وعلينا أن نولي هذا الأمر أهمية خاصة وندرسه بشجاعة وموضوعية بعيداً عن الصخب العاطفي أو التهويل الإعلامي لنتحرى عن الحقيقة ونتبينّ ما جرى فعلاً، فهل فعلاً حصلت هذه المجزرة التي تفاخرت بعض المصادر الإسلامية التاريخية بالحديث عنها؟
وفيما يلي نعرض لدراسة هذه القصة من خلال عدّة وقفات:
الوقفة الأولى: القصة كما رواها المؤرخون
الوقفة الثانية: بين حكاية القرآن ورواية المؤرخين
الوقفة الثالثة: محاولة توجيه أو تبرير ما تضمنته الرواية التاريخية
الوقفة الرابعة: إشكالات لا تقبل التوجيه.
الوقفة الخامسة: الرأي الأقرب في بيان مجريات الأحداث.
الوقفة الأولى: القصة كما رواها المؤرخون
تقول القصّة التاريخية: إنّه وبعد فراغ المسلمين من أمر الأحزاب، أمر النبي (ص) المسلمين بالتوجه إلى بني قريظة فحاصروهم في حصونهم لمدة خمس وعشرين ليلة، "حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب"، فعرضوا أن يسمح لهم بالجلاء فأبى النبي (ص) إلا النزول على حكمه، فقبلوا النزول على حكم أحد صحابة رسول الله (ص). فتواثب الأوس طالبين من الرسول أن يعفو عنهم لأنهم موالوهم، وذكّروه (ص) بأنه وهب يهود بني قينقاع لسيد الخزرج عبد الله بن أبي بن سلول، فقال النبي للأوس:" ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا بلى، قال رسول الله (ص): فذاك إلى سعد بن معاذ". فأحضر سعد وكان جريحاً يتداوى، "فلما حكّمه رسول الله (ص) في بني قريظة ، أتاه قومه فحملوه.. ثم أقبلوا معه إلى رسول الله (ص) ، وهم يقولون : يا أبا عمرو، أحسن في مواليك ، فإنّ رسول الله (ص) إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال : لقد أبى لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بنى عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة، قبل أن يصل إليهم سعد، عن كلمته التي سمع منه. فلما انتهى سعد إلى رسول الله (ص) والمسلمين، قال رسول الله (ص): قوموا إلى سيدكم
.. فقاموا إليه ، فقالوا: يا أبا عمرو، إنّ رسول الله (ص) قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد بن معاذ: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم، قال: وعلى من هاهنا؟ في الناحية التي فيها رسول الله (ص)، وهو معرض عن رسول الله (ص) إجلالا له، فقال رسول الله (ص): نعم، قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء"، ورووا أن رسول الله (ص) قال لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة". وأخيراً قال اليهود: "يا محمد، ننزل على حكم سعد [ بن معاذ ]".
قال ابن إسحاق: ثم استنزلوا، فحبسهم رسول الله (ص) بالمدينة في دار بنت الحارث، امرأة من بنى النجار ، ثم خرج رسول الله (ص) إلى سوق المدينة ، التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج بهم إليه أرسالاً"، وقد كان يقتل من أنبت من الذكور[1].
وهذه الرواية تشتمل على الكثير من نقاط الريب، ما يدفع إلى التشكيك في العديد من جوانبها، وهذا ما سوف نتبينه في الوقفات التالية.
الوقفة الثانية: بين حكاية القرآن وحكاية المؤرخين!
ولعل أهم المفارقات التي تواجه الباحث هو أنّ حكاية القرآن الكريم لهذه الحادثة لا تنسجم كثيراً مع الرواية التاريخية لمجريات القضية، وهذا ما يثير الشك والريبة في مدى دقة الرواية التاريخية، فإنّ قضية بني قريظة قد سجّلها القرآن الكريم وتحدّث عنها في آيتين أوجزتا ما جرى، وذلك في سياق حديثه عما جرى في وقعة الأحزاب، والآيتان هما قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًاً} [ الأحزاب 26- 27].
ونزول هاتين الآيتين في قضية بني قريظة أمر لا شك فيه، وهو معروف ومشهور لدى المفسرين والمؤرخين[2].
