اللافت الآن، أن الاهتمام الإعلامي القَطري بات مُنصَبًّا على الدُّوَل المُقاطِعة لقَطر مُنذ بِدء الأزمةِ الخليجيّة قبل عامٍ تقريبًا، والمملكة العربيّة السعوديّة والإمارات على وَجه الخُصوص في إطارِ حَربٍ ضَروس مُتبادَلة، ولهذا تراجع “النظام السوري” على سُلَّم أولويّاتِه حُدوث تغييرات جَذريّة على المَشهد السُّوري أبرزها استعادة الجيش العربي لسَيطَرتِه على أكثر من 80 بالمِئة من الأراضي السُّوريّة، وانحصار تواجُد المُعارضة وفصائِلها في بَعض الجُيوب مِثل مدينة إدلب في الشَّمال، ودرعا في الجنوب، وكانت هزيمة فيلق الرحمن أحد أبرز الفَصائِل الموالية لقطر، وخُروجِه من مَعقَلِه الأهم في الغُوطة بداية التًّحوُّل في المَوقِف القطري تُجاه الأزمة السُّوريّة، إعلاميًّا وسِياسيًّا، حسب رأي مُعظَم المُراقبين، ونَحن من بَينِهم.
في ضُوء ما تَقدَّم لم يُفاجِئنا ما كشفه روبرت فيسك، الكاتب البريطاني المُتخصِّص في شُؤون مِنطقة “الشَّرق الأوسط” في صحيفة “الإندبندنت”، عن حُدوث تَحسُّنٍ مَلموسٍ في العَلاقات القَطريّة السُّوريّة في الفَترة الأخيرة، مُرشَّح للتَّطوُّر بِشَكلٍ مُتسارِع.
الكاتب فيسك تَحدَّث عن اجتماعٍ مُغلقٍ عَقده الرئيس السوري بشار الأسد مع مجموعةٍ من الصِّحافيين السُّوريين أبلغهم فيه، ضِمن أُمورٍ عديدة، بأنّ العلاقات السُّوريّة القَطريّة قد جَرى استئنافها ولكن على مُستويات مُتواضِعة، ومُنخفِضة جِدًّا، وطلب الرئيس من الصِّحافيين عدم نشر هذهِ المَعلومة، أو نسبتها إليه، ويُمكِن القول أنّ العلاقات بين الشَّعبين وليس الحُكومتين استؤنِفَت فِعلاً، وإذا كان الرئيس نفسه، أعلى شخص في الدَّولة، يقول هذا الكَلام فلم يَعُد هُناك أيَّ مَجالٍ للنَّفي أو التَّشكيك.
من يَعرِف آليّة عمل الآلة الإعلاميّة السُّوريّة التي تُدار من القَصر الجُمهوري مُباشَرةً، يُدرِك جيّدًا أنّه لا يُوجَد شَيء من قبيل الصُّدفَة، لأنّ باب الاجتهاد الإعلامي مُغلَق في زِمَن السِّلم، ناهِيك عن زَمن الحَرب الشَّرِسة التي تَخوضُها السُّلطات السُّوريّة مُنذ سبع سنوات على عَشرات الجبهات العَسكريّة والسِّياسيّة في آن، وفي هذا الإطار يُمكِن القَول أنّ تَسريب هذهِ الأنباء، وإلى الكاتب فيسك تحديدًا، الذي يتردَّد على دِمشق بِشَكلٍ مُكثَّف في إطار عمله، ويلتقي بالمَسؤولين السُّوريين على أعلى المُستَويات، ربّما كان (أي التسريب) مُتعمَّدًا، لإيصال رسائِل إلى أكثر من جِهة في المِنطَقة، من بينها المملكة العربيّة السعوديّة وحُلفاؤها.
الحِلف السُّعودي القَطري الذي كان يُقاتِل في سورية جنبًا إلى جنب لإسقاط النِّظام انفرط عَقدُه قبل عام، والشيخ حمد بن جاسم، رئيس الوزراء الأسبق، وأحد أبرز مُهَندِسي التَّدخُّل القَطري في سورية، اعترف في أكثر من حديثٍ صحافي بأن “الهُواش” أو الشِّجار، بين السعوديّة وقطر على “الطَّريدة”، أو الفَريسة السُّوريّة، أدَّى إلى طَيرانِها أو هُروبِها، وأبدَى غَضبًا من جَرّاء نقل قطر من أمام عجلة القِيادة في إدارة الأزمة السُّوريّة إلى المقاعِد الخَلفِيّة، ولا بُد أنّ القِيادة السُّوريّة، أدركت أنّ قطر باتَت “مَعزولةً” في مُحيطِها الخَليجيّ، والعَربيّ أيضًا، وأنّ الوَقت مُناسَب حاليًّا لإلقاء “عَجلة إنقاذٍ” لها تَكسِر هذهِ العُزلة، وتحييدها في الأزمةِ السُّوريّة، بَل ومُحاوًلة كَسبِها إلى جانِب المِحوَر السُّوري، وأكَّدت التَّجارِب السَّابِقة أنّ ما يَجمع القَطريين مع حَليفِهم التُّركي أردوغان هو النَّظر إلى الأُمور من زاوِيَة المَصالِح، وتغيير المَواقِف وِفقًا لذلك وبأقصَى درجات “البراغماتيّة”.
