قد تبين لنا من خلال عرضنا لموضوع بحثنا ( بنوك لبن الرضاع بين الحظر والإباحة – دراسة فقهية مقارنة – ) الآتي:
أولاً : أهمية الرضاعة الطبيعية للطفل، نظراً لاحتواء اللبن على جميع العناصر الغذائية المناسبة للرضيع ، مع ملاحظة أن تركيب هذا اللبن يتغير تدريجياً مع نمو الطفل بما يتماشى مع حاجة جسمه للنمو ، ومن ثم فإن اللبن الطبيعي يُعدُّ لقاحاً قوياً لا غنى للطفل عنه .
ثانياً : اختلف الفقهاء في تحديد مفهوم الرضاع الذي ينشر الحرمة بين الرضيع والمرضعة على اتجاهين :
الاتجاه الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية والإباضية إلى أنَّ العبرة في التحريم بالرضاع في وصول اللبن إلى جوف الرضيع بأيَّة كيفية سواء عن طريق مص الثدي أو بأيَّة وسيلة يصل فيها اللبن إلى جوف الطفل الرضيع .
الاتجاه الثاني: يرى الظاهرية والإمامية وبعض المعاصرين أنَّ الرضاع المحرم هو ما كان عن طريق المص من ثدي المرضعة لا غير ، وما عدا ذلك لا يُسمى رضاعاً ، ولا يثبت به التحريم .
ثالثاً: يترتب على الرضاع بين الطفل والمرضعة التحريم بينهما حيث أنَّها تُصبح أمَّاً له ، وهو يصبح ابنها ، وزوجها أباً له ، …إلخ ؛ لقوله (r) : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » .
رابعاً : اختلف الفقهاء في مقدار الرضاع الذي يثبت به التحريم وفقاً لفهمهم للأدلة التي يستنون إليها.
فذهب كلٌّ من الأحناف والمالكية وقول للإمام أحمد والإباضية إلى أنَّ الحرمة تثبت بالرضعة الواحدة .
كما ذهب الشافعية والحنابلة في الصحيح من مذهبهم والظاهرية والزيدية إلى أنَّ التحريم بالرضاع لا يثبت إلَّا بخمس رضعات متفرقات فأكثر .
كما ذهب قسم من الفقهاء إلى أنَّ مقدار الرضاع المحرم هو ما كان ثلاث رضعات فأكثر .وذهب الإمامية إلى أنَّ التحريم لا يثبت إلَّا بعشر رضعات ، كما ذهب طائفة من فقهاء الحنفية والمالكية والإمام أحمد في رواية والإباضية إلى ثبوت التحريم بالراضع مطلقاً .
خامساً : يجوز بيع وهبة لبن الآدميات لشخص معين ،، وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء .
سادساً : إنَّ فكرة إنشاء بنوك لبن الرضاع قد ظهرت في الآونة الأخيرة في النصف الثاني من القرن العشرين ، وذلك بعدما انتشرت بنوك مناظرة للدم وغيره من السوائل البشرية.ولم يكن القصد من إنشاء مثل هذه البنوك هو تحقيق النفع للناس والتيسير عليهم ؛ لأنَّ هذه البنوك من البدع والمحدثات العلمية التي في ظاهرها الرحمة وفي باطنها إدخال اللبس والشك في قلوب الناس ؛ وذلك لأنَّ المبتدعين لهذه الفكرة يصرون على فرضها على المجتمعات الإسلامية النامية في حين لا تمثل هذه الفكرة أية أهمية في تلك المجتمعات الإسلامية ؛ لأنَّ الأم إذا كانت مريضة أو عاجزة من إرضاع طفلها ، أو كان الطفل يتيماً فإنَّه يوجد من يقوم بإرضاعه تطوعاً.
وقد رتب الشارع عن توافر شروط معينة للحرمة بين الرضيع ومن أرضعته ، فتصير أمّاً له من الرضاع ، وتصير أخواتها خالاته ، وأشقاؤها أخواله ، ووالدها جده ، وأبناؤها إخوته وأخواته ، كما يصير زوجها أباً له .
ومن هذا يتبين لنا سوء نية أصحاب هذه الفكرة ، حيث يصرون على نشرها في المجتمعات الإسلامية بهدف التشكيك في مسائل عقائدية ترتبط بالمسلمين ، ولها أثر جوهري في الحكم بتحريم النكاح من بعض النساء .
سابعاً: اختلف الفقهاء المعاصرين في جواز إنشاء مثل هذه البنوك ، فقد أجاز بعض الفقهاء المحدثين إنشاء مثل هذه البنوك في البلاد الإسلامية مستندين في ذلك إلى بعض المبررات ،
وهي :
أ. أنَّ اللبن المنفصل عن ثدي المرأة لا يحرم ؛ لأنَّ شربه وتناوله لا يُسمى رضاعاً ، فالرضاع هو المص من الثدي فقط ، وقد نوقش هذا القول بأنَّ جمهور الفقهاء عرَّفوا الرضاع بأنَّه اسمٌ لحصول لبن امرأةٍ في جوف الصغير ، أي أنَّهم يعتمدون في نشر الحرمة بالرضاع على وصول لبن الرضاع إلى معدة الصغير سواء كان اللبن متصلاً بثدي المرأة أو منفصلاً ؛ لأنَّ أساس التحريم هو وصول اللبن إلى جوف الصغير ، وهو ما أنشز العظم وأنبت اللحم .
ب. وذهب فريق آخر من المعاصرين إلى القول بحرمة هذه البنوك ؛ لأنَّ مبناها على الجهالة ، بحيث لا يعرف الطفل ممن رضع ومن هم إخوته من الرضاعة ، وهذا ما يؤدي إلى اختلاط الأنساب ، فربما يتزوج الطفل بأخته من الرضاعة ، وهذا ما تم تحريمه .
وأخيراً ذكر الأضرار الناتجة عن إنشاء مثل هذه البنوك من انتهاك حرمة الله تعالى، وإهدار كرامة المرضعات ، وفساد الأخلاق ، وانتشار العدوى ، واختلاط الأنساب، والاطلاع على عورات النساء بلا ضرورة ، إلى غير ذلك من الأضرار الصحية والاجتماعية التي تلحق بالأم والطفل.
وإذا ادَّعى البعض أنَّ إنشاء مثل هذه البنوك فيه مصلحة للأطفال، فإنَّ درء هذه المفاسد مقدم في الشرع على جلب هذه المصالح الموهومة ، وبما أن المشرع العراقي لم يتطرق في قانونه إلى فكرة إنشاء بنوك الحليب ، نطالبه بسن قانون يمنع إنشاء هذه البنوك ، لأنها تؤدي إلى اختلاط الأنساب .
وأخيراً : إنَّ كل عمل بشري لابد أن يوجد فيه من النقص والهفوات التي يسبق إليها القلم أو يزل عنها الفكر ، فإن أكن أحسنت فمن الله ، وإن أكن أسأت فمن نفسي والشيطان ، أسأل الله العظيم أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم إنَّه على كلِّ شيءٍ قدير وبالإجابة جدير .
المصدر: مجلة كلية القانون للعلوم القانونية والسياسية./ جامعة كركوك / المجلد:6 العدد:22 الجزء الاول / السنة: 2017 – الصفحات: 338-399 / الاجتهاد
بقلم: أ .م .د. عبيد عبد الله عبد