إنّ الآيتين الكريمتين المتقدمتين لم تتحدثا عن مجزرة وذبح بدم بارد تعرضت لها تلك الجماعة التي ظاهرت المشركين وناصرتهم، ولم تشرْ إلى نزولهم على حكم أحد، ومن ثمّ تعرضهم لعملية إبادة شاملة وحكم بإعدام كافة الذكور الذين نبت الشعر على عاناتهم، وسبي للأطفال والنساء.. وإنما تحدثت الآيتان عن نهاية لتلك الجماعة ( بنو قريظة) وسيطرة المسلمين على أرضهم وأموالهم، أمّا مصيرهم - بحسب ما أشارت الآية الأولى - فلم يكن هو القتل العام والإبادة الشاملة بعد خضوعهم ونزولهم على حكم المسلمين، بل المستفاد من الآية الأولى أنّ قسماً منهم قد قتل، وقسماً آخر أسر، وهذه الآية وإن لم تحدد لنا طريقة القتل، وأنّه حصل أثناء المعركة أو أنه تمّت تصفيتهم بعد استسلامهم، لكن يمكن القول: إنّ مقابلة القتل للأسر توحي بأنّ الذين قتلوا لم يؤسروا، ما قد يرجح أنّهم قتلوا في معركة، ولو كان بنو قريظة كلهم قد نزلوا على حكم سعد، ومن ثمّ قتلوا بأجمعهم فلا
معنى لهذا التقابل بين القتل والأسر في الآية.
بعبارة أخرى: يستفاد من الآية أنّ القتل حدث بالموازاة مع الأسر، لا أنّه متفرِع عليه، كما تنص الرواية التاريخية، وعليه، فلا يمنع من أن تكون هناك معركة معيّنة قد نشبت مع بني قريظة وأسفرت عن قتل بعضهم وأسر آخرين، ولا تشير الآية إلى ما جرى مع الأسرى.
أضف إلى ذلك أنّ الأسر لا يكون إلا نتيجة معركة، بينما الرواية المشهورة تتحدث عما يشبه استسلام لبني قريظة ونزولهم على حكم سعد. وهذا النزول وما أعقبه من سبي الأطفال والنساء لا يعدّ أسراً، قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال-67].
ربما يقال: إنّ الآية تشي بأنّ القتل والأسر حصل بعد إنزالهم عن صياصيهم، فيكون مؤيدا لحصول الاستسلام دون قتال ثم حصول القتل والأسر. ولكن الظاهر أنّ إنزالهم من صياصيهم هو كناية عن هزيمتهم وتقهقر قوتهم والمتمثل والمتحقق بالقتل والأسر.
هذا ما يمكن فهمه من القرآن الكريم، ومن الطبيعي أنّ الرواية القرآنية هي الأدق والأصح، ولا يمكننا أن نثق بما يخالفها.
الوقفة الثالثة: محاولة توجيه الرواية التاريخيّة
بالعودة إلى ما تضمنته الرواية التاريخية، والتي أثارت عاصفة من الإشكالات، لجهة أنّ الحكم بقتل الذكور المقاتلين من بني قريظة قد رأى فيه الكثيرون قسوة غير مبررة، بل إنّ بعض الباحثين الغربيين وصفه بأنه حكم "وحشي وغير إنساني"[3]، ولذلك فقد اتجه بعض العلماء إلى إعطاء توجيه أو تبرير له يخرجه عن هذه الغرابة، وتحدثوا عن عدالة الحكم المذكور، وهذا ما توضحه النقاط التالية:
1- أنّ الحكم ليس فيه وحشيّة ولا هو منافٍ للقيم الإنسانية والدينية، لأنّ الأجواء كانت أجواء حرب، ولا شكّ أنّ المعركة مع بني قريظة لها ما يبررها، فهم قد نقضوا العهد الذين أعطوه لرسول الله (ص)[4] ومزقوا الصحيفة التي فيها العهد المذكور[5]، دون مبرر أو سبب، مع أنّهم لم يروا من رسول الله (ص) إلا الصدق والوفاء كما اعترف بذلك ساداتهم[6]، وانضمّوا إلى تحالف الأحزاب في إعلان الحرب على الإسلام، وانضمامهم هذا لم يكن ليزيد في قوّة حلف الأحزاب فحسب، بل كان يشكّل خطراً يهدد الكيان الإسلامي برمته، فقد أصبح ظهر المسلمين مكشوفاً وغدت الجبهة الخلفية للمسلمين مكشوفة، وعيال المسلمين من النساء والأطفال تحت رحمة يهود بني قريظة[7]. وعندما بلغ الخبر إلى المسلمين أنّ بني قريظة نقضوا عهدهم، وجدوا أنفسهم وقد أحيط بهم، قال ابن إسحاق: "وعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظنّ المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن قشير، أخو بني عمرو بن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط !"