تمثّل الاحتفالات في ثقافة أيّ شعبٍ أحداثاً وأوضاعاً مهمّة في عمليّة إعادة شحن أبنائه بالمشاعر والرموز ذات الدلالة على تلك الثقافة، وبذلك تلعب هذه الاحتفالات دورًا في إعادة إنتاج الثقافة الشعبيّة.
ومن المهمّ لنا هنا أن نشير إلى نقطة تأسيسية لها علاقة بطبيعة العناصر التي تحقّق تفاعل الإنسان مع المعاني والأشياء من حوله.
ذلك أنّ من فطرة الله تعالى أن جعل الحواسّ أبوابًا للاحتكاك مع العالم الخارجي، وقد قال تعالى: ﴿والله أخرجكم من بطون أمّهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمعَ والأبصارَ والأفئدة لعلّكم تشكرون﴾(1)، ومن الواضح أنّ البصر لا يرى أشياء مجرّدة عن أيّ معانٍ، بل إنّ الثقافة التي ينتمي إليها تُكسب الأشياء دلالاتٍ ومعاني متنوّعة،
ففي الثقافة الإسلامية مثلًا ليس القمر جُرمًا سماويًّا منيرًا يدور حول الأرض في فترة زمنيّة محدّدة… وإنّما يرتبط بالشّهور القمريّة وأهلّتها، التي لها علاقتها بتاريخ الإسلام وبجملة من العبادات الواجبة أو المستحبّة، كما يرتبط ببضع آياتٍ تفتح دلالاتٍ له على معرفة الله وعظمته، وأصبح الهلال رمزًا للهويّة الإسلامية، ووضعتْه الهندسة الإسلامية على القباب ومآذن المساجد،
وكذلك عندما أريد تسمية الإسعاف كانت التسمية “الهلال الأحمر” وكذلك عندما يعلّق كزينة في الأعياد والمناسبات… كلّ هذه المعاني وغيرها تُربطها الثقافة الإسلامية بالقمر، فيتحوّل فيها من جُرمٍ حجريّ أو ترابيّ إلى رمزٍ ذي دلالات متعدّدة، وما إن يراه الإنسان مستخدماً في تعبيرات مجتمع ما فإنّه يثير في نفسه تلك الدلالة على الهويّة الإسلامية بشكل وبآخر.
استخدام اللّون الأخضر هو واحد من التعبيرات الثقافيّة الإسلامية، وطبيعة الزخرفة التي وصفت بأنّها إسلامية… ونستطيع أن نعدّد الكثير من المفردات التي تشير إلى هذا المعنى الذي هو جزءٌ لا يتجزّأ من حياة الشّعوب، ومن دون ذلك يفقد كلّ شعبٍ هويّته الثقافية، ويصبح وجودًا من كتلٍ لحميّة تأكل وتشربُ؛ لأنّ معنى كون الشّعب شعبًا هو أنّه يعبّر عن ذاته في مركَّبٍ من العادات والتقاليد والأوضاع والرموز والدلالات في تعاطيه مع مفردات حياته والأشياء التي يحتكّ بها من حوله أو يعبّر فيها عمّا يختلج في ذاته.
انطلاقًا من ذلك، نستطيع أن نفهم أنّ الوظيفة الأساسيّة التي تقوم بها الأعياد والمناسبات هي إعادة شحن الذاكرة الشعبيّة ومشاعر أفرادها بتلك العناصر المرتبطة بثقافتهم وهويّتهم، وبالتالي تمثّل الاحتفالات وسيلة من وسائل إعادة إنتاج الثقافة وتثبيتها.
في المجال الإسلامي ستمثّل الاحتفالات العامّة مناسباتٍ اجتماعيّة عمليّة مستمرّة لتثبيت الثقافة الإسلامية في حياة المجتمع والأفراد، ولا سيّما لدى الأجيال الناشئة التي هي في طور تشكيل عناصر انتمائها إلى تلك الجماعة.
