سوسن غبريس
لم تكن اللّغة يومًا مجرّد كلمات نتكلّم بها لنتواصل من خلالها التَّواصل العاديّ؛ اللّغة بمعناها الأوسع، هي حضارة وثقافة ومعرفة وفكر وتطوّر، وهي الطّريق إلى الإنجاز والإبداع والحضور في المحافل الإنسانيَّة العالميّة.
واللّغة ترقى بقدر رقيّنا، وتنهض بمقدار ما ينهض النّاطقون بها، وكلّما احترمناها أكثر، تألّقت في حياتنا، وحملتنا على بساط النّجاح والإنجازات.
ولكنّ اللّغة العربيّة تعاني اليوم ما تعانيه من عثراتٍ وأزماتٍ في عقر دارها، وتزداد معاناتها بابتعاد أبنائها عنها وإهمالها، وتفضيل اللّغات الأجنبيّة عليها، تحت عنوان العولمة والحاجة إلى إتقان اللّغات الأجنبيّة الّتي باتت لغة العلم والتّكنولوجيا والتطوّر والتخصّص.
وعلى الرّغم من أنّنا لا نتعقّد من اللّغات الأخرى، ونعتبر ذلك سبيلًا من سبل التّواصل مع العالم، والانتفاع ممّا عنده، إلّا أنَّ ما يدعو إلى الحزن والقلق، أن نرى أبناء اللّغة العربيّة يبتعدون عنها تدريجيًّا، متفاخرين باللّغات الأخرى، مع عجزهم عن مواكبة لغتهم بشكل سليم، واعتبار لغتهم الأمّ أدنى مرتبة ومستوى من اللّغات الأخرى الّتي بات التحدّث بها عندهم دليلًا على الرّقيّ والتّباهي.
فمن يتحمّل مسؤوليّة ابتعاد أبناء اللّغة العربيّة عن لغتهم، والاستعاضة باللّغات الأجنبيّة؟ من المسؤول عن إضعاف اللّغة العربيّة في مجتمعاتها وبيئتها؟
لقد انتكست اللّغة ساعة انتكس العرب وتدهوروا وتقهقروا ثقافيًّا وحضاريًّا، وباتوا يعيشون على هامش الأمم الأخرى، يأخذون ممّا تنتج، ويستوردون منها ما يحتاجون، متسوّلين منها حتّى النّظريّات والأفكار والثّقافة، دون أن يبادروا طوال هذه القرون إلى النّهوض بأنفسهم، والعمل على أن يفرضوا حضورهم من جديد على ساحة التقدّم والتطوّر، مع العلم أنّ مجتمعاتنا غنيّة بالطّاقات الفكريّة والعلميّة والشّبابيّة، ومع العلم أيضًا أنّ اللّغة قابلة فعلًا لتواكب العصر بكلّ تعقيداته وتطوّراته.
في يوم اللّغة العربيّة، نقف متسائلين عن مصيرها، لا كلغة يوميّة نتحدّث بها، بل كأداة ثقافة ووسيلة تواصل مع الحضارات الأخرى، وكسبيل نهوض بمجتمعاتنا، وأسلوب حياة نعيشه، ونحن لا نفترض أنّ على النّاس أن تترك اللّغات الأخرى، فليس ذلك هدفًا يسعى إليه أحد، ولكنّ للغتنا حقًّا علينا، ولا ريب أنّنا مقصّرون تجاهها، عمدًا أو من غير قصد، إلّا أنّنا إذا استمرّينا في تجاهلها وإهمالها، فستكون الأمور مع الأجيال القادمة أكثر خطرًا وصعوبة.
فهل نصل إلى يوم تعود لغتنا العربيّة إلى الواجهة الحضاريّة، كما كانت من قبل، أمّ أنّنا نسلك دربًا بعيدًا من هويّتنا وأصالتنا وتراثنا وتاريخنا؟! والويل لنا إن فقدنا هويّتنا يومًا.