طبيعة حكم الفقيه في ايران.. (القسم الأول)

السبت 10 فبراير 2018 - 11:16 بتوقيت غرينتش
طبيعة حكم الفقيه في ايران.. (القسم الأول)

أفكار ورؤى – الكوثر.. ينظر المسلمون الشيعة إلى قادتهم الدينيين، بالإضافة إلى شؤونهم الدينية، على النقيض من المسلمين السّنّة، كمصدر للتوجيه السياسي والاجتماعي. أدى ذلك، بالتالي، إلى نشوء عملية مناسبة لاختيار أكثر القادة علماً كمصدر للتوجيه.

عبدالعزيز ساشيدينا

أود قبل الدخول في موضوع ولاية الفقيه في إيران، منذ انتصار الثورة، الإشارة إلى أنني لا أبحث في مضمون عقيدة ولاية الفقيه، وما رافقها من براهين نصية وعقلية لدعمها، ولا أبحث كذلك، إلا بصورة عابرة للغاية، في شرح المفهوم الفقهي من قبل الفقهاء الشيعة قبل آية اللّه الخميني (ره).

سينصب اهتمامي على السياق السياسي الذي تم التعبير من خلاله عن العقيدة وتطويرها في إيران منذ الثورة في العامين 1978 و1979، والتبعات السياسية والقانونية المترتبة عليها. قد تنتج تصورات معينة، بصورة حتمية من طريقة تقديمي لما أرى أنه يمثل الحقائق حول الموضوع، بالرغم من أنني سأحاول أن أوصف الموضوع كما هو، وأكون محايداً في ذلک قدر الامکان.

يواجه كل رئيس للجمهورية الإسلامية الإيرانية مصدري توتر. المصدر الاول يتعلق بقدرة الرئيس على تجنب التحديات الدائمة لسلطته من قبل المؤسسة الدينية في قم. إذ لم يتمكن أي من الرئيسين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي – وهما المنتميان إلى المرجعية الدينية- من إدارة الحكم المعقد بسبب القيود الأيديولوجية، من دون الدخول في تسويات براغماتية.

يتمثل المصدر الثاني للقلق، الذي يبقى على حاله إلى حد بعيد حتى يومنا هذا، في علاقة الرئيس المنتخب بالشخصيات البارزة في المؤسسة الدينية. اتسمت علاقة خاتمي بقم بالفتور، بينما تمتع رفسنجاني، {رحمه الله} بفطنته السياسية، بتأييدها.

أثارت علاقة محمود أحمدي نجاد بـ ” قم” دهشة العديد، حتى من بين أشد مؤيديه في المؤسسة الدينية. تظل رسالة التهنئة من “قم”، من وقت لآخر، التي تعقب الانتخابات الرئاسية، خطوة براغماتية مطلوبة لتهدئة أي مخاوف من صراع يمكن أن ينشأ على السلطة نتيجة للاختلافات الأيديولوجية بين الرئيس ورجال الحوزة الدينية. وتثير التقلبات في العلاقة بين طهران وقم، بوضوح، أسئلة جدية حول ما إذا كان الرئيس المنتخب قادراً على حشد التأييد الضروري لسياسته الخارجية وتوجهاته الداخلية.

يتعين ان تَحل المسالة المتعلقة بوجود مركزين للسلطة، التي يمكن ان تحدث اثراً طويل الأمد في توجه إيران كدولة إسلامية حديثة، إن أراد المجتمع السياسي الإيراني التحول إلى مجتمع مدني ديموقراطي حقيقي.

يمثل الولي الفقيه مركز السلطة الأيديولوجي الرئيسي في هذا النظام المقر دستورياً. وسلطته غير محدودة لإلغاء ما يمكن أن يعتبر منافياً لمصلحة الإسلام، وفقاً لرؤية شاغل هذا المنصب الديني الأعلى. وجدت صعوبة كبيرة في ما يتعلق بهذه المسألة، منذ وفاة آية اللّه الخميني (ره) في العام 1989، من حيث إيجاد قائد ديني يحل محله.

