وقد سئلت مؤخراً عن هذا الأمر وأجبت عليه إجابة مختصرة، ولكنني أحببت إيلاء هذا الموضوع حقه، لأنه يتصل بشكل وثيق بتصورنا العقدي حول شخصية المعصوم ووظيفته ودوره في الحياة.
ومع أنّ بعض العلماء قد ذهب إلى تبني هذا الرأي، وهو توسيع صلاحيات النبي(ص) لتشمل الجان، مضافاً إلى الإنس، وعلى رأس هؤلاء العلامة الحلي حيث قال في كتابه الشهير الكلامي" شرح تجريد الإعتقاد" : "وسورة الجن تدل على بعثته (ص) إليهم".1
لكن الظاهر أنّ هذا الرأي لا يخلو من علامات استفهام متعددة، إذ ليس هناك أدلة صحيحة ومقنعة تثبت أنّ الأنبياء(ع)، مرسلون للجان، كما هم مرسلون للإنس، بل إنّ الشواهد المختلفة تدلل على أنّ الأنبياء أرسلوا لبني الانسان فقط، وفيما يلي نبين هذ الأمر من خلال النقاط التالية:
دراسة المسألة على ضوء القرآن الكريم:
أولاً: نلاحظ أنّ القرآن الكريم يتحدث عن أنّ النبي(ص) مرسل لبني الإنسان، {وما أرسلناك إلا للناس كافة بشيراً ونذيراً}، وهكذا الحال في سائر الأنبياء، قال تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ..}، وكلمة "الناس" يراد بها الإنسان فقط، دون الجن ، كما هو مدلولها العرفي، وتقتضيه أيضاً قرينة المقابلة في قوله تعالى في سورة الناس: {من الجنة والناس}، فإنّ العطف ظاهر في المغايرة. ولم نجد في آية من الآيات القرآنية ما يدل على أنّ نبياً من الأنبياء (ع) قد أرسل إلى الجن ليكون نبيا لهم وحجة عليهم.
وهكذا نجد أنّ الله تعالى يحدثنا في العديد من آياته أنّ القرآن الكريم هو رسالة للناس وحجة عليهم، وليس هناك ما يشير إلى أنّه رسالة للجان أيضاً، أوأنهم ملزمون باتباعه، قال تعالى: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل}.
أجل كون القرآن رسالة الله إلى الإنس لا يمنع من استفادة الجن من هديه وتعاليمه وإرشاداته ودروسه التي تتناغم مع الفطرة والوجدان، وتدعو إلى الارتباط بالله وحده، ورفض الشرك والبغي والعدوان.. إلى غير ذلك من التعاليم التي يشترك في الإفادة منها الإنس والجان،. ولا سيما أنّ الجن مكلفون، كما الإنس، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون}.
وإن سألت: إنّ الله تعالى قد حدثنا في كتابه في سورة "الجن" عن استماع نفر من الجن إلى رسول الله (ص) وذهابهم إلى قومهم وإبلاغهم بهذا الأمر وإيمان بعضهم به، أفلا يدل هذا على أنّه (ص) مرسل إليهم؟
قلت في الجواب: إنّ هذا لا يدل بوجه على أنه (ص) كان مرسلاً إليهم، أو أنّ من وظيفته أن يبلِّغهم الرسالة الإسلامية ووحي السماء، كما كان مكلفاًّ بتبليغها إلى بني الإنسان، بل إنّ قوله تعالى في مستهل سورة الجن: {قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنّا سمعنا قرآنا عجباً}، يوحي بأن النبي(ص) لم يكن على اطلاع أو معرفة باستماعهم إلى ما يتلوه من كتاب الله تعالى حتى أخبره الله بذلك وأطلعه عليه، فلو كان رسولاً إليهم فمن الضروري أن يخبره الله في بادىء الأمرعمّن أُرسل إليهم ومن يدخل في نطاق دعوته.
وأما قول بعض الجان لما استمعوا لآيات القرآن: "فآمنا به"، فهو أيضاً لا يدل على أن إيمانهم ناشىء عن كونه(ص) مرسلاً إليهم، بل غاية الأمر أنّهم لما استمعوا إلى الهدى وحقائق الإيمان التي تضمنتها آيات القرآن - وكان ذلك في المرحلة المكية حيث نزلت سورة الجن- أذعنت لها نفوسهم وآمنوا بها، لأنها حقائق وجودية ولا ختص هديها بالإنس دون الجن.