لتوضيح النقطة الأخيرة نثير السؤال التالي:
ما الذي يجعل أطفالنا ينتمون عفويًّا إلى ثقافة مجتمعنا؟ هل هو التلقين المجرّد للأفكار والمفاهيم الإسلامية العقدية والشرعية؟ أم أنّه عيش الدلالات والرموز بشكل عفويّ؛ فما إن يفتح الإنسان عينيه على المجتمع فإنّه يختبرُ كيف يتصرّف المجتمع في أزمنته وأمكنته وأشخاصه وأوضاعه؛ فيعتاد مثلًا على آداب التعامل مع المساجد، أو مع العلماء، أو مع مناسبة الفطر أو الأضحى أو شهر رمضان أو ليالي القدر أو في مع مناسبة الموت أو من خلال طقوس الولادة أو ما إلى ذلك، انطلاقًا ممّا يحمله المجتمع في ذاكرته الجمعيّة من معانٍ مرتبطة بكلّ تلك المفردات؛ والذي يدخل نفسه حقيقةً هو هذا الارتباط بين المحسوس ورمزيّته، ويكون ربط ذلك المحسوس بجملة من المشاعر هي جسر العبور إلى الإحساس بقوّة ذلك رمزيّته.
فالإنسان الذي يحصل على هدية مالية مثلًا عندما يُبشّر بولادة مولود له سوف يربط ذهنه عفويًّا ولده بالبركة والنعمة، وذلك ليس إلّا لأنّ المشاعر التي استحوذت على حسّه الداخلي تزامنت مع ولاته طفله. في الجانب السلبي أيضًا، كثيرًا ما ترتبط أماكن معيّنة بذكريات أليمة، ونصبح كلّما استدعى ذهننا تلك الأماكن أو سمعنا بها، استذكرنا تلك الحادثة، كمن أصيب بمرضٍ حادّ بمجرّد نزوله من سلّم الطائرة في مطار بلدٍ معيّن…
قد نكون أطلنا قليلًا في استعراض أمورٍ يتصرّف معها العالم كلّه، على تنوّع شعوبه وثقافاته، بكلّ عفويّة، حتّى شعوبنا الإسلامية ومجتمعاتنا ليست بدعًا من ذلك لو دقّقنا النّظر في ما نعيشه ونمارسه من أوضاع وتعبيرات… ولعلّه لا يخطر في بالِ أحدٍ أنّه يمكن أن تثبت ثقافة شعب ما من دون أن يكون للحسّ دورٌ فيها بالمعنى الذي أشرنا إليه.
الاتّجاه التحريمي
نعم، ثمّة اتّجاه إسلامي رأى في كثيرٍ من التعبيرات الثقافية التي أنشأ المسلمون حديثاً رموزها وأوضاعها، جزءاً من منظومة الضّلال التي تتحرّك في أفق البِدعة المحرَّمة، وبالتالي ينبغي نفيُها من الواقع تمامًا كالأصنام التي لا حظّ لها سوى التحطيم.
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، أو بذكرى المبعث، أو الإسراء والمعراج، أو كما تصنعه مذاهب إسلاميّة من الاحتفال الحزين في عاشوراء بسبب استشهاد سبط رسول الله(ص)، وكذلك ما يتشارك فيه المسلمون مع غيرهم من أبناء الوطن، في مناسبات الاستقلال، أو مع أعيادٍ اخترعتها شعوبٌ أخرى، كعيد الأمّ والعمّال والشجرة ونحو ذلك؛ كلّ هذا بِدعةٌ؛ لأنّه اختراعٌ حادثٌ للإنسان لم يكن في العصر النموذجي التأسيسي، وهو عصر الرسول(ص) والصحابة، أو السلف الصّالح.
وتبني هذه الفئة استدلالها على عدّة قضايا:
1- أنّ النبيَّ(ص) قد بيّن كلّ ما يريد إيصاله لأمّته الممتدّة من زمانه إلى أن يشاء الله تعالى، باعتبار أنّ رسالة الإسلام هي خاتمة الرسالات السماوية، ومن البديهي حينئذٍ أن تبيَّن شريعتها لكلّ زمانٍ ومكانٍ، وهذا ما صنعه النبيُّ (ص) فعلًا، وأشارت إليه بقوله – في المروي عنه في حجّة الوداع: “أيّها النّاس! واللهِ ما من شيءٍ يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النّار إلّا وقد أمرتكم به، وما من شيء يقرّبكم من النّار ويباعدكم من الجنّة إلا وقد نهيتكم عنه”(2)، ولم يرد في النصوص شرعية الاحتفال بأي ممّا يُراد للمسلمين أن يحتفلوا به، وكلّ خارجٍ عن السنَّةِ بدعة، وقد ورد أنّ “كلّ بدعة ضلالة”(3).