القيادة الدينية في الإسلام الشيعي

ينظر المسلمون الشيعة إلى قادتهم الدينيين، بالإضافة إلى شؤونهم الدينية، على النقيض من المسلمين السّنّة، كمصدر للتوجيه السياسي والاجتماعي. أدى ذلك، بالتالي، إلى نشوء عملية مناسبة لاختيار أكثر القادة علماً كمصدر للتوجيه.

واستمرت هذه العملية لاختيار قائد للشيعة حتى العام 1979، حين تشكلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية عقب الثورة بقيادة آية اللّه الخميني (ره). باتت تلك العملية الدينية الموصوفة لاختيار “مجتهد” شيعي مؤهل، منذ ذلك التاريخ -مع إقرار منصب “الفقيه الحاكم” في دستور إيران، ووجود شخص يشغل ذلك المنصب المرموق- باتت مغيبة في ظل منصب “الفقيه الحاكم” المعين سياسياً وأيديولوجياً.

أثيرت بقوة أكثر من مرة، في العقدين الأخيرين على وجه الخصوص، المسألة المتمحورة حول القيادة الدينية بزعامة آيات اللّه البارزين على الصعيد الدولي، والقيادة الروحية للأمة الإيرانية بزعامة ” فقيهها الحاكم”.

أدت وفاة شخصيات بارزة في المؤسسة الدينية الشيعية كأية اللّه الخميني (ره) ( في العام 1989)، وآية اللّه الخوئي ( في العام 1992) ، وآية اللّه الكلبايكاني (في العام 1993)، وآية اللّه الأراكي (في العام 1994)، أدت في السنوات الماضية إلى أن يبرز في المجتمع عدد من المرشحين من الجيل التالي لعلماء الدين، الذي تستمر قيادته، لأسباب عملية في الغالب، في استمداد قبولها من الخبراء الذين يمثلون مجموعات مصالح متعددة في المجتمع الشيعي عبر العالم.

تتم الهيمنة على المعايير المعترف بها تقليدياً، لتحديد مؤهلات “المجتهد” الذي يمكن أن يتولى منصب مرجع التقليد” (السلطة الشرعية الأعلى المقبولة للتقليد)، من قبل النزعة المحافظة لمراكز التدريس الديني الشيعية في قم والنجف.

يوجد نقص واضح في رؤية تلك النزعة لمستقبل المجتمع الشيعي المنتشر على نطاق واسع. كما تجسد النزعة المحافظة، علاوة على ذلك، السبب الرئيسي لعجز المراكز الدينية عن إيجاد مجموعة من المعايير الموضوعية والأليات الواضحة المعالم للسماح بالانتقال السلس للسلطة الشرعية – الدينية من آية الله إلى آخر، ثم عالم اليوم المتطور تقنياً.
برز تعقید اضافي في ما یتعلق بتحدید “المرجع” منذ جعلت الحكومة الإيرانية رسميا منصب المرجع تحت سلطة حكم الفقيه (ولاية الفقيه ). ظهر ذلك من قبل آية اللّه الخميني، في الدستور الوطني الإيراني. وأصبح تحديد “المرجع” يمثل جزءا من السياسة القومية الإيرانية، سواء أعجب ذلك حكومة إيران أم لم يعجبها.

لا شك بأن وضع “المرجع” تحت سلطة “الولي الفقيه” یظهر، في الحقيقة، أن الحكومة الإيرانية لها مصلحة مباشرة في من يتولى السلطة الدينية الأعلى في المذهب الشيعي.
تعد مؤسسة “المرجع”، وفق السياق الإيراني، مسؤولة عن توفير الشرعية الإسلامية الضرورية لدولة – الأمة الشيعية في إيران.