[8]. وهو يشير بذلك إلى الآيات النازلة في هذه الوقعة وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب 9 – 11]، إنّه وبعد غدر بني قريظة وتنصلهم من العهد والاتفاق الذي كان مبرماً بينهم وبين رسول الله (ص)، حيث أعلنوا ذلك بشكل واضح لوفد رسول الله (ص) إليهم الذي كان على رأسه السعدان (سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة) والذي ذكّرهم عهدهم أعطوه لرسول الله (ص)، فأجابوا الوفد: "من رسول الله ؟! لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد"[9]. بعد هذا كله لم يعد ممكناً للنبي والمسلمين أن يطمئنوا إلى هؤلاء وعهودهم ومواثيقهم، ولا أن يأمنوا جانبهم. ولم يقف الأمر عند نقضهم العهد، فقد حاول يهود بني قريظة مباغتة المدينة، ما دفع النبي (ص) بعد أن استشعر بالأمر إلى إيكال أمر حمايتها إلى خمسمائة مقاتل من المسلمين[10]. وقد حصلت بينهم وبين اليهود بعض المناوشات، فقد تسللت مجموعة من بني قريظة قوامها أحد عشر رجلاً من أشدائهم إلى أطراف المدينة فتصدى لهم بعض المسلمين وردوهم على أعقابهم[11]. إنّ ما فعله يهود بني قريظة يمثّل ويعدّ - في قواميس الحرب وأعرافها - خيانة عظمى وجريمة حرب، والقتل في مثل هذه الحالات هو العقاب الطبيعي والمتعارف لهم، ولهذا كله لم يجد سعد بن معاذ بداً من أن يصدر فيهم هذا الحكم مع أنّهم حلفاء قبيلته.
2- إنّ الحكم المذكور - كما قيل - هو حكم التوراة في مثل هذه الحالات، فسعد بن معاذ قد ألزمهم بما ألزموا به أنفسهم ودانهم بنصّ التوراة التي يؤمنون بها، فقد جاء فيها: "إذا خرجت للحرب على عدوك.. فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك، بل عملت معك حرباً، فحاصرْها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضربْ جميع ذكورها بحد السيف، وأمّا النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا"[12].
3- إنّ يهود بني قريظة بعد انتهاء معركة الأحزاب لصالح المسلمين، ظلوا على عتوّهم وجبروتهم فرفضوا النزول على حكم النبي (ص)، واقترحوا بعد طول حصار لهم أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ[13]، ولو أنّهم تفيّأوا ظلال عفوه (ص) ونزلوا بساحل كرمه لعفى عنهم وتجاوز عن قبيح فعالهم، فالعفو عند المقدرة كان من سجاياه المعروفة، والتسامح والغضّ عن السيئات كان من أخلاقه النبيلة، لقد كان العفو سجيته العامة مع من هم أشد فتكاً وخبثاً من اليهود، كما هو الحال في مشركي مكة الذين آذوه وطردوه وحاصروه، ولكن بني قريظة رفضوا التسليم للنبي (ص) واختاروا طريقاً آخر، حيث أمّلوا بأن يكون حكم سعد فيهم متسامحاً معهم، فسعد هو سيد الأوس وقد كان يربطهم بالأوس حلف في الجاهلية[14].