2- أنّ الفترة الزمنية التي عاشها النبيُّ(ص) في دعوته لم يقم بأيّ احتفالٍ بمولده أو ببعثته ولا ندب المسلمين إليه؛ ولو كان الاحتفال بمولده من الأمور المحبوبة إلى الله ورسوله لكان مشروعاً، ولو كان مشروعاً لكان محفوظاً، ولو كان محفوظاً ما تركه الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون وتابعوهم، والحال أنّه لم يُعهد الاحتفال بذلك حتّى قرون لاحقةٍ؛ وبذلك نستدلُّ على عدم شرعيّة ذلك.
3- أنّ الاحتفال يعني الفرح والسرور وإظهار التعظيم وكلّ هذا من العبادات المقرّبة إلى الله. وكلّ عبادةٍ لا تُشرعُ إلّا بنصٍّ، والأصل فيها التحريم إلّا ما ثبت بدليل.
4- أنّ الاحتفال ببعض المناسبات المستحدثة، كالمولد النبوي، يترافق مع الغلوّ برسول الله (ص)، وهذا مؤدٍّ إلى الشرك الأكبر المخرجِ عن الملّة.
5- طبيعة الاحتفالات ممّا يُضربُ فيها ألوانٌ من المعازفِ وتختلط فيها النساء بالرجال وغير ذلك من المنكرات، وما كان لازمه المنكر فهو منكر.
مناقشة التحريم
وربّما نحتاج إلى مناقشة تلك النقاط من ناحية المنطق الشرعي للأمور، ثمّ نعمد إلى المقاربة الثقافية التي تصدّرت المقال.
في البداية، لا بدّ من القول إنّه من حقِّ هذه الفئة الإسلامية أن تعبّر عن رأيها في حرمة الاحتفال بالمولد النبويّ أو غيره من الاحتفالات، انطلاقاً من منهج الاستدلال الذي تقتنع به، والمقدّمات التي تؤسّس لاستنتاجاتها الفقهيّة؛ وطرح وجهات النظر هذه لم تكن بعيدة عن تاريخ التفكير الفقهي.
إلّا أنّ ما استجدّ هو المنهجيّة العدوانيّة التي تستسهل رمي النّاس بالشرك والضلال، الأمر الذي حوّل الصراع من دائرة الفكر، وهو أمرٌ محمودٌ ويمثّل غنى للفكر الإسلامي بعامّة، إلى دائرة الحياة، وباتت مثل هذه القضايا تمثّل عناصر لصور نمطية توصم بها شعوبٌ بأسرها، ومذاهب برمّتها، ونعرفُ جيّداً تأثير ذلك على العلاقات الاجتماعية فيما بين المسلمين، فضلاً عمّا هو أشدّ من ذلك وأخطر!.
أمّا المناقشة الداخليّة – أي من داخل المنطق الشرعي – فيهمّنا أن نشير إلى عدّة أمور نحسب أنّ التفكّر فيها قد يعيد تصويب المنهج في مقاربة قضايا الدّين والشريعة والاجتهاد فيها بشكل عامّ:
النقطة الأولى: أنّه ما من شكّ أنّ النبيّ (ص) قد بيّن كلّ شيءٍ ممّا تحتاجه الأمّة، ولكنّ البيان الشرعي على قسمين:
أ- البيان المباشر، وهو ما يتوجّه عادة إلى الأدوات والوسائل والمفردات الموجودة فعلًا في زمان النصّ؛ أمّا الأمور التي سيطوّرها النّاس أو يكتشفونها في مستقبل أمرهم، فهي أمورٌ قد لا يستوعبها العقل العادي في زمانه(ص)، ولذلك دعت الحاجة إلى بيان غير مباشر، وهذا هو القسم الثاني.
ب- البيان غير المباشر، وهو عادة ما يكون بياناً عامّاً، يشير إلى قاعدة معيّنة أو مفهوم عامٍّ شامل لما هو موجود من المفردات، وما قد يستجدّ في تطوّرات الأزمنة والمجتمعات والثقافات. ولعلّ هذا القسم من البيان هو الذي يسمح بمرونة عالية للشريعة الإسلامية، وإمكانية مواكبتها للعصور وما يستجدّ فيها.
النقطة الثانية: ثمّة قاعدة أصوليّة متّفق عليها، وهي أنّ ترك النبيِّ(ص) لفعلٍ من الأفعال لا يُعتبر دليلاً على حرمته، ولعلّ مثل هذه الأمور لم تكن مطروحة في ذلك الوقت، ولا سيّما أنّ النبيّ (ص) كان في حاجةٍ إلى تأكيد مبدأ التوحيد، بعيداً عمّا وقعت فيه الرسالات السابقة من تحويل المبدأ التوحيدي نحو الرسول نفسه، ما أوقع النّاس بالكثير من المنزلقات العقديّة مع تعاقب الأجيال وتوافر العوامل المؤاتية للغلو والخرافة والأسطرة وما إلى ذلك.. كما أنّ مسألة الاحتفالات ممّا تبدّلت فيها نظرات الشعوب مع احتكاكها بالشّعوب الأخرى، فدعت الحاجة إلى هذا اللون كجزءٍ من تحصين الذات والهويّة الجماعية؛ وهذا الأمر لم يكن برمّته مطروحاً في زمانه (ص).