وتعتبر المؤسسة مسؤولة كذلك، على نطاق واسع، عن إضفاء الترابط في ما يتعلق بالحفاظ على الهوية الأخلاقية – الروحية، وما يتصل بها من هوية سياسيةاجتماعية للشيعة الإيرانيين. يعد التوجه القومجي “للمرجع”. على وجه الدقة، متعارضاً مع الاعتقاد السائد عموماً بين المسلمين الشيعة في ما يتعلق بعالمية ذلك المنصب في سياق المذهب الشيعي. ويتجسد ما هو أكثر أهمية في عدم مشاركة آيات اللّه البارزين الآخرين وأتباعهم، ضمن المجتمع الشيعي ككل، في المساعي الايرانية للحصول على اعتراف شيعي عبر العالم ” بحكم الفقيه” كما عرفه آية اللّه الخميني (ره).

لا يتجسد السؤال، بالنسبة للمجتمع الشيعي عبر العالم، في مجرد معرفة: من سيتولى منصب المرجع تالياً؟، بل يمثل بصورة أكبر ما هو واقعي من المخاوف: كيف يتم تجنب الوقوع في شرك السياسة القومية لإيران، أو في شرك اختيار أكثر المراجع تأهيلاً لتقليده أخلاقيا وروحيا – في ما يتعلق بالعراق؟

تمكن المجتمع، بصورة تاريخية – بما يملكه من خبرة طويلة في العيش تحت ظل حكومات لا تُودّ أفراده، وتعاملهم كأقلية مضطهدة في بعض الأحيان- من الحفاظ على استقلاليته الدينية دون أن يضطر للرضوخ لأي ضغوط لاختيار “مرجع” معين. يدرك قادة الشيعة تماماً. سواء كانوا في إيران أم غيرها، أن اختيار “المرجعيمثل واجباً دينياً فردياً يكلف به المؤمن استناداً إلى قناعاته، لا التزاماً يفرض من قبل قرار جماعي للحكومات أو قادة المجتمع.

تسهم الصبغة الرسمية التي أضفيت على المنصب الديني الأعلى المتمثل في “المرجعالذي كان يتمتع بالاستقلالية عن أي تدخل حكومي في الدستور الوطني لإيران في ما يتعلق بمهام مرجع التقليد المرتبطة بالشريعة الإسلامية- تسهم في دفع كل من الحكومة الإيرانية والمجتمع الشيعي إلى العمل بما هو غير ملائم وغير معتمد، إلى حد بعيد، من الأنظمة التقليدية لنقل السلطات الدينية إلى المرجع” التالي.

يجسد تلك بالفعل إشكالية ملحة على الصعيد القومي لإيران، بينما لا يعيق، على وجه الاحتمال، الحياة الدينية اليومية للمجتمع الشيعي بمجمله. ولا يمكن لإيران، للأسباب العملية كافة، أن تحتمل كلفة الاستمرار حية التقسيم الحالي الحتمي لمنصب المرجع” إلى جناحين سياسي وديني، الذي ساد منذ وفاة آية الله الخميني.

كما لا ينذر مثل ذلك التقسيم بزعزعة الإجماع الدقيق حول النظام الديني- السياسي الإداري المتداخل في إيران فحسب، بل ينذر كذلك بإمكانية تقسيم مواطنيها إلى معسكرات دينية مختلفة، يتم تزعمها من قبل مناصب فقهية متشددة، تتنازع حول مسألة ” حكم الفقيه”.

لقد أقرت إيران منذ وفاة آية اللّه الخميني (ره)، ولو بصورة ضمنية في غياب معايير معتمدة تقليدياً لتولي المنصب الشرعي الأعلى المتمثل في “المرجع، كما في حالة آية اللّه الخامنئي – أقرت المنصب المقر دستوريا الذي شغل من قبل الأخير، بالإضافة إلى المنصب التقليدي، الشرفي في الغالب في ما يتعلق بعمل الحكومة اليومي – المتمثل في “مرجع التقليد”، الذي شغل من قبل آيتي الله الراحلين الكلبايكاني والآراكي على التوالي. لم يمنح الخوئي أو مريديه الشرعية القانونية للسلطة السياسية المتجسدة في منصب “المرجع” وفق مفهومحکم الفقیه

جذر المشكلة

من المهم، إن أردنا أن نفهم الأزمة الحالية التي تواجه من قبل المجتمع الشيعي، أن نفهم المسألة المتعلقة بالمطامح الشيعية – السنية في ما يتعلق بالقيادة الدينية.
تعد القيادة الدينية مسألة مركزية في الإسلام عموماً، والمذهب الشيعي خصوصاً. لم يكن نبي الإسلام زعيماً روحياً للمجتمع فحسب، بل كان القائد السياسي لنظامه العام كذلك. ولم يقر الإسلام على الإطلاق مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة في توجهاته الدستورية للمجتمع، فقد تجسدت كل من السلطات الدينية والدنيوية في النبي محمد .