الوقفة الثالثة: إشكالات لا تقبل التوجيه
إنّ الرواية الرسميّة لما جرى وعلى الرغم مما ذكرناه في محاولة توجيهها تعترضها العديد من علامات الاستفهام، ما يبعث على التشكيك في صحتها بكل تفاصيلها، ما يعني في الحد الأدنى أنّ للتوقف في صحة تلك الرواية مجالاً واسعاً، وملاحظاتنا الأساسية على الرواية المتداولة والمشهورة لحادثة بني قريظة، بالإضافة إلى ما تقدم، حول عدم انسجامها مع ما جاء في القرآن الكريم، نوجزها فيما يلي:
1- إن الروايات حول هذه القصة لا يمكننا الوثوق بها، وذلك لأنها غير نقية السند، ناهيك عن الإشكالات الواردة على مضامينها مما ستأتي الإشارة إليه.
وربما يقال: إنّ قصة هذه المقتلة قد أجمع الفريقان ( السنة والشيعة) على روايتها فلا مجال للتشكيك في سندها.
والجواب: إنّ سند الروايات الشيعية الواردة حول هذه المقتلة لا يمكن التعويل عليه بوجه، إمّا لأنّه ينتهي إلى بعض المتهمين بالكذب أو بعض المجاهيل، أو لأنّها مرسلة[15]. والروايات المروية من طرق السنة لا يخلو سندها من إشكالات، ولا سيّما ما ينتهي إلى أحد بني قريظة[16].
2- إنّ نزول بني قريظة على حكم سعد ورضاهم بهذا الحكم أياً كان، يدفع ما قد يطرح من إشكال حول قتل الأسرى، لكنّه يوقعنا في إشكال آخر وهو أقرب إلى الإشكال الأخلاقي، وهو أنّ نزولهم على حكم سعد لا يتضمن تسليم أنفسهم للقتل ذبحاً كما تذبح الخراف، فليس ثمّة عاقل يقبل بذلك، بل يموت والسلاح بين يديه، فهم ربما كانوا شبه مطمئنين بأنّ سعداً سوف يرأف بحالهم أو على الأقل كان لديهم أملٌ كبير بذلك، وعليه فيكون حكم سعد - لو صحت الروايات في ذلك - بذبح الرجال جميعاً في منتهى القسوة، وفيه شيء من الفتك والغدر بهم، ما يستبعد جداً موافقة النبي (ص) عليه، وهو القائل فيما روي عنه : " الإسلام قيد الفتك"[17]. وفي خبر آخر عنه (ص) :"إنّ الايمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن"[18].
3- على أنّ الرواية المتداولة تنسب إلى المسلمين أنّهم قتلوا كل ذكر بالغ سواء قاتل أو لم يقاتل، وسواء كان شاباً محارباً أو شيخاً كبيراً أو فتى صغيراً ولو في أوائل البلوغ، وكانوا يعرفون البلوغ من خلال إنبات الشعر[19]، وثمّة أسئلة ترد هنا من قبيل:
أ- أنه إذا كان هناك مبرر لقتل الشباب المقاتلين فما المبرر لقتل الشيوخ؟! (والشيوخ كانوا حتماً موجودين، فنحن عندما نتحدث عن جماعة يكاد عدد رجالها الذين قتلوا يلامس الألف طبقاً لبعض الروايات فهذا يعني أن هذه الجماعة كان فيها العشرات من الشيوخ والمسنين) والحال أنّ الحرب في الإسلام لها قوانينها الأخلاقية ومن هذه القوانين تجنب قتل الشيوخ، كما جاء في وصايا النبي (ص) للمقاتلين المسلمين عندما كان يرسلهم في الغزوات[20]، أيعفى عن الشيخ في المعركة الضروس بعد تحقق النصر، ويقتل صبراً في حال قبل النزول على حكم المسلمين دون معركة راجياً العفو ومتأملاً الصفح؟!
ب- ومن قبيل أنه هل كل أولئك الفتية الذين نبت الشعر على عاناتهم للتو مشاركين في الحرب ونقض العهد وخيانة المسلمين والغدر بهم؟! إنّ هذا أمر مستبعد للغاية، ففي العادة لا يكون هؤلاء الفتية الذين راهقوا البلوغ أصحاب رأي ولا لديهم بأجمعهم استعداد لخوض الحرب فضلاً عن أن يكون لهم دور في نقض العهود أو المساهمة والمشاركة في الغدر والخيانة، وإنما يفعل ذلك بعض كبرائهم وساداتهم[21]، وعليه، فليس ثمّة مبرر إلا لقتل من اشترك في الخيانة والعدوان ونقض العهود فقط، وأمّا البقيّة ومنهم الشيوخ والعجزة والفتية الصغار فلا مبرر لقتلهم؟ ألا يعدّ قتلهم حينئذٍ ظلماً ومنافًياً لقاعدة العدل القرآنية: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [النجم 38]؟! وفي الحدّ الأدنى ألا يعدّ ذلك منافياً لأخلاقيات النبي الكريم (ص) التي عرف بها، وهو المشهور بالعفو والصفح عمّن أساء وظلم؟!