وإنّ سألتني: ماذا عن الجن الذين سخرهم الله تعالى لبعض أنبياءه، وهو سليمان(ع)، قال تعالى حاكياً عن لسان سليمان(ع): {قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب* فسخرنا له الريح تجري بأمره رُخاءً حيث أصاب* والشياطين كل بناء وغواص* وآخرين مقرنين في الأصفاد* هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب*}(ص 35- 39).
وفي موضع آخر يقول تعالى: {ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يَزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء... فلما قضينا عليه الموت ما دلّهم على موته إلاّ دابة الأرض تأكل منسأته فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} (سبأ 21- 14).
والجواب: إنّ هذه الآيات لا يستفاد منها أنه كان مرسلاً إليهم، لأنها تتحدث عن أن الله سخّر بعض الجن لنبيه سليمان، لكنّ التسخير لا يعني أنه كان مرسلاً إليهم، كما هو مرسل لبني الإنسان، فإنّ التسخير يعني أنّ له عليهم ما يشبه السلطة التكوينية، وأنهم منقادون لأمره وإرادته، ولذا قال تعالى: {وآخرين مقرنين في الأصفاد}، أما النبوّة فهي سلطة تشريعية وليست تكوينية، ولذا يمكن لأتباع النبي(ص) أن يتمردوا على أوامره ورسالته، وأما الجن فكانوا جنوداً مقهورين لإرادة النبي سليمان(ع).
ومما يؤيد ما نقول من أنه لم يكن رسولاً إليهم: أن المستفاد من الآيات أنّ المسخرين لسليمان (ع) هم بعض الجن وليس جميعهم، لأنّ الآيات الأولى المتقدمة تذكر تسخير "الشياطين" له، والشياطين كما هو معلوم هم طائفة من الجن، والآيات الأخرى تذكر أنّ "من الجن من يعمل بين يديه" و"مِن" تفيد التبعيض، ولذا نُقل عن ابن عباس أنه قال: "وفي هذا دلالة على أنه قد كان من الجن من هو غير مسخر له"2.
دراسة المسألة في ضوء أحكام العقل
ثانيا: لو قاربنا المسألة من زاوية عقلية لأمكننا القول: إنّ مقتضى الحكمة أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم، لأنه بغير ذلك لن تتحقق إقامة الحجة عليهم بشكل تام، ولا تنقطع أعذارهم وحججهم، ولا سيما أنّ الرسول ليس مجرد ساعي بريد يوصل الرسالة وينتهي دوره، بل إنه قدوة للناس ومثلٌ أعلى لهم، يخالطهم ويخالطونه، ويعيش معهم ويتحسس الآمهم وهمومهم، ولهذا فليس منطقيا أن يكون المرسل إلى بني الإنسان من جنس الملائكة أو الجن، لأنه بذلك لا تقوم الحجة على الأنس، إذ لهم أن يحتجوا بأنّ هذا الرسول ليس من جنسنا، وإنما هو من جنس مختلف وهو يملك من الطاقات والقدرات ما لا نملك، ولا يمكننا بالتالي الاقتداء به، والعكس أيضاً صحيح، أي أنه ليس منطقياً أن يكون المرسل إلى الجان من جنس البشر، لنفس السبب المتقدم، وهو أنه لا تقوم بذلك الحجة الكافية على الجن، وعلى ضوء هذا، فمن المفترض أن يكون هناك رسل إلى الجان كما أنّ هناك رسلاً إلى الإنسان، وهذا ما يُستفاد من قوله تعالى: {يا معشر الجن والأنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم أياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا..}. فإنّ ظاهر قوله "رسل منكم" أنّ الرسل هم من الجنسين.
وما يقال عن النبي(ع) في هذا المجال يقال بعينه عن الإمام.
دراسة المسألة على ضوء السنة
ثالثا: إنه وبملاحظة سيرة الأنبياء (ع) ولا سيما خاتمهم (ص)، وهكذا ملاحظة سيرة الأئمة من أهل البيت(ع) لا نجد ما يشهد لقيامهم بواجب الدعوة والتبليغ مع الجان، أو أنّ الجان كانوا يأتون المعصوم ويخطب فيهم ويعلمهم، ويبين لهم شرائع دينهم، أو أنّه كان يغيب أياماً أو ساعات للإختلاء بالجن وحلِّ مشكلاتهم ومواجهة الفسقة أو الكفرة منهم، إلى غير ذلك مما يقتضيه واجب الدعوة والرسالة على فرض كونه مرسلاً إليهم. إن الروايات والمصادر التاريخية لا تتحدث عن شيء من ذلك باستثناء ما قد يرد في بعض أخبار الآحاد التي لا تنهض لإثبات هذا الأمر وهذا الدور الكبير والخطير.