باختصار: إنّ العوامل التي قد تفرضها متغيّرات الزمان قد لا تكون متوافرة في زمان النصّ، وبالتالي لا يصحّ بحالٍ أن يُقال إنّ عدم فعل النبيِّ (ص) لشيء من ذلك دليل على حرمته؛ واللازم لتحديد الحكم الشرعي حينئذٍ الرجوع إلى القواعد التي تنطبق على الحالة المستجدّة.
النقطة الثالثة: من الغريب اعتبار أنّ كلّ فرحٍ وتعظيم وسرور هو عبادة، إلّا أن يكون هناك معنىً آخر لذلك، كأن يكون المقصود هو أنّ الفرح الجماعي هو لونٌ من ألوان العبادة. وهذا أيضاً غير مفهومٍ؛ إذ إنّ الاحتفال هو مجرّد اجتماع للذكر، وقد أشرنا في بدايات المقال إلى أنّه لون من ألون الشحن الجماعي للذاكرة الجمعية لأتباع الدّين أو المذهب أو لأتباع أيّ ثقافة من الثقافات، وهو استثمارٌ للتفاعل البشري الاجتماعي العفوي لأجل الدعوة إلى الله من خلال تقريب نموذج الرسول القدوة إليهم، ولا سيّما أنّ عنوان المسلم الأوّل، وهو أمرٌ تحتاجه الشعوب بلا ريبٍ في حركة تمثّلها للقيم، وخصوصًا في الأزمنة التي يتعرّض فيها نموذج النبيِّ (ص) إلى التشويه والافتراء.
وعلى هذا الأساس، بالتالي لا تنطبق على قضية الاحتفال أي قاعدة مرتبطة بتشريع العبادات، بما أشرنا إليه سابقًا في هذا المقال.
نعم، إذا فُرض أنّ أحداً يريد أن يُدرج في الاحتفال عبادات يبتدعُها، كأن يفترض تشريع الصوم أو صلاة معيّنة من دون دليل، فهذا تشريع باطل ومحرّم وابتداعٌ في الدّين، وكذلك إذا ما أتى بالاحتفال بنيّة أنّه بعنوانه الخاصّ مشرَّعٌ من قبل النبيِّ (ص)، فهذا أيضاً باطل؛ لأنَّ ذلك إنّما يكون بنصٍّ خاصّ. أمّا اعتبار ما ينطبق عليه عنوان عامٌّ راجح ورد فيه النصّ، اعتباره بدعةً، فهذا غريب في مجال العلم والاجتهاد.
النقطة الرابعة: أنّه ينبغي التفريق بين أصل الشيء وبين تطبيقاته في الواقع الخارجي، وإنّه لا يصحّ لأجل المشاكل التي تعتور تطبيق مبدأ ما أن يتمّ تحريم ذلك المبدأ؛ فإنّ هذا أيضاً تقوُّلٌ على الشريعة وابتداعٌ في الدّين بشكل وبآخر..
إنّ معالجة التطبيقات هي جزءٌ لا يتجزّأ من مسؤولية المجتمع المستمرّة للتوجيه، وهي مسؤولية النخب الإسلامية والمرجعيات العليا في تذكير بعضها بعضًا. كيفَ؟ والغلوّ الذي قد يترافق مع بعض الأشعار ممّا قد تنتجه بعض ذهنيّات شعراء، وليس كلّ الشعر في مديح النبيِّ (ص) هو كذلك.
وإذا كنّا سنبني على تحريم أيّ مبدأ أو شكلٍ أو وضعٍ تأتي منه بعض تطبيقات المنكر، فالصلاة نفسها قد يراءى بها النّاس، وقد تستخدم وسيلة للغشّ والخداع لبسطاء النّاس، فهل نمنع الصَّلاة لأجل ذلك، أو أنّنا ننبّه النّاس على ضرورة اختبار النّاس في أمور أساسيّة لكي يتبيّن منهم الصالح من الطالح، وعدم استعجال الحكم عليهم بمجرّد الشكل؟!