4- ومما يزيد في الطين بلّة ويفاقم من مستوى التشكيك في الرواية المتداولة لهذه الحادثة، أنّها تنسب إلى النبي (ص) أنّه سبّ اليهود! وقال لهم:" يا إخوة القردة والخنازير وعبدة الطواغيت أتشتمونني قال: فجعلوا يحلفون بالتوراة التي أنزلت على موسى: ما فعلنا ! ويقولون: يا أبا القاسم ما كنت جهولاً!"[22]. وقد أثّرت كلمتهم تلك في نفس النبي (ص) فاستحيى ورجع القهقرى[23]، وفي بعض الأخبار أنّه "سقط الرداء من ظهره حياء مما قاله!"[24]. إنّ رسول الله (ص) صاحب الخلق الرفيع، الذي امتدحه به ربه، إذ قال له: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم 4]، والمعروف بنبله هو أجلّ من أن يفقد تماسكه وتوازنه وينحدر إلى مستوى الرد على الشتيمة بمثلها، وهو الذي خوطب بأن يعرض عن الجاهلين، وأن يدفع بالتي هي أحسن..
5- أين بنو قريظة: ثمّ إنّ ثمة تساؤلاً يفرض نفسه في المقام، وهو أنّه إذا كان الذين قتلوا من بني قريظة هم بالمئات، فإنّ العدد الذي يفترض أن يكون السبايا والأسرى الذين استعبدوا عدداً كبيراً يزيد على هؤلاء فأين بيعوا وأين ذهبوا...!؟ قد لا نجد جواباً مقنعاً على ذلك ما يبعث على مزيد من التشكيك في الحادثة، ويؤشر إلى المبالغات التي اكتنفتها.
6- وربما شكك البعض بالحادثة، من زاوية ما روي عن قتل الأسرى، وهو أمر مستغرب ومرفوض، ولا يعقل إقدام النبي (ص) عليه، لأنّ القرآن الكريم وضع قاعدة في التعامل مع الأسرى وهي المنّ أو الفداء، قال تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد 4].
أقول: لو أننا قبلنا الرواية، وغضينا الطرف عمّا مضى، فهذا التشكيك يمكن الرد عليه، وذلك لأنّ اليهود هم الذين قبلوا بتحكيم سعد بن عبادة ورضوا بحكمه أياً كان، ورفضوا النزول على حكم النبي (ص) مع أننا على يقين لو أنهم نزلوا على حكمه لعفى عنهم، فالقضية لم تعد مندرجة في نطاق حكم الأسرى، وإلا لتمّ التعامل معهم كما تعامل النبي (ص) مع أسرى بدر أو غيرها، ولم يذكر التاريخ أنّ النبي (ص) قتل أسيراً إلا في حالات خاصة كان بعض الأشخاص مستحقون للقتل بأسباب أخرى كالإفساد في الأرض، كما جرى مع بعض الأشخاص يوم فتح مكة.