شكلت هذه الفرضية المبكرة حول الدور المزدوج للنبي محمد أساساً لأزمة القيادة الأولى التي أعقبت وفاته في العام 632 للميلاد. في تلك الفترة المبكرة، مثل انقسام المسلمين إلى سنة وشيعة نتيجة مباشرة للطريقة التي عين بها الأفراد البارزون في المجتمع، دور القائد ، الخليفة/ الإمام، في غياب سلطة النبي المزدوجة بما تستند إليه من ثقل إلهي.

ساد الإجماع بين اللاهوتيين السنة، بصورة تدريجية، حول رفض منح سلطات النبي الدينية إلى الخليفة. افترض بالخليفة أو الإمام أن يكون القائد السياسي للدولة الإسلامية، بينما يتولى المختصون في الدين، الذين يعرفون “بالعلماءبصورة إجمالية، القيادة الدينية. أدت هذه الآلية لقيادة المجتمع، بصورة عملية، إلى الفصل بين السلطات الدينية والسياسية في الإسلام السني، مع مأسسة السلطات الدينية كجزء من البنية الإدارية لدولة الخلافة.

استند الفهم الشيعي لمهمة النبي، بالمقابل، إلى المثالية الدينية. إن كان الغرض من إرسال النبي إلى المجتمع متجسداً في قيادته لإقامة نظام عام مثالي، فهل يمكن للمجتمع أن يحتمل كلفة التغاضي عن مؤهلات من سيخلفه؟ مثلت القيادة المؤهلة للمجتمع الديني فكرة مركزية في المعتقد الشيعي. يوكل الإمام الشيعي، نظرياً، بالسلطة الروحية والدنيوية المزدوجة العائدة للنبي. يجادل الشيعة على أنه لا يعقل أن يطالب اللّه المسلمين ببناء مجتمع مثالي من دون توفير القيادة المناسبة من قبل من سيخلف النبي.

يؤمن الشيعة، علاوة على ذلك، بأن اللّه قد عين بالفعل، عبر النبي محمد، سلسلة من الأئمة المؤهلين. ولكن المجتمع بمجمله رفض أولئك الأئمة. يعيش آخرهم والثاني عشر من بينهم، وفقاً للمعتقد الشيعي، في مكان خفي منذ القرن العاشر الميلادي. يعد ذلك الإمام ، المهدي، الحاكم المثالي للمجتمع المسلم، وسيأتي في آخر الزمان، حين يوكله الله القيادة للمرة الأخيرة لإقامة الحكم المثالي على الأرض(١)

القيادة الشيعية في فترة ما بعد الغيبة

يزود المذهب الشيعي العالم الحديث بلمحة نادرة عن ديناميكيات الأيديولوجيا الدينية التي تتضمن مسلمات بشأن التدخل الإلهي الفاعل في التاريخ الإنساني لتمكين البشرية من بناء نظام عام مثالي”.(٣)

لقد تولى اللاهوتيون – الفقهاء الشيعة، في مراحل مختلفة من التاريخ، المهمة المتمثلة بعد تفسير عوامل التدخل الإلهي لبناء مجتمع وحكم جديدين. ارتبط أحد الأسئلة الرئيسة، التي تثار في أذهان المسلمين الأتقياء، بانعدام العدالة في المجتمع، والالتزام المترتب على المجتمع -في مواجهة ذلك الموقف”.(٤)

استندت الإجابة عن السؤال المتعلق باستجابة المجتمع للظلم السائد إلى الظروف السياسية – الاجتماعية القائمة، وتم تحديدها من قبل الأئمة الذين اعتبرت استجاباتهم لمواقف مماثلة بمثابة قواعد ملزمة لأتباعهم.
استند توجيه العلماء الشيعة، بصورة تاريخية، سواء أدى إلى فعل سياسي راديكالي أم غير ذلك، إلى تأويلهم للمذهبين الرئيسين المرتبطين بوجهة النظر الحاكمة أو النظرة الشاملة التي تنظم الوجود الدنيوي للمجتمع الشيعي.