هذا فيما يتصل بالسيرة العملية للرسل(ع)، وكذا الأئمة (ع)، وأمّا الأخبار ذات الصلة فليس لدينا ما يفي بتأكيد إرساله(ص) إلى الجن ، أجل لدينا بعض الروايات التي قد يستدل بها لإثبات هذا الأمر، وهي :
الأولى: ما رواه الشيخ المفيد في الإرشاد عن ابن عباس من أنّ نفراً من الجن أضمروا الكيد لرسول الله (ص) وإيقاع الشر بأصحابه، فدعى أمير المؤمنين (ع) وأرسله لقتالهم مستعيناً عليهم بالقوة التي أعطاه الله إياها، ومتحصناً منهم بأسماء الله تعالى، وأنفذ (ص) معه مائة رجل، ليكونوا إلى جانبه ويمتثلوا أمره، فذهب الإمام (ع) إلى وادي الجن "وهو يتلو القرآن عليهم ويومي بسيفه يميناً وشمالاً"، حتى قضى عليهم .
ويلاحظ على ذلك بأنّ هذا الخبر – لو صح سنداً - فإنّه لا يدل على أنّ النبي (ص) كان مرسلاً إليهم، أو أنه أرسل علياً (ع) لقتالهم، لأنهم رفضوا الإيمان به، وما جاء في نهاية القصة من أنّ الذين بقوا منهم جاؤا إلى النبي (ص) فأسلموا، ليس ظاهراً في المدعى أيضاً، بل غايته أنّ هؤلاء الذين كادوا له وأضمروا الشر جاؤا إليه – بعد إرساله علياً (ع) لقتالهم- معلنين انقيادهم له وإسلامهم واتباعهم لأمره، وعدم التمرد عليه.
الثانية: ما ورد في الحديث عن أبي جعفر(ع): "إنّ الله أرسل محمداً(ص) إلى الجنّ والإنس وجعل من بعده أثنتي عشر وصياً.."5.
إلاّ أنّ هذا الحديث لا يمكن الركون إليه في إثبات هذه المسألة، لجهالته سنداً كما وصفه المجلسي في مرآة العقول،6 والظاهر أنّ جهالته هي بسبب اشتماله على محمد بن الفضيل المشترك بين الثقة وغيره، وبصرف النظر عن ضعف الحديث سنداً، فهو لا يصلح لاثبات هذا الدور الكبير للنبي، ولا يمكن بناء عقيدة دينية وهي "الإيمان بأنّ النبي مرسل إلى الجن" على أساس الخبر الواحد حتى لو كان صحيحاً، فكيف إذا لم تثبت صحته! بل كان غير منسجم مع حكم العقل مما سبق بيانه.
االثالثة: ما جاء في رواية أخرى تتضمن سؤال رجل شامي لأمير المؤمنين(ع) قائلا: "هل بعث الله نبياً إلى الجنّ؟ فقال(ع) : نعم، بعث إليهم نبياً يقال له يوسف فدعاهم إلى الله عز وجل فقتلوه". 7
إلاّ أنّ هذا الحديث لا دلالة فيه على المطلوب، لأنه يفيد أنّ ثمة نبياً وحيداً أرسل إلى الجن، وهذا معناه أنّ سائر الأنبياء ومنهم نبينا محمد (ص) لم يرسلوا إليهم، وكون هذا النبي والمرسل إليهم الذي أسمته الرواية بـ "يوسف" من جنس الإنس غير واضح، فإنّ نبي الله يوسف بن يعقوب(ع) كان رسولاً للناس بكل تأكيد، ولم يكن رسولا إلى الجن بحسب ما بلغنا من قصته في القرآن الكريم .
وفي ضوء ما تقدم، فلا بد لنا أن نرسم علامة استفهام كبيرة إزاء بعض الكلمات التي تتحدث عن أن الرسول(ص) أو الإمام علي(ع) هو إمام للإنس والجان،3 وقد نظم هذا المعنى بعض الشعراء، ويقال إنه الإمام الشافعي4 فقال:
علي حبه جنة قسيم النار والجنة
وصي المصطفى حقاً إمام الإنس والجنة .
ولا نستبعد أنّ هذا التعبير "إمام الإنس والجن" لا يراد به المعنى المتبادر من لفظ الإمام، بحيث يكون الإمام(ع) مكلفاً بإمامة الجن والإنس على السواء، وإنما استخدم هذا التعبير للدلالة على مكانة الإمام وعظيم مكانته وأهليته لذلك، وإن لم يكن ذلك داخلاً في مسؤوليته الفعلية.
الشيخ حسين الخشن