الوقفة الرابعة: الرأي الأقرب: قتل من حزّب منهم
ولكنّ الإنصاف يدفعنا إلى القول: إنّ الملاحظات المتقدمة في الوقفة الثالثة لا توجب تكذيب الحادثة من أصلها، وإنما تبعث على التشكيك في تفاصيل تلك الرواية المشهورة، وتدفع إلى ترجيح ما ذكره بعض المؤرخين من أن سعد بن معاذ إنّما حكم أن "يقتل من حزّب منهم عليه.."[25]، ولم يقتلهم جميعاً، والذين حزبوا هم - بحسب العادة - رؤوس القوم وذوي الرأي والبأس فيهم، وليس كل الرجال الذين قيل: إنّ عددهم بلغ تسعمائة وقيل أقل من ذلك، يقول ابن إسحاق إنّ عددهم بلغ " ستمائة أو سبعمائة، والمكثر لهم يقول: كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة"[26]، ويذكر بعضهم أنّ عددهم كان أربعمائة[27]، وإنّ هذا التضارب الكبير حول عددهم هو عنصر آخر يثير الريبة، ولا يتسنى لنا فهمه إلا على أساس المبالغة التي تحصل في مثل هذه الحالات، حيث إننا نلحظ ميلاً ورغبة - لدى المنتصرين - بتعظيم الإنجازات من خلال الإكثار من أعداد قتلى عدوّهم أو تضخيم بطولاتهم. وهذا ما يؤكده لنا تاريخ الحروب في الماضي والحاضر، فالمبالغات فيها معروفة[28].
ومما يشهد إلى أنّ عدد المقتولين لم يصل إلى المئات كما قيل، بل كان قليلاً ولعله لم يتجاوز المائة، أنّ رواية ابن إسحاق[29] تنصّ على أنّه بعد استسلام يهود بني قريظة ونزولهم على حكم سعد بن معاذ، أُخذوا وحُبسوا في دار بنت الحارث ( وهي امرأة من بني النجّار)، وعليه فلو كان عددهم على ما فهل يعقل أن تضمَ دار بنت الحارث هذا العدد الكبير من الرجال، ولا سيما بملاحظة بيوت ذلك الزمان ؟! إنّ هذا أمر مستبعد للغاية.
وعلينا أن نأخذ بالحسبان ونحن نتحدث عن عدد القتلى أنّه من غير المستبعد أنّ يكون عدداً من بني قريظة قد اختاروا الإسلام بعد أن صدر فيهم قرار سعد بن معاذ، وقد روي أنّ بعضهم "لحقوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فآمنهم وأسلموا"[30].
الشيخ حسين الخشن
[1] السيرة النبوية ج 2 ص 717 – 719.
[2] جامع البيان عن تأويل آي القرآن ج 21ص ،181، وتفسير القمي ج 2 ص 189، والسيرة النبوية ج 2 ص 725، 726.
[3] محمد في المدينة ص 327.
[4] فقد نقض سيدهم كعب بن أسد عهده وبرىء مما كان أعطاه لرسول الله من العهد عدم المشاركة أو التأييد، انظر: السيرة النبوية ج2 ص 705.
[5] البداية والنهاية لابن كثير ج 4 ص 119.
[6] هذا ما قال كعب بن أسد سيد بني قريظة وزعيمهم عندما جاءه حيي بن أخطب طالباً منه الانضمام إلى المعركة ضد المسلمين، انظر: السير النبوية ج 2 ص 705.
[7] السيرة النبوية ج 2 ص 710.
[8] السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 704.
[9] السيرة النبوية ج 2 ص 705.
[10] ففي مغازي الواقدي:"همت بنو قريظة أن يغيروا على بيضة المدينة ليلاً فأرسلوا حيي بن أخطب إلى قريشٍ أن يأتيهم منهم ألف رجلٍ ومن غطفان ألف فيغيروا بهم . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر بذلك فعظم البلاء فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث سلمة بن أسلم بن حريش الأشهلي في مائتي رجل وزيد بن حارثة في ثلاثمائة يحرسون المدينة ويظهرون التكبير ومعهم خيل المسلمين فإذا أصبحوا أمنوا . فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: لقد خفنا على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشد من خوفنا من قريشٍ وغطفان.. فكان مما رد الله به قريظة عما أرادوا أن المدينة كانت تحرس". المغازي للواقدي ج 1 ص 460.
[11] قال الواقدي:" خرج نباش بن قيس ليلةً من حصنهم يريد المدينة ومعه عشرةٌ من اليهود من أشدائهم وهم يقولون : عسى أن نصيب منهم غرة . فانتهوا إلى بقيع الغرقد فيجدون نفراً من المسلمين من أصحاب سلمة بن أسلم بن حريش فناهضوهم فراموهم ساعةً بالنبل ثم انكشف القريظيون مولين . وبلغ سلمة بن أسلم وهم بناحية بني حارثة فأقبل في أصحابه حتى انتهوا إلى حصونهم فجعلوا يطيفون بحصونهم حتى خافت اليهود"، أنظر: مغازي الواقدي ج 1 ص 462.