يتمثل هذان المذهبان – في عدالة الله (العدل) وقيادة الأفراد الصالحين (الإمامة) لترسيخ ونشر حكم العدالة والإنصاف. وجدت العديد من الأفكار والمفاهيم – في العالم المسيس إلى حد بعيد، العائد للمرحلة المبكرة من الإسلام- حول غاية الله على الأرض، وقيادة المجتمع الإنساني.

لم تتطلب الفتوحات السريعة لأراض شاسعة، والعملية المتواصلة للإشراف على الفتوحات وإدارة شؤون سكان المناطق المفتوحة، لم تتطلب قيادة قوية وذكية فحسب، بل إقامة نظام يوفر الاستقرار والرفاهية على حد سواء .

تمثل ما يتسم بالمركزية لهذا النشاط الاجتماعي، السياسي، والاقتصادي في التبشير بالوحي الإسلامي، الذي ينص على أن إطاعة الله وحدها ستمكن المؤمنين من إقامة نظام عام عادل ومنصف، يجسد إرادة الله(5).
منح الفكر الديني الشيعي، منذ نشأته، مكانة رئيسة للمسألة المتعلقة بالقيادة الدينية في أيديولوجيته. واتسمت هذه المسألة بأهمية كبيرة في فترة غياب القيادة اللاهوتية للأئمة الذين يتحدرون من نسل النبي.

ينعكس ذلك على النقاش بين الشيعة حول أهلية علماء الدين، من الناحية اللاهوتية، لتولي قيادة المجتمع الشيعي كنواب معينين بصورة خاصة للإمام الأخير الذي غاب في العام 874 للميلاد، لكي يظهر مجدداً في آخر الزمان. تعين على الشيعة، بغض النظر عن الأهمية المتعلقة باستمرار التوجيه الأخلاقي- الديني، أن يعيشوا تحت ظل حكومات الأمر الواقع في مراحل تاريخية مختلفة، بما لا يجعل مهمة قيادة المجتمع تولى لأي كان.

تمت مأسسة ومركزة منصب الفقيه، كوصي على المجتمع، بصورة أكثر وضوحاً أثناء القرن الثامن عشر حين عمل الفقهاء، تحت ظل سلالة الكاجار، على صياغة مفهومهم للسلطة الشرعية الأعلى في المذهب الشيعي.

تحققت مركزة السلطة الشرعية عبر مذهب “التقليد” الشرعي. كان “التقليد” -الذي يعني “أتباع أو تقليد سلطة دينية كما يتعلق بالشريعة”- معروفاً لدى علماء الشريعة التقليديين، في إطار إضفاء شيء من التناسق على الممارسة الشرعية ضمن مدرسة معينة للفكر الشرعي. ووسع الفقهاء الشيعة من وظيفة “التقليد” عبر مطالبة أتباعهم بالتقيد الذهني بأحكام من يحظى بأكبرقدر من العلم من طبقتهم”.(٦)
أصبح “المجتهد” في حينه “مصدرا للتقليد” (مرجعاً) في ما يتعلق بالمسائل الشرعية. ومثلت تلك المسألة فكرة “مرجع التقليد”.
من المهم الإشارة إلى أن وظيفة “مرجع التقليد” قد تم تصورها، في هذه المرحلة بل وفي هذا القرن حتى الوقت الراهن، في إطار الوصاية لا الحكم. أصبح حكم الفقيه المتمثل في منصب “مرجع التقليد يجسد، مع ضعف السلطة السياسية للملوك الشيعة، بديلا فاعلا في المذهب الشيعي.