ولذلك، فما ينبغي توجيه السِّهام إليه بقوّة هو الغلوّ والشِّرك، وربّما يحتاج الأمر إلى مسارات في الحوارات والمعالجات الإسلامية؛ إذ قد تكمن المشكلة لدى بعض الجهات في بنية اعتقاداتها، وقد تكمن في بعض القواعد التي ترتكز في فكرها إليها، وقد تكمن في بعض الأوضاع القلقة التي تعيشها… وهذا ما يفرض انفتاحًا إسلاميًّا داخليًّا، وحوارات جادّة دائمة، الأمر الذي يجعل من السذاجة التعاطي مع مثل هذه القضايا بأسلوب التوجيه المباشر السطحي، كما يحصل في الخطاب الديني التقليدي فضلًا عن التكفيري للآخر!
أخيراً، ثمّة أمر ينبغي الالتفات إليه، وهي أنّنا في زمن انفتاح الثقافات والشعوب على بعضها البعض، وبات بمقدور كلّ فردٍ أن يتواصل مع العالم كلّه، ويصلُ إلى الفرد الواحد يوميًّا المئات من الرسائل التي تحتوي على أفكار والصور والمقولات والمقاطع المصوّرة وما إلى ذلك ممّا بات يؤثّر على ذهنيّة شبابنا بشكل منقطع النظير، وبسرعة تسبق بأشواط الجهد المبذول من قبل مجتمعاتنا للوقاية..
هذا إضافة إلى ما فرضته العولمة من إشكاليّات باتت جزءًا من اقتصاديّات دولنا وحاجات مجتمعاتنا بشكل متّسع يومًا بعد يوم؛ وبات من المفيد التفكّر في الوسائل التي تشكّل عناصر ضرورية لحماية المجتمع، والتي منها التأكيد على الهوية الإسلامية، والقيام بحالة طوارئ تؤمّن البدائل لما يطرحه الآخرون في أسواقنا ويفرضونها كحاجات لمجتمعاتنا الإسلامية، هذه البدائل التي نطرحها نحن من موقع انسجامها مع قيمنا الأخلاقية، ومع أحاكمنا الشرعية، ومع مفاهيمنا القرآنيّة، ومع ثقافة الإسلام وأدوات تعبيره ورموزه.
ولعلّنا قد نجد هنا أنّ أجيالنا باتت تتأثّر لا شعوريًّا بأعيادٍ ومناسبات فرضتها العولمة وتفاعل الشعوب وتلاقح الثقافات، في الوقت الذي تتصحّر فيه مجتمعاتنا بالمناسبات بحجّة التحريم والابتداع!
ربّما علينا أن ننظر في هذا العصر إلى الاحتفال بالمولد النبوي والبعثة النبوية ورأس السنة الهجرية وغيرها على أنّها بدائل ضرورية إلى حدّ كبير، لا بالطريقة العابثة اللاهية التي أنتجها الآخرون، ولكنّ بالطريقة التي يشعر فيها الإنسان المسلم بأنّ الزمن يشحنه بالانفعالات الإيجابية التي يحتاجها لمواجهة ما تفرضه ثقافات أخرى من انفعالات، وأنّ صاحب الذكرى يحضر بقوّة في العصر الذي نعيش فيه، بصفاته الرسالية، وبحركته القيادية، وبنموذجه الأخلاقي والإنساني، في الوقت الذي تحاول ثقافات أخرى أن تجتذب شبابنا نحو نماذجها البشرية..
ثمّة قاعدة تقول: إنّ الحياة لا تحتمل الفراغ؛ إذا لم تملأه أنت فسيملؤه غيرك؛ ولعلّنا نختم بالقول، إنّنا لسنا في حاجة إلى التأكيد على أنّ المنهج التحريمي هو عملية مقنّعة لدفن رؤوسنا في الرمال، تجاه واقع يتحرّك بسرعة قياسيّة، وقد يفقدنا هويّتنا، لا في جيلنا ربّما، وإنّما في الأجيال اللاحقة التي لم نعِ التغيّرات والظروف التي تعيش فيها في زمنٍ قد لا نكون موجودين فيه، أو لسنا فاعلين فيه؛ والله من وراء القصد.
الهوامش
1- سورة النحل: 78.
2- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص74، ح2؛ ورواه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين، ج2، ص4 بتفاوت يسير.
3- النيسابوري، مسلم، صحيح مسلم، ج3، ص11.
المصدر: مجلة الوحدة الإسلامية – العدد 181
المصدر: بينات
الاجتهاد