[12] التوراة سفر التثنية، الإصحاح العشرون.
[13] السير النبوية ج 2 ص 718.
[14] السيرة النبوية ج 2 ص 717.
[15] أمّا الذي ينتهي إلى بعض الكذابين، فهو ما رواه الحميري يسنده عن أبي البختري وهب بن وهب، انظر: قرب الإسناد للحميري ص 133. والبعض الآخر يقع في سنده المجاهيل وهي ما رواه الشيخ في الأمالي ص 391. وأما روايتها مرسلة فنلاحظها عند المفيد في الإرشاد ج 1 ص 109، وما بعدها، وهكذا فقد رواه القمي في التفسير دون أسناد ولا نسبة لأحدٍ الأئمة (ع)، أنظر: نفسير القمي ج 2 ص 189
[16] أنظر: سنن الدارمي ج 2 ص 223.
[17] انظر: المجازات النبوية ص 356، وفي الحديث عن أبي عبد الله (ع):" نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن الفتك"، ثم قال (ع): " إن الاسلام قيد الفتك"، انظر: تهذيب الأحكام ج 10 ص 214. والكافي ج 7 ص 375.
[18] مسند أحمد ج 1 ص 166، وسنن أبي داوود ج 1 ص 631.
[19] قال ابن إسحاق:" وكان رسول الله (ص) قد أمر بقتل من أنبت منهم". أنظر: السيرة النبوية ج 2 ص 721.
[20] ففي الموثق عن عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا بعث سرية دعا أميرها فأجلسه إلى جنبه واجلس أصحابه بين يديه ثم قال : سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقطعوا شجرة إلا أن تضطروا إليها ، ولا تقتلوا شيخا ولا صبيا ولا امرأة ، فأيما رجل من أدنى المسلمين وأفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار له حتى يسمع كلام الله ، فان تبعكم فأخوكم في دينكم وان أبى فاستعينوا بالله عليه وأبلغوه مأمنه" انظر : تهذيب الأحكام ج 6 ص 139، ونحوه في الكافي ج 5 ص 27، وفي سنن أبي داوود بإسناده عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ، ولا تقتلوا شيخا فانيا ، ولا طفلا ، ولا صغيرا ، ولا امرأة ، ولا تغلوا ، وضموا غنائمكم ، وأصلحوا ، وأحسنوا {إن الله يجب المحسنين} [ ]، انظر: سنن أبي داوود ج 1 ص 589 ..
[21] أجل إنّ بعضهم كانوا كذلك، أمثال كعب بن أسد زعيم بني قريظة، انظر ما رواه الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة ص 198حول أمر النبي (ص) بقتله. ومثله حيي بن أخطب، وهو أحد زعماء اليهود من بني النضير، وهو الذي ذهب إلى قريش وألّبها ضد النبي (ص) كما أنّ الذي عمل بكل جهده لإقناع كعب بن أسد القرظي بنقض العهد، انظر: السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص700.
[22] السيرة النبوية ج 2 ص 714، المغازي للواقدي ج 1 ص 500،
[23] الإرشاد ج 1 ص 111.
[24] تفسير القمي ج
[25] الوفا695، وتبناه بعض العلماء المعاصرين، انظر: الصحيح من السيرة ج 12 ص 88.
[26] السيرة النبوية ج 2 ص 719.
[27] سنن الترمذي ج 3 ص 72.
[28] فعلى سبيل المثال نجد أنّه في حرب الجمل تختلف الآراء، فعن "ابن أعثم في تاريخه: قتل من جيش علي ألف وسبعمائة ومن أصحاب الجمل تسعة آلاف. وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد: قتل يوم الجمل من جيش عائشة عشرون ألفا، ومن أصحاب علي خمسمائة. وفي تاريخ اليعقوبي: قتل في ذلك نيف وثلاثون ألفاً"، أنظر: أحاديث أم المؤمنين عائشة 1 ص 251.
[29] السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 719.
[30] صحيح البخاري ج 5 ص 22، وسنن أبي داوود ج 2 ص 34.