منذ الصغر ونحن نسمع أن الذي عبس وتولى هو رسولنا الأكرم والرواية لابن كثير في تفسيره (ذكر غيرُ واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما يخاطبُ بعض عظماء قريش، وقد طَمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابنُ أم مكتوم - وكان ممن أسلم قديما - فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ويلح عليه، وودَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل؛ طمعا ورغبة في هدايته. وعَبَس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه، وأقبل على الآخر، فأنزل الله عز وجل: عَبَسَ وَتَوَلَّى ...).
هناك من يرفض هذا التفسير خاصة من علماء أهل البيت إلا أن التشكيك المضاد في رواياتهم وهو تشكيك بغير أساس يدفعنا إلى التأمل في النص القرآني لنعرف من عبس ومن تولى وهل يمكن أن يكون رسولنا الأكرم هو من ارتكب هذه الخطايا والعياذ بالله؟!.
لا يكتفي المتعلقون بأهداب النصوص ممن لا عقل لهم بنسبة هذه المنقصة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بل يضيفون إليها أن الرسول الأكرم ليس معصوما من الخطأ وإلا لما عاتبه ربه هذا العتاب القارص وأن عصمته قاصرة على تبليغ الوحي إلى آخر تلك الهذيانات التي أدمنها القوم ولا يمكنهم العيش دون اجترارها.
هل حاول أي من هؤلاء التفكر والتدبر في آيات الله ليخرجوا بمعنى يفيدهم في دنياهم وأخراهم وكأن القرآن نزل لتأديب رسول الله الذي وصفه رب العزة (وإنك لعلى خلق عظيم) وهو من اكتملت أخلاقه وصفاته قبل أن يبعث رحمة للعالمين؟!.
هل حاول أي من هؤلاء الربط بين أول السورة ووسطها وآخرها كي يفهم الخطاب الموجه لهذا (الإنسان) وما احتواه من إنذار شديد (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) ولفت انتباهه (فلينظر الإنسان إلى طعامه) ونهايته البائسة (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) عبس 41-42، قبل أن يطلقوا على رسول الله قذائفهم السامة؟!.
معنى عبس
يقول ابن منظور في لسان العرب: عَبَسَ يَعْبِسُ عَبْساً وعَبَّس: قَطَّبَ ما بين عينيه، ورجل عابِسٌ من قوم عُبُوسٍ. ويوم عابِسٌ وعَبُوسٌ: شديدٌ؛ ومنه حديث قُس: يَبْتَغِي دَفْعَ بأسِ يَومٍ عَبُوسٍ؛ هو صفة لأَصحاب اليوم أَي يوم يُعَبَّسُ فيه فأَجراه صفة على اليوم كقولهم ليل نائم أَي يُنام فيه. وعَبَّسَ تَعْبِيساً، فهو مُعَبِّسٌ وعَبَّاسٌ إِذا كَرَّه وجهه، شُدِّدَ للمبالغة، فإِن كَشَر عن أَسنانه فهو كالِحٌ، وقيل: عَبَّسَ كَلَحَ. وفي صفته، صلى اللَّه عليه وسلم: لا عابِسٌ ولا مُفْنِدٌ.
العبوس مرحلة تسبق التكشير عن الأنياب تمهيدا للالتهام، أي أنه ليس مجرد تكشير للوجه أو إحساس عابر بالضيق اعترى رسول الله بسبب انزعاجه من إلحاح ابن أم مكتوم عليه بالسؤال كما يحاول هؤلاء إقناعنا بل إعلان بالعداوة ودونكم قول الله تبارك وتعالى (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) الإنسان 10-12.
إنها ذات الوجوه التي وصفتها نفس السورة (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)!!!.
عابس آخر في القرآن!!
في سورة المدثر يصف القرآن أحد أعداء الله عز وجل (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا*ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ) المدثر 11-28.
لاحظ: أن الموصوف في سورة عبس (قتل الإنسان ما أكفره) هو ذاته شخصا أو صنفا في سورة المدثر (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) وهو ذاته الذي عبس وبسر ومعنى بَسَرَ (أَي نظر بكراهة شديدة وقوله: ووجوه يومئذٍ باسِرة أَي مُقَطِّبَةٌ قد أَيقنت أَن العذاب نازل بها. وبَسَرَ الرجلُ وَجْهَه بُسُوراً أَي كَلَحَ).
هل تولى رسول الله؟!
لو كان لمروجي أكذوبة (عبس وتولى) مسكة من عقل أو فهم أو تدبر في آيات الله لعلموا أن أي نبي عندما يتولى عن أمته فإنه يفاصلهم بعد إقامة الحجة عليهم ويكون هذا بمثابة إنذار نهائي إما الإيمان أو نزول العذاب.
(وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ) الأعراف 90-92.
وهناك تولٍ مؤقت أي إلى حين وهذا هو شأن نبينا صلى الله عليه السلام مع هذه الأمة البائسة التائهة التي سلمت أمرها لأراذلها وأعرضت عمن أمروا بطاعته (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ * وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) الصافات 174-179.
وهناك تولٍ عن طاعة الله ورسوله (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) محمد 38.
عمن وعن ماذا تولى رسول الله؟!.
هل تولى عن طاعة ربه أو عن تبليغ رسالته وكلامه؟!.
أم أن هذا الإنسان المتمرد (ما أكفره.. فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر) هو الذي عبس وبسر وتولى عن طاعة ربه ونصرة رسالته لأن شيئا ما لم يعجبهتماما كما فعل بنو إسرائيل (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ). البقرة 87.
الذي عبس وتولى هو أحد المنافقين الكبار المتظاهرين بالإسلام ممن حاربوا الدين ونسجوا المكائد والمؤامرات رفضا لولاية من أمر الله بولايته ممن بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا أمة محمد دار البوار!!.
دكتور أحمد راسم النفيس