اعتبر مرجع التقليد”، في التصور الشيعي الشعبي، النائب المعين بصورة خاصة للإمام الثاني عشر، المخول تولي مهمة توجيه وحكم المجتمع، في فترة غيابه إن اقتضت الضرورة. لقد عُهد إلى “المجتهد” في منصب “مرجع التقليد”، بالتالي، بمهمة التأويل العقلي (الاجتهاد) لمصادر الشريعة الإسلامية، القرآن والسنّة، على ضوء الضرورات السياسية – الاجتماعية المعاصرة، وأصبحت أحكامه، في الشؤون كافة، ملزمة للمجتمع الشيعي.

وتمكن الفقهاء، عبر عملية تتمحور حول الفكر الاستنتاجي، من شرعنة سلطتهم في المجتمع، وإلزام جميع الشيعة، بصورة رسمية، بقبول اتباع “مرجع التقليد” في ما يتعلق بالممارسة الدينية”.(٧)

استندت تبعية الشيعة المتسمة بالولاء، مع ذلك، إلى سمعة “مرجع التقليد” في ما يتعلق بالإيمان والعلم والشخصية”.(۸) كما تمحورت سمعة “مرجع التقليد، باعتباره يحظى بأكبر قدر من العلم، حول مؤلفاته في المسائل الدينية، وآلية تدريسه لطلابه، بينما استندت شخصيته إلى ما يتسم به من تقوى تؤهله، من بين أشياء أخرى، لتلقي “الضرائب” المفروضة دينياً بغية توزيعها على المحتاجين.

ومثل ظهور “مرجع التقليد”، كقائد أعلى للمجتمع، عملية تدريجية. يعمل آية الله، الذي يعد علمه الديني واستقامته الأخلاقية فوق مستوى الشبهات، وفق المعتقد الشيعي الشعبي، كنائب للإمام الثاني عشر الغائب، ممارساً سلطة الأخير الشرعية – الروحية في المجتمع.

لا يوجد، بكل الأحوال، ضمن التقاليد الكلاسيكية ما يدعم المعتقد الشعبي بشأن نيابة أي “مرجع للتقليد” حتى يعود الإمام الغائب، بل تشير تلك التقاليد بوضوح، فی الحقيقة، إلى المسؤولية الجماعية للمجتمع الشيعي لضمان التزامه الديني، عبر تشجيع عملية تأهيل عقوله المبدعة لاكتشاف الغايات الإلهية للمجتمع في تطبيق القانون الديني الإسلامي، الشريعة.

يمكن لأولئك “المختصين” أن يديروا الشؤون الدينية للمجتمع عبر توجيهه، من الناحية الأخلاقية- الشرعية، من خلال تأويل القرآن وتعاليم النبي والأئمة، والإشراف على شؤونه المالية عبر جمع وتوزيع الهبات الدينية كالزكاة والخمس (الذي يمثل 20 % من أرباح المداخيل كافة)، لتصبح تلك الأدوار الإشرافية والإدارية، بحلول الوقت المناسب، مؤسسة عبر المفهوم المستنتج شرعياً لولاية الفقيه” (وصاية أو حكم الفقيه) ، التي ينحصر مداها بشدة في المجالات الروحية والشريعة الإسلامية المطبقة.

يشير حكم الفقيه”، في هذه المرحلة، إلى مسؤولية جماعية يمكن أن يشارك فيها عدد من “المجتهدين” المؤهلين بصورة جيدة، وقد كان مفهوماً باعتباره يمثل نوعاً من النيابة العامة عن الإمام الغائب، من دون أية إشارة خاصة “المختص” قائد في ما يتعلق بشؤون الدين. أدى عدم الوضوح هذا، في ما يتعلق بتحديد من يقود المجتمع، إلى الإضرار بحس الاستقلال والتوحد الديني للمجتمع، وبخاصة حين جاءت السلالات الشيعية، التي حكمت إيران منذ القرن السادس عشر، إلى السلطة.

