شديدة على الصفات التي ذكرها الإمام (عليه السلام).
وقد تنبأ (عليه السلام) بظهور التتار بقوله: «كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة، يلبسون السرق والديباج، ويعتقبون الخيل العتاق، ويكون هناك استحرار قتل حتى يمشي المجروح على المقتول ويكون المفلت أقل من المأسور». قال ابن أبي الحديد: "واعلم أن هذا الغيب الذي اخبر (عليه السلام) عنه قد رأيناه نحن عياناً، ووقع في زماننا، وكان الناس ينتظرونه من اول الاسلام، حتى ساقه القضاء والقدر إلى عصرنا وهم التتار".
ولما اراد الإمام الانصراف من البصرة، عين عليها عبدالله بن عباس المعروف بفقهه، حيث اخذ يلقي دروساً في الفقه والتفسير والاخبار في مسجد البصرة، حيث تخرج على يديه كبار التابعين، وتشكلت نواة مدارس في الفقه والتفسير والاخبار والكلام، فمن اهم المهام التي اضطلع بها مسجد البصرة القضايا الثقافية، حيث صار اشبه بجامعة مصغرة يجتمع فيها الاساتذة من مختلف الاختصاصات مع طلبتهم، حيث تتشكل حلقات عدة، فحلقة للنحو حيث عرفت البصرة بمدرستها النحوية فعلم النحو من علوم اللغة العربية التي ابتدعها الإمام (عليه السلام)، حيث املى على ابي الاسود الدؤلي جوامعه واصوله التي منها: الكلام على ثلاث اقسام: اسم، وفعل، وحرف .
والكلمة: اما منكرة او معرفة، وتقسيم وجوه الاعراب من حيث الرفع والنصب الجر والجزم، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات، لان القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر، ولا تنهض بهذا الاستنباط، وحلقة لتدريس اللغة، واخرى للكلام والقضايا الفلسفية، وحلقة للتفسير، ومن بين تلك الحلقات حلقة الاصمعي، والحسن البصري، ووائل بن عطاء، وقتادة السدوسي، ولا يعني هذا ان هذه الحلقات مقتصرة على اهالي البصرة، بل ان شهرة علماء البصرة دفعت طلبة العلم إلى المجيء اليها والتزود من علمائها.
وبجانب هذه الحلقات، كانت حلقة عمرو بن ابي العلاء والخليل الفراهيدي، الذي وصف بأنه مفتاح العلوم ومعرفتها، ويونس بن حبيب، اما الاصمعي، فكانت حلقته في اللغة والاخبار، وبالاضافة إلى حلقات الدرس، كانت تعقد المناظرات، وادت بعض من هذه المناظرات لايجاد اتجاهات فكرية جديد، كالمناظرة بين الحسن البصري وتلميذه ابو الحسن الاشعري، والتي ادت لنشوء مذهب الاشاعرة في علم الكلام، استمر هذا المسجد كجامعة مصغرة يستقبل طلبة العلم من مختلف ارجاء العالم الاسلامي، حتى نشأ من بعضهم اساطين من اختصاصات مختلفة فيعودوا إلى بلادهم .
الإصلاح الاقتصادي
عثر الاثريون على نوعين من الدراهم ضربا في عهد الإمام علي (عليه السلام)، اولهما مضروب في مدينة الري سنة 37 هـ / 657 م، وقد نقشت عليه العبارة (ولي الله)، الا انها مضروبة على الطراز الساساني، ولكنها تعد الاولى من نوعها التي تظهر عليها القاب الخلفاء، أما النوع الثاني، فقد عثر على درهم ضرب في مدينة البصرة سنة 40 هـ / 660 م، اذ تحتفظ المكتبة الوطنية بباريس بدرهم عربي يعود لسنة 40 هـ، وقد نشره (لا فوكس) سنة 1887 م وقد نقشت عليها العبارات الآتية:
مركز الوجه: لا اله الا الله وحده لا شريك له، أمّا الطوق، فنقش عليه: بسم الله. ضرب هذا الدرهم سنة اربعين، في حين نقش على مركز الظهر: الله احد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً احد، وعلى طوق الظهر: محمد رسول الله ارسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، والملاحظ على كلمات هذا الدرهم انها بدون تشكيل او اعجام.
وقد انتقد الرحالة الشيخ محمد امين بن الشيخ حسن الحلواني المدني ما جاء لدى جرجي زيدان القائل: "ولم تضرب النقود الفضية في الاسلام حتى ايام الخليفة عبد الملك"، فقال الحلواني: "لم يثبت في الرواية الصحيحة ان احداً من الخلفاء الاربعة ضرب سكة أصلاً الا علي بن ابي طالب، فإنه ضرب الدراهم، على ما نقله صبحي باشا الموردلي في رسالة له رسم فيها صورة ذلك الدرهم، وعزا إلى لسان الدين بن الخطيب في الاحاطة".
واشار لهذا الدرهم ايضاً صاحب كتاب وفيات الاسلاف بقوله: " ... وفي درهم بالخط الكوفي بجانب منها: "اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ" وفي دورته محمد رسول الله "أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" وفي الجانب الآخر (لا اله الا الله وحده لا شريك له)، وفي دورته (ضرب هذا الدرهم في البصرة سنة أربعين)، وقال الكتابي: "وبمكتبتنا في قسم النقود دراهم مكتوبة بالكوفي عليها: لا اله الا الله محمد رسول الله، وفي آخر الكتابة اسم علي يقطع نظر المتأمل فيها، وفي كتابتها ونقشها القديم انها لعلي بن ابي طالب (رضي الله عنه)".
ولم يتضح ان الإمام ضرب النقد في البصرة لما قدمها اثر أصحاب الجمل، أم ضرب النقد في سائر البلاد؟ الا ان هذه النقود لم تصلنا، وإنما وصل لنا درهم واحد من هذه الدراهم كانت قد ضربت منه كميات في البصرة. والارجح أن الإمام ضرب نقوداً في الكوفة والبصرة واليمن والري ـ كما مر بنا ـ الا ان هذه النقود لم تصلنا، ووصل فقط درهم ضرب في البصرة سنة 40 هـ، مضافاً للدرهم العلوي في اليمن، والدرهم الذي وصلنا من الري منقوشاً عليه عبارة (ولي الله).
إن هذا الاصلاح الاقتصادي الكبير انتهى كومضة برق، إذ بعد استشهاد الإمام ووصول الأمر لمعاوية، فإنه بذل جهوداً مكثفة من اجل اسدال الستار على كل ما هو علوي، اذ اتخذ سلسلة من الاجراءات من بينها البراءة من الإمام علي (عليه السلام) واضطهاد اصحابه وتقريب خصومه، ثم جاءت المرحلة الاخيرة، حيث شكل معاوية لجنة لافتعال فضائل لخصوم الإمام علي مقابل فضائله (عليه السلام) وافتعال مثالب له (عليه السلام)، وبهذا نخلص للقول إن الإمام علي (عليه السلام) هو أول من ضرب نقداً عربياً في مدينة البصرة خال من أي إشارات أجنبية .
جواد كاظم النصرالله
المصدر: بينات