العَلاقات القطريّة الإيرانيّة تبدو قَويَّةً جِدًّا هذهِ الأيّام، ولَعِبَت إيران دَورًا كبيرًا في كَسر الحِصار الاقتصاديّ المَفروض على قطر، وأقامت خَطًّا بَحريًّا نَشِطًا بين البَلدين لإيصال كل احتياجات قطر من البَضائِع والمواد الغِذائيّة، الأمر الذي جعلها أقرب إلى المِحوَر الإيراني السُّوري، ومِن الطَّبيعي أن يَنعكِس كُل ذلك على شَكلِ تَقارُبٍ تَدريجيٍّ مع دِمَشق.
وما يقال عن التحسن الكبير الذي طرأ على العلاقات القطرية الإيرانية يقال أيضا عن التحسن المضطرد في العلاقات الأخرى بين قطر و”حزب الله”، فقد لوحظ ان قناة “الجزيرة” باتت تقطع برامجها العادية وتبث خطابات السيد حسن نصر الله على الهواء مباشرة، وهو امر كان من عاشر المحرمات قبل بضعة أعوام، وما كان يحدث هو العكس تماما في الاعلام القطري الذي كان يهاجم السيد نصر الله بطريقة شرسة، خاصة بعد ارساله قواته للمشاركة في الحرب السورية.
السُّؤال الذي يَطرَح نفسه بِقُوّة هو عن مَوقِف تركيا، الحَليف الأوثَق لقطر، والتي يُقيم قاعِدةً على أرضِها يتواجد فيها أكثر من 30 ألف مُقاتِل بأسلِحَتهِم الثَّقيلة، ولَعِبَت دورًا كبيرًا في مَنع أيِّ هُجومٍ عَسكريٍّ من الدُّوَل الأربَع في تَغييرِ النِّظام القَطريّ حتى الآن على الأقل؟
هُناك نَظريَّتان في هذا الإطار:
ـ الأولى: تقول أنّ تركيا تُبارِك هذا التَّقارُب القَطريّ السُّوريّ، لأنّها أدركت أنّ جُهودَها في إطاحة النِّظام في دِمَشق قد وصلت إلى طَريقٍ مَسدود، وأنّ هُناك علاقات واتِّصالاتٍ سِريّة قائِمة فِعلاً بين أنقرة ودِمَشق على الصَّعيد الأمنيّ الاستخباريّ على الأقَل.
ـ الثَّانية: تُفيد بأنّ العَلاقات التُّركيّة القَطريّة ليست على الدَّرجةِ نفسها من القُوّة هذهِ الأيّام لحُدوث تَغييرٍ في المَوقِف التُّركيّ تُجاه بعض أنصار قطر الذين يُقيمون حاليًّا في تركيا، ويقومون بأنشطةٍ سياسيّةٍ وإعلاميّةٍ مُكثَّفة ضِد دُوَلِهم، والمَقصود هُنا حركة الإخوان المُسلمين، حيث أكَّدت معلومات أنّ القِيادة التُّركيّة طلبت من مَحطَّات تَلفزة تابِعة للحَركة وتَبُث مِن إسطنبول بتَخفيض هَجماتِهم الإعلاميّة ضِد السُّلطات المِصريّة، كما أنّ هُناك تيَّارًا في حِزب العدالة والتنمية يُطالِب بعَدم وضع كل البَيض التُّركي في سَلَّة الإسلاميين، ومن المُفيد الانفتاح على التَّيّارات العَربيّة الأُخرى.
ما يُمكِن قوله أنّ التَّقارُب السُّوري القَطري يَخدِم حُكومتيّ البَلدين في حالِ تَرسُّخِه، فكُل مِنهما بحاجةٍ إلى الآخر، فسورية بحاجةٍ إلى تحييد الإعلام القطري القَوي، وأموال النِّفط والغاز القطريين في معركة إعادة الإعمار الوَشيكة، وقطر تحتاج سورية لكَسر عُزلَتِها، بعد انهيار مَشروعِها في إسقاط النظام السوري.
تَظل هُناك مَسألة مُهِمَّة وهي كَيفيّة إقناع الشَّعب السُّوري، أو قِطاع عَريض مِنه بالمُصالحة مع قطر والعلاقات معها بالتَّالي بالنَّظر إلى دَورِها في الحرب، ولا نَستبعِد أن يبدأ الإعلام السُّوري بالقِيام بهذهِ المُهِمَّة إذا تأكَّد هذا التَّوجُّه.
سُؤالٌ آخر يَطُل برأسِه وهو عَن مُستَقبل العلاقات القَطريّة مع الفَصائِل المُعارضة السُّوريّة، وكيفيّة تَبرير هذا التَّحوُّل لسِياسيين وإعلاميين وَقفوا في خَندَقِها؟ الإجابة وبِبساطة شَديدة، تقول بأنّ التَّعويض الماليّ جاهِز دائِمًا، والأهَم من ذلك أنّ مَصالِح الدُّوَل الاستراتيجيّة تتقدَّم دُونَ شَك على مَصالِح أفراد أو جماعات سِياسيّة.. والتأقلُم مع هَذهِ المُتغيِّرات تَحدُث بِشَكلٍ أو بآخر تَجاوبًا مع صاحِب القَرار.. ونَكتفي بهذا القَدر.