تلاعب الحكام الشيعة بالقيادة الدينية لكي تدعم غاياتهم السياسية. لقد اتبع أولئك الحكام، علاوة على ذلك، في خطوة سياسية، سياسة الدولة السنية المتمثلة في تحجيم القيادة الدينية الشيعية، التي كانت مستقلة يوماً ما، وحصرها في منصب إداري معين رسمياً.

لم يخضع “المجتهدون” كافة لسياسة الدولة تلك. إذ تجسدت الطريقة الوحيدة للحفاظ على استقلالية القيادة الدينية في إبقاء المجتمع موالياً، بصورة مستقلة، للقادة الدينيين عبر توظيف تأويل جديد للمذاهب الشرعية، يلزم المؤمنين بتعيين قائدهم الديني لإكساب الشرعية لممارساتهم الدينية. مثل ذلك الوقت المناسب لمثل تلك الإصلاحات.

مركزة القيادة الدينية الشيعية

بدأت الإصلاحات عبر إجراءات تحديد ومركزة العالم الأكثر تأهيلاً، والقادر على ممارسة السلطة الشرعية تحت ظل “حكم الفقيه” في غياب آخر الأئمة. إن أرادت القيادة الدينية والمجتمع تجنب التأثير السلبي للحكام الشيعة، فسيكون من الضروري إيجاد آلية شرعية ما، تلزم عموم الشيعة بإعلان ولائهم “للمجتهد”.

أصبح الحكم الذي يلزم بتقليد “مرجع تقليد” مؤهلاً بصورة جيدة، بالتالي، جزءاً من الواجبات المفروضة دينياً على المؤمن”.(٩)
تم تلقين الشيعة، بناء عليه، أن ممارساتهم الدينية ستفتقد إلى الشرعية من دون القيام بذلك الواجب. وسمحت عملية التقليد هذه، بالنتيجة، “لمجتهدالشيعي معين بالظهور كقائد ديني أعلى من دون تدخل الحكام الشيعة.
مثلت الفرضية المتمحورة حول النيابة العامة للإمام الغائب حجر الزاوية لمؤسسة مرجع التقليل الناشئة التي لم تكن تجسد، وفق التصور الشعبي مجددا، أكثر من مجرد “سلطة شرعية عليا مقبولة للتقليد” تماثل “المرجعية”، التي ترمز إلى السلطة الدينية العليا في المجتمع الشيعي، بصورة عملية، المرجعية العائدة للإمام الغائب نفسه. كان ذلك الارتقاء بمنصب “المجتهد” حتمياً في المجتمع الذي أصبح يؤمن بأن الإمام الغائب يتصل على الدوام “بالمجتهدينالقادة، عاصماً إياهم من ارتكاب أخطاء في الحكم. لا يمكن التقليل من شأن تلك المعتقدات الشعبية في ما يتعلق بتأثيرها الإجمالي في تكوين الثقافة السياسية الشيعية في إيران.

يعد حس الولاء المتبادل، بالفعل، بين القائد الديني الحائز على الاعتراف الشعبي، وبين المجتمع أمراً فريداً يميز المسلمين الشيعة. لا أعتقد أن الثورة الإيرانية كانت لتتم على الإطلاق، في أواخر السبعينات من القرن المنصرم. لولا وجود مثل ذلك “الولاء للمرجع”.(١٠).

الهوامش

1- وضعت “الولاية”، في هذه الدراسة، ضمن سياق معناها الأشمل المتمثل في السلطة للحكم”، التي يمكن امتلاكها المرء من تولي منصب المسؤولية، ويمنحه الحق بالمطالبة بالطاعة استنادا إلى عوامل عقلية- شرعية، علاوة على أنها تعبر بكل الأحوال، عن “الوصاية” أيضا. هذا هو المعنى الذي تستخدم به في النصوص الشرعية، حيث تخول الشخص المؤهل لشغل منصب “الوصي” (الولي) ليتولى الوصاية على شخص أو ملكية (أو كليهما)، أو قاصر، أو مجنون، أو غيرهما من غير القادرين من الناحية القانونية على إدارة شؤونهم الخاصة.
2-
عبد العزيز عبد الحسين ساشيدينا، Islamic Messianism. The Idea of Mahdi in Twelvet Shi’ism (Albany: State University of New York, 1980). يبحث في ترقب الشيعة لقيام نظام عام مثالي بقيادة الإمام الأخير الغالب.
3-
عبدالعزيز ساشيدينا، Activist Shi’ism in Iran. Iraq, and Lebanono, in Fundamentalisms Observed (Chicago, University of Chicago Press, 1991), pp. 403-456.
4 –
نافشت بصورة مفصلة للغاية الأيديولوجيا الشيعية ومضامينها المتعلقة بالراديكالية الفاعلة أو السلطوية الأكثر هدوءاً للحركات الشيعية في التاريخ السلامي.
5 – Bernard Lewis, The Political Language of Islam (Chicago. University of Chicago Press, 1988

يناقش الفصل الخامس اللغة التي تم تطويرها من قبل الاستجابات الراديكالية والأكثر هدوءاً للظلم في الدولة الإسلامية.
عبد العزيز ساشيدينا،
The Just Ruler in Shi’ite Islam. The Comprehensive Authority of the Jurist in the Imamte Jurisprudence (New York: Oxford University Press, 1988).
ربطت المذاهب اللاهوتية بالتطور في الفقه الشيعي.
6-
أدت ضرورة “التقليد” إلى زيادة تأثير “المجتهدين” البارزين في المجتمع. إلى الحد الذي جعل من “مرجع التقليد”، وفق المعتقد الشعبي لجماهير الشيعة، نائباً للإمام المعصوم، ومشاركاً للأخير في عصمته حين يتحذ أي قرار في ما يتعلق بالشؤون الدينية. أسهم ذلك التقييم الشعبي لوظيفة “المجتهد، بالتأكيد، في إيجاد مقاربة غير نقدية لصلة المؤسسة العملية بالواقعي في العصور الحديثة. استشرف الأئمة أنفسهم، كما تبدو الحال عليه، الخطر الناتج عن التأثير المتنامي لبعض من نوابهم، وحذروا المجتمع من الوقوع ضحية للتقديس المبالغ فيه لمن يلقنون تعاليمهم. انظر: -The Just Ruler p. 211-13
7 -Chibli mallet, the renewal of Islamic law. Muhammad baker as-Sadr, Najaf and the Shi,i International ( cambridge:
Cambridge university press,1993),p.44
8-
تستمد تلك المتطلبات الثلاثة “للمجتهد” من المصادر الفقهية التي تعين مؤهلات الأشخاص الذين يشغلون ذلك المنصبه، يستلزم “الإيمان” الراسخ، في المذهب الشيعي. التمسك بإمامة الائمة الاثنى عشر، ويتطلب “العلم” الوافر امتلاك المعرفة الكبيرة بتعاليم الأئمة. أما “الشخصية” المتميزة فتتمحور حول الاستقامة الأخلاقية المطلوبة من كل من يؤمون المصلين. ويعملون قضاة، أو يدلون بشهاداتهم. إلخ.
9-
أبو القاسم الخوئي، المسائل المنتخبة: العبادات والمعاملات بيروت: دار الأندلس 1971، ص 2.
10-
يجسد حسن الولاء للأئمة سمة مميزة “للتشيع”، الذي يمثل الشكل الأولي للمذهب الذي قام على الولاء علي بن أبي طالب، أو”الولاء العلوي”، وفق تعبير ام. جي. اس هودجسون لوصف ذلك الشكل الأولي، في: Wenture of Islam (Chicago. University of Cicago fress, 1974), Wol. I, p. 260. وسعت من نطاق التعبير ليشمل “المجتهدين”، استناداً إلى أنهم يعبرون نواباً عامين لآخر الأئمة، بمعنى المشاركة في قيادة المجتمع. والولاء عبر “التقليد”.

 

مصدر المقالة: الكتاب 35 من اصدارات مركز المسبار للدراسات و البحوث . مقالة بعنوان: طبیعة حكم الفقيه في ايران. عبدالعزيز ساشيدينا

الاجتهاد